كرست نتائج الانتخابات العراقية سلوكاً ونمطاً لدى الناخبين كان قد طفا على المشهد السياسي فور سقوط النظام السابق بزعامة الرئيس الراحل صدام حسين. والمظهر الأبرز لهذا السلوك هو الاستقطاب الطائفي والمذهبي والإثني. وعكس ما يشيع بعض المتابعين من ان هذه الانتخابات شكلت «نقلة نوعية» في وعي الناخبين الذين «أنزلوا الهزيمة بالمشاريع الطائفية» باقتراعهم ل «القوائم الوطنية»، وأن العراقيين بدأوا يتحولون عن القوى الدينية أو الطائفية أو العنصرية الى العلمانية، فإن نظرة بسيطة الى نتائج الانتخابات تنفي هذه الاستنتاجات. والتطور الوحيد الذي حصل في هذه الانتخابات هو التنافس داخل «المكون الواحد» أكثر منه تنافساً بين المكونات المختلفة، أي التنافس الداخلي بين الشيعة أنفسهم، كما بين السنّة والأكراد. فالنتائج المعلنة حتى الآن لنحو 95 في المئة من الأصوات توضح ان القوى الأساسية التي أحرزت أعلى الأصوات هي «الحركة الوطنية العراقية»، و «ائتلاف دولة القانون» و «الائتلاف الوطني العراقي»، فضلاً عن «التحالف الكردستاني». ومن المعروف ان «دولة القانون» و «الائتلاف الوطني»، اللذين سيفوزان بنحو نصف مقاعد البرلمان، يضمان قوى خرجت من رحم «الائتلاف الوطني العراقي»، أي معظم القوى الشيعية الاسلامية. وهذه النتيجة نفسها تقريباً التي حققها «الائتلاف الموحد» في انتخابات 2005. وأما قائمة «العراقية» التي يعتبر البعض تقدمها ومنافستها «دولة القانون» مغادرة للاستقطاب الطائفي باتجاه الخيارات الوطنية والعلمانية، فتحمل تبسيطاً كبيراً. يؤكد تقدم «العراقية» ان عوامله لا تعود بالضرورة الى «علمانية» القائمة أو «وطنيتها». فإذا كانت «دولة القانون» و «الائتلاف الوطني» ضمتا القوى الشيعية نفسها التي تشكل منها «الائتلاف الموحد» في انتخابات 2005، فإن «العراقية» ضمت أبرز القوى والكتل السنية ك «الجبهة العراقية للحوار الوطني» برئاسة صالح المطلك وقائمة «تجديد» بزعامة نائب رئيس الوزراء طارق الهاشمي، وتجمع «عراقيون»(اسامة النجيفي) ونائب رئيس الوزراء السابق سلام الزوبعي وغيرهم. واستند البعض في تحليله إلى تقدم الوطنية والعلمانية وهزيمة الطائفية في الانتخابات الأخيرة على طبيعة القوى التي تتشكل منها القوائم، فجرى اتهام «ائتلاف دولة القانون» وحكومة رئيس الوزراء نوري المالكي بالطائفية بسبب رئاسة «حزب الدعوة الاسلامية»، وهو حزب اسلامي شيعي. لكن تم التغاضي عن أمر أساسي وهو ان الحكومة العراقية مؤلفة من أحزاب وقوى مختلفة، سنية وشيعية وكردية، بغض النظر عن الخلل في آليات الحكم الذي تشوبه بالتأكيد نواقص. كما جرى التغاضي عن الخلافات حتى بين المكون الواحد (الشيعي مثلاً) بين «دولة القانون» و «الائتلاف الوطني» (على الفيديرالية مثلاً) كما بين المالكي والأكراد (موازنة الاقليم والبيشمركة والعقود النفطية والمناطق المتنازع عليها)، الأمر الذي يوضح ان أسباب الخلافات سياسية الى حد كبير وليست طائفية. كما ان بعض المتابعين اعتبر تقدم قائمة المالكي في انتخابات مجالس المحافظات مطلع العام الماضي تحولاً في اتجاهات الناخب (الشيعي خصوصاً) باتجاه الخيارات الوطنية والابتعاد من الخطابات الطائفية الى حد ما. وعلى رغم ذلك، يلاحظ ان هذا التحول لدى الناخب الشيعي (كما لدى غيره) لم يتعد حدود المكون الواحد، إذ لم نشهد أي تغيير في الاقتراع عابر للطوائف يعتد به. والتغيير الذي حصل هو تكريس تقدم «ائتلاف دولة القانون» بزعامة المالكي على «الائتلاف الوطني» من جهة، وتقدم التيار الصدري في «الائتلاف الوطني» على «المجلس الاسلامي الأعلى» من جهة ثانية، وبروز قائمة «تغيير» الكردية المنافسة للحزبين الكرديين الرئيسيين. أما بالنسبة الى «العراقية» وأسباب تقدمها فمتعددة. وعلى رغم اعتبار رئيسها اياد علاوي علمانياً لكن القائمة ضمت أبرز القوى السنية، باستثناء «الحزب الاسلامي» الذي غادره الهاشمي وباتت حظوظه ضعيفة. فاصطفاف كتل المطلك والنجيفي والزوبعي، إضافة الى الهاشمي، خلف شعارات لا تخلو من طائفية ينزع أي صفة علمانية عن «العراقية». على ان الملاحظة الأهم هي ان معظم الذين صوتوا ل «العراقية» هم من المحافظات الشمالية والغربية وقسم من الجانب الغربي من بغداد، أي الناخبون السنّة عموماً، وبعض النخب المهددة بالاقصاء بذريعة ولائها للنظام السابق (البعثي)، ولم تلعب علمانية علاوي دوراً مهماً في خيار الناخبين، لأن الكيانات الأساسية التي تتألف منها «العراقية» سنية وتعتبر نفسها منافساً للتحالفات التي تضم أبرز المكونات الشيعية ك «دولة القانون» و «الائتلاف الموحد». لهذا السبب لم تستطع «العراقية» تحقيق فوز يذكر في محافظات الوسط والجنوب الشيعية، تماماً كما لم تستطع قائمتا «دولة القانون» و «الائتلاف الوطني» الشيعيتان تحقيق أي فوز يعتد به في المحافظات الغربية والشمالية السنية. ولا يفوتنا ان نذكر أيضاً التحول داخل المكون الكردي، حيث برزت حركة «التغيير» مقابل «التحالف الكردستاني» الذي ضم الحزبين البارزين «الاتحاد الكردستاني» بزعامة طالباني و «الحزب الديموقراطي» بزعامة مسعود بارزاني. وفي المحصلة، واستناداً الى هذه النتائج، يبدو واضحاً ان الاقتراع جرى في كل المحافظات وفق الانتماءات الطائفية والعرقية في شكل أساسي، كما أبرزت استمرار تقدم الأحزاب الدينية والعرقية، ولم تستطع أي كتلة كبيرة فائزة ان تقدم نفسها على انها تمثل كل مكونات الشعب العراقي. وعلى رغم ذلك، يسجل أمران ايجابيان: الأول التزام العراقيين الاحتكام الى صندوق الاقتراع لتداول السلطة سلمياً، وثانياً اعتبار التحول المحدود داخل المكون الواحد تطوراً باتجاه توسيع خيارات الناخب الى خارج المكون وفق برامج انتخابية جدية قد تتبلور من خلال تشكيل قوى عابرة للطوائف والإثنيات أولاً.