بتاريخ 16 كانون الثاني يناير 2008 وفي مؤتمر صحافي مشترك عقده في مصر مع الرئيس الأميركي جورج بوش القادم من جولة قام بها على دول الخليج، قال الرئيس المصري حسني مبارك بأنه أكد لبوش"الأهمية الاستراتيجية التي توليها مصر لأمن الخليج ودوله وشعوبه الشقيقة باعتباره جزءا لا يتجزأ من أمن مصر القومي". بعد أسبوع تماماً في 23 كانون الثاني اقتحم آلاف الفلسطينيين الجدار الحدودي في رفح بعد تدميره وتدفقوا إلى الجانب المصري في حركة ظاهرها عفوي ومضمونها مسيّس ومنظم حيث فُتحت الأزمة بين مصر وحماس على مصراعيها، ومنذ ذاك الحين تحولت حركة حماس إلى عنصر فاعل في نقل أولوية الأمن القومي المصري إلى الحدود المصرية عبر الحراك المرتبط بتحكم وسيطرة دول أخرى مثل سورية وإيران في غزة وعبر الضغط على الداخل المصري من خلال الامتداد الذي تشكله حماس مع القوى الحاضنة لها والمتعاطفة معها هناك. وبذلك يعود الأمن القومي إلى الدائرة الضيقة وتُخلق لمصر مشاكل تؤثر على حضورها في الرأي العام العربي حيث تظهر حملة مزايدات لا حصر لها فتطفو الشعارات التي لا يستطيع الرأي العام العربي وضعها على محط التشكيك أو التدقيق سيما وأنه لا يختلف اثنان في هذه المنطقة على موضوع يتعلق بالصراع مع إسرائيل ولو اختلفت طريقة مقاربة هذا الصراع من جهة إلى أخرى. كان الكلام عن توسع دائرة الأمن القومي المصري يتنامى بشكل مطرد وقد سبق للرئيس مبارك أن اعتبر أن"أمن مصر جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن العربي ويرتبط بأمن منطقة الخليج والبحر الأحمر والأمن المتوسطي". فبعد انكفاء العراق وعزلة سورية أثر خروجها من لبنان كان لا بد من بروز مصر ذات المدى العربي والقومي واصطدام دورها الإقليمي الذي يزداد رحابة بأدوار إقليمية لدول أخرى لديها"أدوات"التمدد على المستوى اللوجستي كإيران وسورية، وهناك كثير من الأسباب التي تجعل الدور المصري مرحباً به أو بالأحرى مطلوباً في ما إذا ما تمت مقارنته بالأدوار تلك التي يحوم حولها كثير من الالتباس لما تقوم به في كل من العراقولبنان. جاء اقتحام حماس للحدود مع مصر بعد جولة قام بها الرئيس الأميركي جورج بوش إلى المنطقة وُصفت بأنها تهدف إلى دعم خيار قيام الدولتين في فلسطين والشروع بالحل قبل انتهاء ولايته ودعم مسار أنابوليس. وشهدت الزيارة بحثاً في صفقة من الأسلحة الأميركية المتطورة تقدر بمليارات الدولارت إلى السعودية وطلب أميركي بتدخل المملكة لخفض أسعار النفط والبحث في الأمن الإقليمي للمنطقة في مواجهة النفوذ الإيراني. وخلال وجود بوش في السعودية في 15 كانون الثاني تعرضت سيارة تابعة للسفارة الأميركية في بيروت لانفجار أودى بحياة أربعة مواطنين أبرياء واستبق هذا الانفجار زيارة مقررة لعمرو موسى إلى بيروت لدعم المبادرة العربية للحل بين المعارضة والموالاة. ولاحقاً عبرت مصر على لسان وزير خارجيتها عن استعدادها"لبناء قدرات الجيش اللبناني لكي يتحمل مسؤولياته في كافة المجالات الأمنية"وعرضت تزويد لبنان بالتيار الكهربائي وإمداده بخطوط الغاز المصري. وبتاريخ 27 تشرين الثاني نوفمبر 2008 نقل رئيس كتلة المستقبل النيابية النائب سعد الحريري عن الرئيس مبارك قوله بأن"أمن لبنان من أمن مصر"وأنه يدعم إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المحدد دعما للديموقراطية والاستقرار في لبنان. ثمة كثير من المؤشرات التي تظهر الدور الرئيسي التي تقوم به مصر في مواجهة المد الإيراني. فمصر هي ذراع القوى العربية المعتدلة التي تتبنى خيار المبادرة العربية كمدخل للحل، وقد سبق لها أن حددت خياراتها على ضوء