روى أحد العاملين في الأممالمتحدة أنه أثناء اجتيازه الحدود البرية بين بلدين عربيين مستخدماً جوازه الديبلوماسي الأزرق الخاص بالأممالمتحدة، سأله شرطيا الحدود في البلدين:"هل لا تزال هناك أمم متحدة؟"ومازحه أحدهما قائلاً:"لا أريد أن اسمح لك بالمرور بهذا الجواز". كان ذلك عقب وقف إطلاق النار في غزة. فتحت الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة الباب مجدداً لمساءلة نظام القيم الكوني، ونظام الإدارة العالمي الراهن، وتعتبر منظمة الأممالمتحدة أحد أبرز مكوناتهما. فقد نالت الأممالمتحدة نصيبها من الانتقادات، المعتدلة أحياناً والعنيفة أحياناً أخرى، بسبب ما يستشعر المنتقدون من عدم تناسب بين موقف المنظمة الدولية ورد فعلها، وبين وحشية العدوان وفداحة الخسائر البشرية خصوصاً، ووقاحة الازدراء بالقيم وحياة الإنسان وبالقانون الدولي. قد لا يكون هناك جديد في ما أوردنا، ولكن أهميته تكمن في انه مكتوب من منظور أحد العاملين في الأممالمتحدة، ويتضمن مساهمة من هذا الموقع في النقد، وفي السعي الى إيجاد بعض المداخل من أجل تحسين صورة المنظمة الدولية في المنطقة، من خلال إحداث بعض التغيير الحقيقي في الممارسة وفي إيصال صورة أكثر اكتمالاً عن المنظمة الدولية للرأي العام العربي. وينطلق هذا المقال من الإقرار بأن أداء المنظمة الدولية في المنطقة، وصورتها في عيون الناس، كانت أقل مما يتوقعونه. ولهذا الانطباع سند قوي في ثلاثة مستويات: - أولاً، ان الأداء الحقيقي للمنظمة الدولية كان غير متناسب مع خطورة الوضع وفداحته. - ثانياً، ان استراتيجيات الإعلام والاتصال، وآليات التواصل والتفاعل بين منظومة الأممالمتحدة وبين الناس والرأي العام في الدول العربية، غير فعالة، ولم تنجح في تقديم صورة إيجابية عن الأممالمتحدة عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى فلسطين، العراق، الحرب على لبنان، ومجمل قضايا الأمن والسلام. - ثالثاً، إضافة الى هذين العاملين، هناك تيارات واتجاهات سياسية وأيديولوجية، ناشطة في مجال تعميق هذه الصورة السلبية، والترويج لمقولة اليأس من كل أشكال إدارة النظام العالمي الحالية، وتحديداً الأممالمتحدة، كما إن هذه الصورة السلبية نفسها تشمل جامعة الدولة العربية، في شكل اكثر حدة أحياناً. والقاسم المشترك في هذا النقد ? الذي هو جزء من رؤية أوسع ? هو ان منظمة الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية، سمتهما العجز الذي يتحول وفق هذه الرؤية الى خاصية بنيوية لا مجال للتخلص منها، أكثر مما هي مسألة فشل في موضوع محدد. كما ان نظرة العجز هذه تدعم بنظرية الانحياز الى"الغرب وإسرائيل"ضد العرب بالنسبة للأمم المتحدة، وبنظرية التواطؤ بالنسبة الى جامعة الدول العربية والنظام العربي. لن أتوسع في مناقشة المضمون السياسي لبعض ما جاء أعلاه بقدر ما سأقوم بمعالجة انتقائية لبعض الأفكار التي تخدم الهدف الأساسي للمقال. ويتعلق الأمر بالفرضية الآتية: "ان نجاح المواطنين العرب الذين يعملون في منظومة الأممالمتحدة، والعاملين من جنسيات أخرى في مكاتب الأممالمتحدة في البلدان العربية، في بلورة تصور مشترك لنقاط الضعف في أداء المنظمة الدولية وفي استراتيجيات التواصل من الناس، واتفاقهم على عدد من الخطوات الملموسة للعمل داخل منظماتهم، وفي التواصل من الرأي العام، من شأنه ان يساعد على تحسين الموقف، وتحسين الصورة في الوقت نفسه". هذه هي فرضيتنا، وفي حال كانت صحيحة وذات تأثير عملي، فإن ذلك سيكون له أثر إيجابي على عمل الأممالمتحدة في المنطقة، كما تستفيد من نتائجها بلداننا وشعوبنا، وتساهم في بناء مناخ أكثر