نطوي الصفحة الأخيرة من رواية طالب الرفاعي"سمر كلمات"الصادرة حديثاً عن دار المدى للثقافة والنشر 2006، ويتخاطر لنا بالطبع بعض ما حفظناه من كونديرا، وبول أوستر وماركيز حول سطوة الكتابة وهواجسها، وتواطؤ الوعي واللاوعي فيها، وسوى ذلك من مغاليق وأسرار تبقيها محل انشغال وتفكُّر للمهتمين بكتابة الرواية أو الكتابة عنها. إلاَّ أنَّنا نمضي مباشرة إلى السؤال الذي دام يراودنا، على مدار الفصول العشرة التي بنيت عليها"سمر كلمات"، والتي توزَّعتها بالتناوب سبعة أصوات نسائية ورجاليَّة، من ضمنها صوت الكاتب باسمه الصريح، وبضميره المتكلم: ما الذي يحمل الروائي إلى المجازفة بإعلان هويته الإسمية والمهنيَّة والإجتماعية، علماً بأنَّ له سابقة تشهد عليه بمثل هذا التجريب في أولى رواياته"ظلَّ الشمس"دار شرقيات 1998؟ هل هو هاجس الشكل يبتكر لنفسه صورة تتناغم مع جرأة المضمون؟ أم أن هاجس المضمون يطعن في كلِّ السائد، بما في ذلك نمطية الأشكال؟ وإلى أيّ مدىً يُحيي هذا التدخل السافر واقع الرواية أو يُغنيه ويضيف إليه لا سيَّما أنَّ المؤلف يؤمُّ النص بثوب العاشق، حيث للعشق أكثر من دلالة؟ لا مراء بأنَّ طالب الرفاعي يخوض في ثالث رواياته"سمر كلمات"مغامرة جسورة وغير مسبوقة، سواءً على مستوى الشكل الذي أتقن الكاتب ملء فراغاته ببراعة هندسية لافتة، تنسجم مع الإيقاع الزمني للسرد الذي يتكثَّف في نحو عشرين دقيقة، متقاطعاً مع تقاسيم الأمكنة، تلتقي وتتفرَّع، تنعطف وتفترق، في هدي إشارات المرور التي تتوزع الشوارع الكويتيَّة، تختلج أضواؤها المتقلِّبة بما يلمح إلى ما يعتور النفس من تقلُّبات بين حالات التردُّد والاستعجال، الإقبال والإحجام، التوقُّع، القلق والإنتظار، أما على مستوى المضمون فهو تفلت من رقابة الخوف أو الحذر، إذا ما التفتنا إلى وعورة الموضوعات التي اجترأ الرفاعي مواجهتها، مجاهراً بما لم يجسر على الجهر به من قبل أي روائي كويتي، على ذمَّة الذاكرة. في مرحلة التخطيط والإعداد للرواية، على ما ورد في"سمر كلمات"يحدِّد الرفاعي الحكاية الرئيسة، ويرسم الشخصيات الأساسية، ويعدُّ ورقة بملامح أو دور كلِّ شخصية: سمر المرأة العصرية المطلَّقة، سليمان الرجل الأرمل المثقف والثري، تربطهما علاقة عاطفية حرَّة تدوم سنوات طويلة، يتساكنان خلالها من غير زواج، عبير الدكتورة الجامعية وشقيقة سمر، تعيش بعد زواج حافل بالخلافات والصراعات أزمة الإنفصال عن زوجها رجل الأمن جاسم الذي يقع في حبِّ سمر ويقنعها بالزواج منه بعد طلاقه من شقيقتها. لكن مخطط الكاتب يصطدم بشيء ما يربكه ويعوِّقه، شيء غامض يشوش عليه كلما جلس إلى الكتابة، يشعره بانقباض وبدوار ثقيل، يتعكَّر مزاجه بلا سبب ويتململ متأفّفاً بإستمرار. يشعر كأنه يتوقَّع لقاء مؤجلاً، أو يستعجل وصول هاتف أو رسالة لا يعرف مصدرها. "بداية الكتابة صعبة دائماً يقول الروائي في تسويغ ما يحصل له. لكنه يدرك في سر نفسه أنَّ لقلقه وتوتره منشأً آخر يتعلّق بذلك الهاجس السري الذي يشغل عليه كلَّ تفكيره:"ماذا لو دخل شخصياً في علاقة عاطفية مع إحدى بطلاته؟"