الثابت أن صورة الاممالمتحدة في العالم العربي في مجملها سلبية، خصوصاً في الوقت الحاضر. ولهذه الصورة أسبابها ودواعيها. غير أن هناك الكثير من الفرص التي يمكن الاستفادة منها لتحسين أداء الأممالمتحدة وتحسين صورتها في آن. فالأممالمتحدة في العالم العربي ترمز إلى مآس كثيرة، منها نكبة فلسطين عام 1948، وتقسيمها بتوصية من الجمعية العامة أصبحت ملزمة عندما يتعلق الأمر بالعالم العربي. فتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يعكس صورة الأممالمتحدة، التي تترواح بين شبهة التآمر والتحيز والعجز والسلبية، وغلبة السياسات العالمية عليها إلى درجة اليأس من عدالتها وفاعليتها. لكن صورتها ازدادت سوءاً وسلبية منذ أحداث 11 ايلول سبتمبر. فقراراتها بالمئات لا تحترمها إسرائيل، والفيتو الأميركي يحمي كل تصرفات الدولة العبرية، وقرارات الجمعية العامة المؤيدة للحقوق الفلسطينية المختلفة لا يؤبه لها. ويلاحظ الرأي العام العربي بوضوح كيف أن دور الأممالمتحدة حتى في المجالات الإنسانية مرتبط برضا إسرائيل وسماحة الولاياتالمتحدة وكرمها، ناهيك عن استبعادها السياسي التام منذ مؤتمر مدريد بحجة أن التسوية السياسية المباشرة من دون وسيط دولي هي الأقرب إلى التحقيق. وإذا كانت القرارات المحدودة الحاسمة في الجمعية العامة ومجلس الأمن لاتزال مصدراً للموقف القانوني العربي يعض عليها بالنواجذ، فإن هذا الرصيد المحدود أيضاً يتعرض للتآكل والتخريب في محاولة إما للقفز عليه أو لتعديل مضمونه باستغلال واضح لحال الضعف العربي أو للسيولة السياسية الدولية، أو حال الهيمنة الأميركية والصهيونية الطاغية في صناعة القرار الدولي. وقد استنجد العرب، والفلسطينيون خصوصاً، بالأممالمتحدة لإنقاذهم من أعمال البطش والإبادة في فلسطين مطالبين بإرسال قوات عازلة أو حامية أو حتى مراقبين، من دون جدوى. وعندما تعرض عرفات المنتخب إنتخاباً ديموقراطياً للتنكيل والحصار، كما تعرضت المدن الفلسطينية للإحتلال من جديد، ولسلسلة من أعمال الإبادة والمجازر والاغتيالات وهدم المنازل على أصحابها لمجرد أنهم يقاومون جرائم الاحتلال، لم يفرق مجلس الأمن بين المعتدي والضحية، بل قسا على الضحية بشكل مؤلم، فأدان ما أسماه "الإرهاب الفلسطيني" مقابل إشارته بلطف إلى ما أسماه "العنف الإسرائيلي" في لهجة تعطي العذر للإسرائيليين. وغاية ما وصلت إليه لغة قرارات مجلس الأمن إدانة ما أسماه المجلس "الإستخدام المفرط للقوة"، وهذا يعني أن لإسرائيل الحق إبتداءً أن تستخدم القوة ضد الفلسطينيين، لكن إستخدامها تجاوز الحد المسموح به. فهي ليست إدانة لمبدأ إستخدام القوة ضد المقاومة المشروعة من جانب سلطات الاحتلال، وإنما مجرد إحتجاج على مستوى القوة المستخدمة. فإستخدام القوة أصلاً لهذه الحالة ضد الفلسطينيين في أراضيهم المحررة بموجب أوسلو اعتداء على أراضٍ أجنبية، ويمثل موقف مجلس الأمن إغفالاً للآثار الإقليمية والسياسية لأوسلو، وهو ما يتفق مع موقف إسرائيل. وقد عمل المجلس بروح تعكس تماماً المناخ الذي أشاعته الولاياتالمتحدة، والذي يعتبر شارون بطل السلام، وعرفات رأس الإرهاب الذي يجب أن يرحل لأنه لم يحم إسرائيل من المقاومة، ولم يسلّم سلطات الاحتلال أعضاء المقاومة. وإذا كان العالم العربي قد أذهله إحباط إسرائيل لمهمة تقصي الحقائق الواردة في القرار 1405 عام 2002 الذي تبنته واشنطن وصدر مخففاً تماماً وبالإجماع، على أساس أن أميركا هي التي قدمت الحماية الديبلوماسية لرفض إسرائيل للقرار بعدما رحبت به، ثم رفضت علانية استقبال اللجنة التي شكلها الأمين العام فعلا، فالصدمة الكبرى كان سببها التفسيرات الهزيلة الصادرة من الأممالمتحدة عن مهزلة هذا القرار، بل إن سبب الفزع الذي أصاب العالم العربي، والذي لم يكن يتوقعه في أسوأ أحلامه، أن الأمين العام وعد بإجراء تحقيق إداري بعد أن هزمت إسرائيل قرار تقصي الحقائق، ثم خرج التحقيق المأمول بنتيجة مأسوية غريبة، وهي ان أعمال إسرائيل في جنين من 29/3 حتى نهاية أيار مايو 2002 لا تعتبر أعمال إبادة