إيجابية وإقناعاً لنا نحن المواطنون العرب الذي نعمل في وكالات الأممالمتحدة المختلفة. يوم السادس عشر من كانون الأول ديسمبر 2008، نشر موقع برنامج الأممالمتحدة الإنمائي خبراً مفاده ان البرنامج وقع اتفاق شراكة مع إسرائيل تقوم بموجبه إسرائيل بتقديم الدعم لتحقيق أهداف الألفية في أفريقيا خصوصاً. ويتضمن الخبر إشادة بالخبرات الفنية والتكنولوجية الإسرائيلية، لا سيما الزارعة، كما يشيد بالتزام إسرائيل مكافحة الفقر ودعم تحقيق أهداف الألفية وبالالتزام الذي أبدته تجاه إحدى وكالات الأممالمتحدة. حصل ذلك منذ اكثر من شهر ولم يكن هناك أي رد فعل على توقيع هذا الاتفاق. معظم الناس والمعنيين لم يعرفوا بذلك، ولكن كانت هناك بعض همسات الاستغراب بين العاملين العرب في المنظمة إزاء الموضوع. وموضوع التهامس مسألتان: - الأولى: هل يعقل ان لا يتنبه مسؤولون في مواقع قيادية في المنظمة الدولية الى الحساسية السياسية من توقيع مثل هذا الاتفاق مع دولة إسرائيل بحيث يمكن ان تشكل الأممالمتحدة غطاء لبعض نشاطاتها في القارة الأفريقية، وهي قارة بالغة الحساسية ومملوءة بالنزاعات والحروب، وبحيث تتصارع المصالح الكبرى؟ وهل يعقل أن لا يتنبه هؤلاء المسؤولون الى أن التنمية البشرية كل متكامل لا يمكن الفصل بين مكوناته، وانه بغض النظر عن البعد السياسي المباشر الذي ليس هو موضوعنا، هل يمكن ببساطة ان توقع المنظمة الدولية اتفاقية تعطي دوراً لدولة إسرائيل في قارة أفريقيا، وذلك بغض النظر عن واقع احتلالها للأراضي الفلسطينية، وانتهاكها للقوانين الدولية وحقوق الإنسان، وتدميرها كل مقومات التنمية في فلسطين أنا لا استخدم لغة سياسية في وصف السلوك الإسرائيلي هنا، بل استخدم مصطلحات ومفاهيم القانون الدولي؟ أضف الى ذلك واقع نزاعها مع الدول العربية التي بينها 10 دول في القارة الأفريقية؟ - أما المسألة الثانية، فهي ان من وقع الاتفاقية لم يساوره أي قلق، ولو لحظة واحدة، أن هناك 22 دولة عربية أعضاء لها ممثلون في المنظمة الدولية يمكن ان تستاء من هذا العمل. كما لم يشعر من وقع الاتفاقية بأن هناك زملاء له من جنسيات عربية يعملون في منظمته قد يكون من المفيد أخذ رأيهم في ذلك؟ ولكي تكتمل الصورة فلا الممثلون الحكوميون للبلدان العربية، ولا العاملون العرب في وكالات الأممالمتحدة المختلفة ? وهم موضوع مقالنا ? تحركوا إزاء هذا الموضوع، ولا هم اعتادوا الاهتمام بقضايا كهذه، ولا اعتادوا أن يعتبروا ان حضورهم بصفتهم مواطنين عرباً، هو أمر مطلوب ومفيد للمنظمة الدولية، لأنه فقط بحضور كل الجنسيات والمناطق حضوراً فاعلاً - وبصفتهم هذه - يتحقق التوازن والحياد وتستطيع المنظمة الدولية ان تضمن قيامها بدورها على أكمل وجه. في الوقت الذي نرى أي زميل آسيوي من الهند أو باكستان أو الصين، أو من أميركا اللاتينية أو أوروبا، فخوراً ومجاهراً بمواطنيته، ويرى أن حضورها في المنظمة الدولية من خلال التعبير الصريح عن رأيه ومساهمته في إبداء وجهة نظره المتأثرة حكماً بانتمائه، عنصر إغناء وإثراء في المنظمة الدولية، فإن الانطباع السائد عن المواطنين العرب العاملين في منظومة الأممالمتحدة هو خلاف ذلك. فنحن ? العاملين العرب في منظمة الأممالمتحدة - محدودو الفعالية، وربما يغالي معظمنا في تغييب خصوصية انتمائه الوطني والقومي، ويذوب حضوره من خلال التماهي مع ما يعتبر انه توجهات الإدارة العليا، وما يعتبره التزاماً بالحياد والموضوعية والقانون الدولي. وغالباً ما يفهم معظمنا قواعد الحياد في عمل المنظمة في ان يجردوا أنفسهم عن أي موقف عندما يتعلق الأمر بقضايا منطقتهم مخافة ان يخرجوا عن قواعد حياد الأممالمتحدة. وهكذا يسهمون في إعطاء صورة مشوهة عن المنظمة الدولية تضاف الى العناصر الأخرى التي تسهم في تكوين هذه الصورة أصلاً. هل هناك شواهد تدعم مثل هذا الزعم؟ شاهد أول: يوم التاسع من كانون الثاني يناير 2009 عقدت جمعية عمومية للعاملين في منظمات الأممالمتحدة الناشطة في لبنان في مبنى الأسكوا لمناقشة خطوات دعم غزة. اتفق المجتمعون على خطوات عدة، منها قيامهم بالتبرع، وإصدار موقف، ومناقشة خطوات نفذ منها لاحقاً اعتصام ولقاء فني تضامني... الخ. ليس هذا موضوعنا بقدر ما هو إلقاء الضوء على اتجاهات النقاش التي دارت والتي تعكس كيفية تعامل العاملين في الأممالمتحدة مع قضاياهم. في شكل عام كانت هناك أنواع عدة من المواقف تفاوتت بحسب العمر والتاريخ الشخصي لأصحابها، وكذلك بحسب موقع المسؤولية داخل المنظمة. ولكن كان بين الموظفين من كان متحفظاً جداً، فسأل إن كان يحق لنا كموظفين في الأممالمتحدة اتخاذ موقف؟ وهل ان ما نعبر عنه موقف سياسي أم هو مجرد تضامن إنساني؟ وكان هناك تحفظ على الإعلان عن الاجتماع والبيان الصادر عنه، وأيضاً كانت هناك تساؤلات عما إذا كان هذا الإعلان يخرق قواعد السلوك الداخلية وإننا نسبب إرباكاً في تقديم صورة الأممالمتحدة التي يفترض أن تكون موحدة ويعبر عنها الأمين العام... الخ. انها كلها مواقف تقوم على مقاربة فنية بحت لقواعد السلوك تغيب عنها بالكامل فكرة حق الموظف في التعبير ? حتى داخلياً ? ومشبعة بفكرة التماهي مع المؤسسة الى حد تغييب أي موقف شخصي. أما مفاجأة هؤلاء الكبيرة فأتت من موقف بعض كبار المسؤولين في المنظمة الذين شاركوا في الاجتماع، والذين كانت مواقفهم متقدمة وتنطلق من الحق البديهي في التعبير والتضامن وعدم التوقف أمام تفصيل بيروقراطي عندما تكون حياة الناس في خطر. هذه صورة عن مستوى التحفظ والاستلاب الذي يمكن أن يعاني منه أحد العاملين في الأممالمتحدة. شاهد ثان: إن حضور المنطقة العربية على مستوى النشاطات والتجارب العالمية ضعيف مقارنة بالمناطق الأخرى. فكم من مؤتمر عالمي للبحث أو تبادل التجارب، نجد فيه عرضاً لتجارب من مناطق العالم من دون استثناء، وأحياناً تجارب محلية تخص جماعة ريفية صغيرة في بلد أفريقي أو آسيوي، ولكن تغيب عنه التجارب العربية. كأن ليس لمنطقتنا إسهام في التجربة العالمية من خلال المنظمة الدولية. ولا يثير هذا رد فعل المسؤولين الكبار في المكاتب الإقليمية الوطنية العربية للمنظمات الدولية، ولا نشعر انهم يقومون بأي شيء من أجل معالجته، مع العلم انه قد تتوافر أحياناً تجارب مهمة جداً ومفيدة، تماثل في أهميتها تجارب المناطق الأخرى ان لم تتقدم عليها. شاهد ثالث: اللغة العربية هي إحدى اللغات الخمس المعتمدة في الأممالمتحدة. وقد شكل اعتمادها اعترافاً بأهمية المنطقة العربية ودورها. إلا أن الحضور الفعلي لهذه اللغة في الأممالمتحدة من دون المطلوب، حتى في مستوى مكاتب اللجان الإقليمية العربية أو العاملة في المنطقة. وتشكل الأسكوا استثناء جيداً على هذه الصعيد حيث اللغة العربية هي أساسية، ومؤخرا قرر المكتب الإقليمي لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي أيضاً وضع كل مواده على موقعه الإلكتروني باللغة العربية، وهناك تقدم في هذا الاتجاه بشكل عام. مع ذلك، إذا نظرنا الى آليات اختيار العاملين في المنطقة من مستشارين وموظفين، ومن الطبيعي والضروري ان يكونوا من مختلف الجنسيات، لا نرى اهتماماً لدى المسؤولين في اشتراط حد أدنى من اطلاع المرشحين لمختلف الوظائف على وضع المنطقة وتاريخها وثقافتها ولغتها، بقدر اهتمامهم بإتقان اللغة الإنكليزية ومهارات الكومبيوتر والمهارات الفنية