الأثمان الهائلة التي تكبدتها في مجرى الصراع مع إسرائيل عبر التاريخ. أظهرت التطورات الأخيرة بعض الحقائق التي لا تقبل الشك فهناك استهداف واضح لقدرة مصر على التفاعل في العمق العربي وهذا الاستهداف لا يعود إلى رغبة القوى الإقليمية التي تعسكر في المقابل بتحويل موقع مصر في المعادلة إلى داعم لحماس أو حزب الله بقدر ما يهدف إلى استكمال حلقة إضعاف النظام العربي برمته فمصر التي تمثل ما تمثل من تاريخ حاسم في مسألة الصراع مع العدو لا تضعف إن هي تعرضت لحملة من هذا النوع. وقد سبق لسورية أيام الرئيس السابق حافظ الأسد أن اتبعت نهجاً تخوينياً تجاه مصر بعد كامب ديفيد ولجأت إلى نسج تحالفات بديلة وإنشاء جبهات للصمود والتصدي، وبعد عشرين عاماً ذهبت إلى مفاوضات بدأتها بشكل سري وتحولت في ما بعد إلى مفاوضات علنية غير مباشرة وتسعى في هذه الأيام لتحويلها إلى مباشرة على قاعدة استعادة الأراضي السورية كحد أقصى. واقع الأمر أن خطوط التماس بين المحورين لم تعد محصورة في لبنان أو العراق أو بعض الخليج. فمَن لاحَظ منهجية وعنف الهجمة على مصر التي توّجها كلام الأمين العام لحزب الله وتحميله إياها مسؤولية"دماء الأطفال"في غزة، فَهِمَ بأن الموضوع يتخطى صراعاً تكتيكياً يُحرج النظام العربي من هنا أو يزعجه من هناك، ليصل إلى أن لدى البعض رغبة استراتيجية لإحداث تغيير كبير للتوازنات على مستوى المنطقة إذ يتحوّل حزب الله من لاعب محلي إلى أداة تغيير إقليمية ويتم عبره التصدير للنمط الإيراني وللاستراتيجية الإيرانية. فيقول رئيس كتلة نواب حزب الله البرلمانية بأن"المقاومة في غزة تعلمت من مدرسة اتباع الحسين في جنوبلبنان"!، قافزاً فوق تاريخ طويل لغزة والشعب الفلسطيني في المقاومة. ثم تتحول حماس هي الأخرى من فريق يزاحم على سلطة محلية في غزة إلى أداة لتفكيك وحدة الموقف الفلسطيني والعربي وتأخذ على عاتقها إظهار هشاشة النظام العربي وفقدانه المبادرة وعدم قدرته على التوسط بين الفلسطينيين أنفسهم. فقد سبق لحماس أن انقلبت على اتفاق مكة الذي رعته المملكة العربية السعودية وقاطعت الجهود المصرية للتوسط بينها وبين السلطة الفلسطينية وخرجت من اتفاقات التهدئة والهدنة المؤقتة التي رعتها مصر. عند كل عدوان إسرائيلي على الشعبين اللبنانيوالفلسطيني يُصوّر النظام العربي على أنه متواطئ وتنطلق حملة تجييش منظمة عبر الفضائيات ووسائل إعلام"الممانعة"حيث يظهر وكأن العرب هم المسؤولون عن أعمال وجرائم إسرائيل بينما يُصوّر في المقابل النظام الإيراني وهو يرعى التحركات الشعبية وحملات تطوّع الجهاديين والاستشهاديين!. لم يكن ليجف حبر البيان الصادر أثر اجتماع طاولة الحوار الوطني بين الفرقاء اللبنانيين والذي دعا إلى"التزام نهج التهدئة السياسية والإعلامية على مستوى أفرقاء الداخل وفي إتجاه الدول الشقيقة والصديقة والمسؤولين فيها"حتى أطلق حسن نصر الله دعوته الجيش المصري إلى عدم الانصياع لأوامر قيادته السياسية وبذلك يصبح مفهوماً الدور المرسوم للبنان والذي في حال تصاعد فيه نفوذ حزب الله عبر الانتخابات أو غيرها إذ ذاك لا يعود الأمر ليقتصر على دعوات لتغيير النظام في مصر. وقد سبق أن تعرضت المملكة السعودية انطلاقاً من لبنان إلى تهديدات لا تقل شأناً عن ذلك. من الصعب أن يقتنع عاقل على امتداد هذه المنطقة أن باستطاعة أحد"محو إسرائيل من الوجود"أو"رميها في البحر"إذا لم تكن مصر إلى جانبه!، وإن فعل يكون هناك احتمال من اثنين، فإما أنه يفتقد إلى الحد الأدنى من علوم التاريخ والجغرافيا وإما أن لسانه يركز على إسرائيل لكن عينه على مكان ٍ آخر...!. * كاتب لبناني.