هكذا يستوحي من البرازيلي"ارنستو ساباتو"وجهاً من وجوه العلاقة الفانتازية التي قد تقوم بين الكاتب وشخصياته الروائية. تتملكه الفكرة وتستبدُّ به فينساق إليها مدفوعاً برغبة في التجريب، ليبني على خلفيتها عالماً إفتراضياً هو مزيج من واقع وتخييل، تنضمُّ إليه"ريم"البطلة المعشوقة التي يخترعها طالب الحقيقي لتكون صديقة حميمة لسمر. عبرها ينعقدُ اللقاء المتوقَّع الذي لم يعد مؤجلاً. بعده يوغل طالب في غابة السرد، ليصير المتخَّيل واقعاً ممكناً يوازي في إيهاماته الواقع الحقيقي، لكن بما يقوِّض بنيان هذا الأخير ويخلخل ثوابته القيمية التي تستضعف الكائن في مجتمعات القهر والعنف والقمع، وتصادر حريته وحقَّه في الإختيار. وإذ يستكمل طالب الرفاعي في"سمر كلمات"ما باشره في ظلِّ الشمس من تجربة الحضور الشخصي السافر، مسقطاً عن الكاتب الروائي كلَّ التحفُّظات بالتزام الحياد، والتنحّي خارج النص، معلناً العصيان على تقنيات التواري خلف هذه الشخصية أو تلك، متورطاً بقصدية واعية، في عيش روائي حقيقي لا لبس فيه، يتيح له مساكنة أبطاله، ومتابعتهم عن قرب، يجالسهم ويمضي بصحبتهم أوقاتاً حميمة، يجادلهم في شؤون تخصُّهم أو ينذر بعضهم بعواقب أفعالهم متى كذبوا أو لفقوا. لكنه لا يمنعهم عنها بالقسر أو القوة، يدعهم لمصائرهم يكتبونها وفق مشيئتهم، ويروح يصغي إلى هواجسهم وكأنها هواجسه التي تصدر عنه. وإذ يسلك الرفاعي مسلك أبطال الروايات، يقيم في روايته كواحد من سكانها، يحلُّ بينهم مصحوباً بأهل حقيقيين شروق/زوجته، وفرح/ابنته محاطاً بأصدقاء إفتراضيين سمر وسليمان مجاوراً بعض من يعرف عنهم أو يتعرَّف إليهم بالتواتر عبير، جاسم، دلال، ابو خليفة.... يتحول النصُّ الروائي على هذا النحو إلى عالم أليف تنبض فيه الكويت جغرافياً وبشرياً وإجتماعياً، يحملها طالب في قلبه، ويحوطها بحب كبير مشوب بنقمة يدفع إليها الحبّ، لذا يصدق الرفاعي كويته، فلا يجاملها أو يهادنها، بل يساررها بما ينقمه ويوجعه منها. في هذا المعنى تبدو"سمر كلمات"في وجه من الوجوه، أشبه بمبضعٍ حادٍ يجرح حيث يرصدُ أعطاباً، يُسمّيها طالب عطباً تلو الآخر، ثم يُمعن فيها مبضعه ببلاغة سردية لا تتحرَّج من تتفيه النظام الإجتماعي"الفوارقي"الأصيل والبيسري، أو إدانة التمييز بين المرأة والرجل، ولا تتكتم على صورة الأمومة النمطية الطائعة. تحرس موروث القهر والقمع، وتنقله بأمانة لتحفظ للسيِّد الرجل هيبة الذكورة الجاهلية. وهي الذكورة التي تتمثَّل الدكتورة عبير بأفعالها، في كلِّ ما يصدر عنها من سلوكات استعلائية تباعد بينها وبين رجلها جاسم، تُنفِّره منها وتفشل زواجهما. عبير التي يعلو صوتها في الفصل الخامس، ليسرد مكابدات الزوجة العاملة الباحثة عن نديِّة موهومة مستقوية بموقع اكاديمي تضاعف انشغالاته تبعاتها كزوجة وكأم، يزدوج وجهها بين أنوثة مهملة تستهتر عمداً بأنوثتها. قسمة العدل على أنَّ أبرز ما يفارق"سمر كلمات"عن مألوف الروايات العربية"الرجاليِّة"على وجه التحديد، هي قسمة العدل، لا يجيِّرها الرفاعي لمصلحة الرجل فيغلِّب صوته أو يحكم له بالقول الفصل، أو ينوِّله ما يشاء، بل يحتكم للإنصاف، ويوالي حق المرأة فيناصر انسانيتها ويطلق صوتها. يُنطقه بلسان حالها في أدوار الإبنة والزوجة والأم والعاشقة، لتقول المرأة دواخلها. نُصغي إليها في خلوها إلى هواجسها تتهم وتدين وتناقض وتمتثل وتتصارع وتتمرد وتحتجُّ. بل تواجه الرجل/الأب الذي يشينه إفصاح الإبنة عن عار الإرادة والحب، أو الرجل/الزوج الذي يعيبه أن تخرج الزوجة المملوكة عن ولاء طاعته، وتطالب بوجود مستقل خارج الحريم. وفي غمرة هذا يتابع الرفاعي نساء روايته، يكتب بصدق أو بموضوعية الشاهد الأمين ما تمليه عليه أصواتهن، يحرِّرها ويُسقط عنها حرم الكلام غير المباح لتجاهر برغباتها وخياراتها، ولتعلن بما لا تجرؤ على إعلانه نساء الواقع."