لم ينفك طالب الرفاعي، منذ صدور روايته الأولى"ظلُّ الشمس"دار شرقيات، القاهرة، 1998 يثابر على ارتكاب مغامرات روائية جسورة، يقترفها بكامل وعيه وإصراره على"اجتياز بوابة السحر ليطأ أرض الفن"، ويُعمّرُها بمبان سردية تخرج عن مألوف الروايات الخليجية تحديداً، طامحاً إلى ابتكار نهج روائي غير مسبوق. وهو ينحتُ خصوصيته من خصوصيّة المحيط الجغرافي/ الاجتماعي. ليس بالمعنى الذي يعزله أو يحيّده محليّاً، أو يضيّق بعده الإنساني، بل بما يقلّده مرجعية مُلهمة لما قد يجاوزه مكانياً واجتماعياً. في روايته"الثوب"الصادرة حديثاً عن دار المدى تبرز"وراثة الخسارة"، على صعيد الفرد والجماعة والمجتمع، وهي تُخيف الرفاعي وتستفزُّ شياطينه الكتابية وتؤرق عينه الرائية، ترصد التشوهات والرذائل، وتكشف الحجب عن بؤر القبح والظلام، تعاين العوارض المستشرية والأعطاب المتراكمة وتشخِّص الأسباب مستشرفةً خواتيم خسارات باهظة، تتمشهد نذائرها بمقدار ما تتمشهد سبل الخلاص منها في نصوص سردية صادمة وشرسة تُعرِّض وتدين وتندِّد بما يؤرّق الرفاعي ويخيفه على كويت حبيبة ومهدَّدة ما عادت هي نفسها الأرض السخيّة، الجامعة مذ أفسحت للفاسدين المفسدين، لصوص الحق والحياة وحراس العتمة والصمت. يخشى عليها طالب من تناقض وجهيها"فخلف القصور الفخمة وصور الحياة المشرقة لحياة الرفاه والدعة والسعادة، ثمة وجه آخر لحياة رثة، شاحبة وبائسة"الثوب/17. وفي شراستها اللافتة تجهر نصوص الرفاعي بالمحظور والمسكوت عنه ساخرةً من مسلّمات القوة وأحكام الضرورة. وفي هذا وذاك تسرد عن تجارب حياة مبتلاة بالعناء. يستدرجها طالب من واقعها الحقيقي ليوطد انطلاقاً منها، قدرة سردياته الروائية على الانحراف عن الواقع المعطوب باختراقات تخلخله وتزيح بداهاته، وتعيد تشكيله إنسانياً واجتماعياً وثقافياً ببراعة تخيليّة ماكرة توهم بواقعية تتفوَّق على الواقع نفسه لتجعل من التخييل مقابلاً للحياة ذاتها. وهذا ما يحوّل روايات الرفاعي، من جهة أولى، إلى تمارين تأهيلية تُسعف المهمّشين والمقموعين والضعفاء المستلبين، على الفكاك من القيد الكابت والتبعيَّة القهريَّة والارتهان المُهين، والشفاء من أعراض الخوف المستبد. ويصيّرها من جهة مقابلة، شكلاً من أشكال التمرّد والتحدي، في مواجهة إملاءات القوة والضرورة، حتى لو كلّف ذلك اقتحام حقول مفخَّخة بالألغام، فالسكوت عن الاستبداد ? أياً يكن وجهه ? يدعم الاعتقاد بالباطل، فضلاً عن"أن الكتابة مخاطرة بدءاً ومنتهى. سأكتب الرواية الفضيحة ولن ألتفت إلى أحد". هذا ما يقوله طالب، في الصفحة الأخيرة من"الثوب"، روايته الرابعة، مجازفاً بكتابة محفوفة بالمخاطر، ضارباً عرض الحائط بكل المحاذير والتبعات المحتملة، منتصراً للهاجس الحقيقي الوحيد الذي"تصغر أمامه كل الهواجس"الثوب على ما يقول"عليان"الذي هو"سرّ طالب. روحه توارث في جسده لحظة الولادة. هو نفسٌ تحيا فيه، تُقاسمه خفق قلبه ومشاعره وتعيش لحظاته... أمُّه في لحظاتها الأخيرة، نادت عليه: عليان"الثوب/69. وها هو طالب يستجيب لصوت الرحم الذي حدس بملكته الروائية، ويكتب كرمى للأمّ انساناً وأرضاً. دلالات الثوب وللثوب في اللغة أكثر من دلالة، فهو لباس يشمل البدن فيُشْمَلُ صاحبه إما بالذّل والضعة، أو بنقيضهما كبراً ورفعة. والعرب تكني بالثياب عن النفس والقلب. فيقالُ: فلان دَنِسُ الثوب أي خبيث الفعل والمذهب. وفلان نظيف الثوب أي طاهر القلب بريء النفس من العيب اللسان. كذلك للثوب أن يكون معادلاً موضوعياً لمقام الشخص أو لمكانته بين قومه. ثم إنه خير ما يرمز إلى السمعة بمختلف نواحيها. على ذلك ينطوي الثوب في الرواية على رؤية الذَّات إلى ذاتها بعين الذَّات وعين الآخر، ترتسم صورتها على هدي ما تستعيده من تشكُّلها النفسي والاجتماعي، نشأة وتحولاً وفي القبول والرفض والعزة والخزي من خلال بوح شفهي أقرب ما يكون إلى الاستذكار أو الاعتراف، تنساق إليه الذَّات القلقة المتجاذبة بين الريبة والإيمان بحقيقتها، في رغبة جامحة للتخفُّف من ثقل تنوء بحمله، يُفرغه رجل الأعمال الكويتي الذائع الصيت خالد خليفة في خلوات تجمع بينه وبين الروائي طالب الرفاعي المكلَّف بكتابة سيرة حياة خالد، ابن البيئة الفقيرة المتزوج من عواطف، ربيبة إحدى أكثر الطبقات الاجتماعية ثراءً في الكويت. زواج متهوم بشُبهة الصفقة، راكم الزوج خلاله ثروة طائلة وشهرة عمليَّة واسعة، لكنه لم يُشف من عقدة النشأة الأولى. ظلّت ربقتها تلازمه مثل وسواس لعين عملت الزوجة على إنعاشه كلما راود النسيانُ الزوج الذي تهيّأ له أن سرداً روائياً مأجوراً لسيرة حياته قد يدفع عنه الأقاويل والافتراءات، ويكمّ الألسن المشككة بنجاحه تردّ الفضل فيه إلى صفقة الزواج من عواطف. وقد دامت علاقته بها مشحونة بالتناقضات والخلافات قبل أن تؤول إلى هجر وفراق آلما الزوج المحاصر بالإشاعات، المتأرجح بين السكوت عن الحقيقة على مضض وبين إشهارها على الملأ، ليُثْبِت للجميع أن الكفاءة الشخصية والجدارة العملية ما أوصلاه إلى حيث وصل. كشف الحقيقة إذاً شكّل المسوغ الرئيس للبوح الشفهي الذي أصرّ خليفة على أن ينأى به عن الخصوصيات الحميمة ويُبقيه محصوراً ضمن نطاق التجربة العملية، بذريعة الحرص على سمعة عواطف وعائلتها التي يدين لها بالفضل. وهذا ما يُبقى في نظر الرفاعي على وجه من وجوه الحقيقة متوارياً ومشمولاً بثوب يحجبُ ما يستحيل على الرواية أن تكتمل من دونه. إنها الرواية الورطة التي توقع به في فخ الغواية، ينزلق إليها ويوافق على كتابتها لقاء مبلغ كبير من المال يُعينه على تسوية ضائقته المادية. على هذا تتوالى خمس جلسات استماع بين الروائي والتاجر، على امتداد عشرة فصول، وتتخللها انقطاعات يُغطِّيها الرفاعي بسرد تفاصيل تتصل بحياته العائلية الواقعية وانشغالاته اليومية وهواجسه الذاتيَّة على غرار ما فعل في"سمر كلمات"، أو بمتابعة الخلاف الزوجي المحتدم بين ابن أخيه عدنان وزوجته بدور، وسعيه للتوفيق بينهما، في تعريج غايتُهُ التعريض بأزمة العلاقات الزوجية حين يمتنع الطرفان عن الالتزام بعقد التواد والتفاهم والشراكة المسؤولة، ويتنكران لواجب رعاية الطفولة المهدّدة بالحرمان وفقدان الأمن النفسي والاستقرار العاطفي، في ظلّ انفصال الأبوين المتماديين في أنوية عمياء تؤججها، من جهة الزوج، لوثة المغامرات الجنسية، وسموم الشك والغيرة المستبدة بالزوجة. كان للجلسات الخمس أن تُسْتَتبعَ بخمس أخر محدَّدة مسبقاً، ليستكمل رجل الأعمال ما بدأه في تعرية الذَّات على مسمع من طالب الذي راهن في سره على انكشاف الحقيقة بتمامها، على المستوى الخاص والعام، ليقيَّض لروايته أن تستوفي شرط اكتمالها، لو لم يُصبْ التاجر بأزمة قلبية