البحت. والأمر نفسه ينطبق على المرشحين العرب، بحيث انه لو قمنا بدراسة مستوى المهارات اللغوية للعاملين من جنسيات عربية، لوجدنا الغلبة لمصلحة اللغة الإنكليزية في عدد غير كبير من المكاتب والبلدان. ومن الشائع جداً ان نجد موظفين ومستشارين عرباً ينفذون أبحاثهم ويعدون تقاريرهم باللغة الإنكليزية ثم تترجم الى العربية. شاهد رابع: بشكل عام، نشعر ان العاملين في مراكز عليا في الأممالمتحدة من مختلف المناطق، يشكلون نوعاً من"اللوبي الخفيف"بحيث يهتمون بزيادة حضور أبناء منطقتهم في المنظمة الدولية، كما يمكن ان نلحظ لديهم سعياً لكي يكون بعض المرشحين على الأقل يتمتعون بكفاءات عالية بحيث يساهم توظيفهم في إعطاء صورة افضل عن منطقتهم. أما بالنسبة الى المنطقة العربية، فلا نلحظ مثل هذا الاهتمام العربي الجماعي. إذ ليس هناك حرص محسوس على وجود تمثيل كافٍ ومناسب لكل الدول العربية في منظمات الأممالمتحدة، وعلى مختلف مستويات القرار. هناك بعض الدول التي لها إفرادياً اهتمام تاريخي بتأمين حضور وطني في الأممالمتحدة، وهي تحاول الحصول على الحصة أو الكوتا المخصصة لها بشكل كامل. وحين يحصل اهتمام بهذا الأمر، فإنه يحصل لاعتبارات سياسية أولاً، ويجري اقتراح الموظفين الكبار وفقاً لهذه الاعتبارات بالدرجة الأولى وهم غالباً وزراء ومسؤولون حكوميون سابقون، ولا يكون اعتبار تفعيل الحضور العربي في الأممالمتحدة هو الحافز. أما بالنسبة الى الأداء الداخلي، فهناك اكثر من شهادة، لأكثر من زميل، تشير الى أن الزملاء العرب في مواقع القرار، كانوا من أشد الرافضين لأي ترقية مهنية لزملاء عرب آخرين، وإن أجمع الآخرون على كفاءتهم وأحقيتهم بالترقية. وهذا استنساخ للسلوك المحلي في الإدارات والمنظمات الوطنية والإقليمية، نقله بعض الزملاء معهم الى المنظمة الدولية، وباتوا عائقاً إضافياً أمام التقدم المهني لزملائهم ولتفعيل الحضور العربي، ويساهم بدوره في تشويه صورتنا. هذه شواهد مختلفة الأهمية، لكنها تشير الى مكامن خلل تبدأ بالقضايا الكبرى لتنتهي بالصغرى. وكلها يجب أن تكون موضع اهتمامنا نحن العاملين في الأممالمتحدة، لكي نسعى من خلال معالجتها الى تحسين الموقف والصورة في الوقت نفسه، والوقوف في وجه ثقافة اليأس والتيئيس من المنظمة الدولية ومن أشكال التعاون الدولي والإقليمي الأخرى، ومن ضمنها الجامعة العربية. ثمة حاجة دولية وإقليمية ووطنية الى هذه الأشكال من الإدارة الدولية للعلاقات والنزاعات، وأصلاً لا توجد آليات بديلة حالياً، وبالتالي فإن مشاريع إصلاحها هي وحدها المشاريع التي تنسجم مع مصالح الناس والشعوب والبلدان الصغيرة والنامية. إن دور المنظمة الدولية وتاريخها، على رغم الملاحظات الجدية، يحتويان على عناصر قوية من الحيادية واحترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في التنمية، وهي قابلة للتطوير. والصورة التي يجب تقديمها عنها يجب أن تبرز أيضاً هذه العناصر بشكل ذكي وفعال. ولنا شواهد إيجابية لا تحصى على ذلك بدءاً من قرار إدانة إسرائيل بعد مجزرة قانا أيام الأمين العام بطرس غالي وإن كلفه ذلك عدم التجديد له على ما يشاع، الى آخر شهيد أو جريح من موظفي الاونروا سقط بالقصف الإسرائيلي على غزة قبل أيام، مروراً بكل الأعمال والإنجازات العظيمة التي قامت بها وكالات الأممالمتحدة التنموية والإغاثية بعيداً من السياسة في الاهتمام بالأطفال والنساء والعاطلين من العمل وصولاً الى مشاريع التنمية المحلية والدراسات والاستشارات التي قدمت للحكومات ومنظمات المجتمع المدني من أجل دفع التنمية الوطنية والإقليمية. * مستشار إقليمي - برنامج الأممالمتحدة الإنمائي