كم في هذا العالم من قصص حبّ تشبه قصّتنا"تقول سمر بطلة الرواية على ما أوضح لها طالب". سمر التي لا يحرجها أن تكتب قصة حبِّها وتتحول تمريناً روائياً، لا تخشى مواجهة سجَّانيها أصحاب القوامة في مجتمع الذكورة تواجهه بشراسة، ولا تكتفي بالصراخ والشكوى إحتجاجاً، تثمّرهما وتحيلهما أفعالاً شجاعة تتحدَّى رثاثة القيم والأعراف الشائعة. فلا القيمة الإنسانية في عرف سمر حرم على البيسري ابن العوام طليقها وليد ولا هي حكر على الأصيل ابن الحسب والنسب جاسم، وليس الحبُّ إلاَّ حياة المودة والعشرة التي خبرتها مع سليمان الرجل الحقيقي الذي أحبته وأحبها وداما يتساكنان. طوال عشرة أعوام من غير زواج، بعد طلاقها من زوجها الأول وليد. سمر إنموذج للبطلة غير النمطية، المؤمنة بذاتها، المتمردِّة على شرطها الاجتماعي، الخارجة من طوع الاتباع والتقليد والامتثال، تختبر التجريب، فيساعدها على معرفة الحقيقة لتدرك اليقين الذي يُنجيها من يأس غابر ضلَّلها زمناً قليلاً وكاد يورطها في زواج ثان محكوم بالفشل. من جاسم طليق شقيقتها. تنصرها الرواية التي سميت بإسمها، تنولها في الصفحات الأخيرة ما يُلمح إلى زواج الحبِّ الحقيقي بسليمان الذي مانع طويلاً فكرة الزواج بعد انتحار زوجته دانا قبل أن يدرك في لحظة استبصار أنَّ سمر هي المرأة الوحيدة التي منحته الكفاية وأشعرته بالحب الخالص، وبأن الزواج منها ربما كان الشكل الأنسب للقائهما الأكيد. صوت الأنثى وصوت الكتابة لئن غلبت اصوات النساء في"سمر كلمات"، فإن صوت الرجل لم يغب أو يغيّب عنها، فالرفاعي لا ينحاز إلاَّ للإنسان أياً يكن جنسه. وكما للأنوثة في الرواية وجوه الإيجاب والسلب، الحق والباطل، الخطأ والصواب، كذلك للذكورة تناقض الوجهين، فسمر غير عبير، وسليمان غير وليد وجاسم. لكن صوتاً واحداً يظلُّ مثار التباس، هو صوت"ريم"الذي يحيل إلى هاجس مزدوج، فهو صوت الأنثى وصوت الكتابة الروائية في آن واحد، الكتابة التي توتِّر طالب ولا تستجيب له إلاَّ بعدما تتخلَّق له شخصية"ريم"البطلة المعشوقة، لا نعرف أيَّهما يستدرج الآخر إلى حياة النًّص. فريم هي المرأة المسلوبة الإرادة، المحرومة من تجربة الأشياء، كل الأشياء، تتلقَّاها فقط وتنفِّذها ابنة ثم زوجة، ثم أماً. تعيش عزلتها وخوفها وبطالتها وارتهانها لغيرها داخل آلة الحياة الزوجية المترفة والمرفَّهة، لا تُشعرها بذاتها أو قيمتها. تفرغ دنياها من المعنى، لذا تبدأ فكرة الإنتحار تراودها. كما لو انها الفعل الوحيد الذي قد ينقذها من موتها اليومي، إلى أن تتعرَّف بطالب الرفاعي الروائي فتشعر لأول مرة في حياتها بأنها تعيش وتنبض وتفعل وتنفعل، وبأنها مرئية، موجودة وشريكة حقيقية، وبأنها تملك شيئاً يخصُّها وحدها، فيشتعل وجودها بالرغبات الدفينة تينع من جديد داخلها، ويتحرك توقها القديم إلى الكتابة. في منتهى الأحوال، تُرسي"سمر كلمات"نهجاً روائياً عربياً خلاَّقاً، شكلاً ومضموناً يُحيي فيه الواقع الحقيقي واقع الرواية، يُغنيه ويغتني به. فمن قال إن الخيال بريء من إلهام الواقع وبعيد عن المكر به؟ بل من قال إنَّ الخيال شبهة واقع؟