مفاجئة وينقل على أثرها إلى المستشفى. الأمر الذي يتجه بالرواية إلى مسار آخر ويعقد الأمور، ويوقع طالب في البلبلة. فالمادة التسجيلية التي بحوزته لا تغطي شيئاً من تجربة التاجر في السوق ومن دونها ما كان للتكليف أن يتم في الأصل، ولا لجلسات الاستماع أن تقوم. وخلالها لم يُطلعه خليفة سوى على جوانب من حياته وعلاقته بزوجته وعائلتها، تسلّلت إليها بتدبير من الصدفة وحدها، خصوصياتٌ فاضحة انكشفت من دون رغبة صاحبها في الكشف. فالزوجة عواطف الغاضبة ظهرت محتجَّة مهددة ومشهرة سلاح المال والنفوذ العائلي لتمنع طالب من كتابة الرواية الفضيحة دفاعاً عن سمعة الباطل. ولطالما تصدّى له الرفاعي، بما هو أفتك وأشد قضاءً. فالكتابة في عرفه سلاح مواجهة تنكفئ حياله كل المحاذير. دهشة الواقع أما الفوارقية الطبقية والاجتماعية، فتبرز بوضوح، وبموجبها"يحمل الواحد وشم طبقته حتى الموت، ويبقى أصله الوضيع يلاحقه مثل لعنة لا فكاك منها حتى ولو ارتقى سلالم النجاح والثروة فالزيت لا يمكن أن يمتزج بالماء، تماماً كما لا يمكن للبيسري على أي مستوى من المستويات، أن يتساوى والأصيل، ما يكرّس فرزاً فئوياً عنصرياً يُفقد الذات المبتلاة بوصمة النشأة الفقيرة سويَّتها الوجودية وتوازنها النفسي واعتبارها الذاتي. ويخلّف في وجدانها ندوباً نازفة غير قابلة للشفاء. تطرح"الثوب"ما نحسبه الهاجس الأكثر لجاجة، والسؤال المضمر المتكرِّر في سائر نصوص الرفاعي المفتونة بلذة الكتابة، وكلها تؤرشف لواقع بديل ومشتهى، مهجّنٌ بالواقع يؤتى به مرجعيةً موثَّقة بجغرافيا المكان، وبالهويات الاسمية الصريحة للكاتب مصحوباً بأهله، ولبعض الأصدقاء الحقيقيين، يتدبَّر لهم طالب ألفة العيش بين سكان"الثوب". ولا يكتفي، بل يُمعن في ابتكار أساليب أخرى تتيح لعملية التهجين أن تنجز وظيفة استبدال الواقع بواقع ينقضه عبر الانتقال بأبطال الروايات السابقة "سمر كلمات" إلى عالم النص الجديد"الثوب"ليتابعوا فيه ما استجدّ عليهم من حالات وأحوال. لكأن طالب يرفق بوجودهم وبقائهم، يرعاهم ويخشى عليهم من شتات روائي يذهب بذاكرتهم وذكراهم، ويطيح بما حققوه من خطوات متقدمة وأنجزوه من اختراقات شجاعة تؤسِّس مفاهيم إنسانية واجتماعية وثقافية مغايرة. وهذه تتراكم رواية تلو رواية لتحقِّق مراد طالب في تحويل الحياة إلى سرديات يتولاها بضمير الآن وبلسان المؤلف، بصفته الذَّات التي تُبدع النص وتعيد فيه إبداع ذاتها. سرديات جديرة بأن تروى وأن تُعاش كما لو أنها الحياة نفسها ماثلة بمختلف تناقضاتها وتعقيداتها وأزماتها وتقلباتها وتحولاتها وانفراجاتها. وهي يُعاد صوغها سردياً، كي يمكن الذَّات الكاتبة أو القارئة، أن تعيد النظر في علاقتها بذاتها وبالعالم، بما يسعفها على اكتشاف أهوائها الحقيقية التي يُعزى إليها الدَّافع إلى إبداع نصوص متفلِّته من مسلَّمات الوجوب واللزوم، ومن قيد المحظور واللامعقول. وهي مسكونة في المقام الأول، بوسواس الخصوصية من حيث هي هوية فردية وجماعية، يستعين طالب على إثباتها، بتجاوز حاجز التجنيس الأدبي لينحت جنساً تتخالط فيه فنون الرواية، والسيرة الذاتية والسيرة الروائية وأدب المذكَّرات والاعترافات، بأسلوب يُموِّه الواقع بالخيال فيتجاوران تجاور الشيء المتماهي بمثاله المشتهى، يُقيم بينهما التباساً ينطلق من الرغبة في كتابة الواقع.