للجنس الفلسطيني. ومن ناحية أخرى لا يزال العالم العربي يذكر مأساة لوكربي منذ 1992، وأن العالم العربي كان له نصيب الأسد من النشاط المفاجئ لمجلس الأمن بعد إنتهاء الحرب الباردة، فكان العراق وليبيا والسودان أبرز النماذج. كما لا ينسى في المرحلة نفسها ما حل بمسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفو على يد الصرب، وما أظهرته الأممالمتحدة وقوات الحماية الدولية ومناطقها الآمنة الست من عجز وهوان إزاء وحشية الصرب وعدوانهم وأعمال الإبادة التي قاموا بها، وعزوف مجلس الأمن عن بحث مأساة الشيشان. أما الفصل الدامي بحق فهو المأساة العراقية، إذ خرج العالم العربي بانطباعات كثيرة غلب عليها هوان المنظمة الدولية واستسلامها لنزوات النسر الأميركي الكاسر والأسد البريطاني العجوز. فقد أقر مجلس الأمن وبعثات التفتيش بتعاون العراق، واعتقد العالم العربي ان تعاون العراق الكامل مع الأممالمتحدة يعطيه ضماناً كاملاً ضد العدوان، فإذا التفتيش وإبراء الذمة يعقبهما عدوان بالغ القسوة يتخذ أشكالاً من الإبادة ويطلق شعارات ويعلن أهدافاً تناقض تماماً ميثاق الأممالمتحدة، والمنظمة لا تحرك ساكناً. بل وقع في روع الناس في العالم العربي أن المنظمة تواطأت مع المعتدي وكان التفتيش مقدمة للعدوان الذي اطمأن إلى فريسته وعجزها عن المقاومة. ثم كان القرار 1483مسوغاً للاحتلال ومطلقاً يد السلطة المحتلة ومُقراً بتحول العراق إلى محمية أميركية بريطانية. مع ذلك ظل الأمل معلقاً بأي دور أو تصريح أو إشارة تعيد الثقة المفقودة في وقت انعدمت كل البدائل. فتعلق العالم العربي بتوسيع دور الأممالمتحدة في العراق على حساب دور الاحتلال، ولكن دون الخلط بين أوراق الإثنين. فالعالم العربي يدرك وفق الدراسات الأميركية المنشورة أن واشنطن لا تزال تحدد للمنظمة الدولية دورها في إطار أهداف السياسة الخارجية الأميركية، وهي مهمة كانت تمارسها منذ 1945، ولكن انفردت الآن وبشكل معلن تقريباً. وعلى المنظمة الدولية أن تحاول الإفلات قدر المستطاع، فلا يجوز أن تكون قوات السلام التي تسعى إلى تشكيلها قوة ردع للمقاومة وإطالة أمد الإحتلال، وإلا كان ذلك تكريساً عملياً لعكس ما قامت المنظمة الدولية من أجله، وهو حفظ السلم والأمن الدوليين، اللهم إلا إذا ترجمت العبارة لتعني أن السلم والأمن الأميركي هو المعادل لسلم المجتمع الدولي كله. وإذا كانت صورة الأممالمتحدة سلبية في المدرك العربي، تتراوح بين العجز والسلبية والتواطؤ والعمل خلافا للميثاق، فإن من الضروري أن يتضح داخل هذه الصورة أن العجز في مجلس الأمن، وانعدام الفعالية في الجمعية العامة، أمر يتعلق بمجريات السياسة العالمية. أما الأمين العام وممثلو الأجهزة الأخرى فبوسعهم أن يضيئوا شموع الأمل، ولذلك يجب إبراز هذه الأدوار والمواقف. فلا شك أن كوفي أنان ينظَر إليه في العالم العربي على أنه يمثل هموم العالم الثالث بوصفه إفريقياً، وأن سكوته أو زيغ بعض مواقفه تمليه ضغوط منصبه، لكن الرجل وهو منحاز بحكم تكوينه وبيئته إلى العدل بالمفهوم الطبيعي، يدرك أن توحش القوة الأميركية وتوثق العلاقات الأميركية الإسرائيلية أخلت خللاً جسيماً بمعايير السلوك الدولي وبمكانة المنظمة الدولية، فلا أقل من أن تعكس مواقفه محاولة إصلاح بعض هذا الخلل، خصوصاً وأن صورة الأمين العام للمنظمة عموماً لها رصيد تاريخي في المدرك العربي الذي لا يزال يحتفظ بصور المواقف العادلة لداغ همرشولد شهيد السلام في أفريقيا، ومعه رالف باندش الأميركي الأسود، الذي سطر صفحة مهمة في هذا السجل. أما يوثانت الآسيوي الصوفي فاستجاب طلب مصر سحب القوات الدولية من سيناء، وفالدهايم الذي عاقبته الصهيونية العالمية بسبب مواقفه العادلة من القضية الفلسطينية، ونزاهة ديكويار إبان غزو العراق للكويت وجهوده الديبلوماسية التي ضاعت هباءً بين غباء النظام في العراق والمخطط الأميركي الكبير، وانتهاء ببطرس غالي الذي كان شديد الحذر بحكم إنتمائه العربي، لكنه كان شجاعاً عندما قرر رغم كل شيء نشر تقرير مذبحة قانا في لبنان. ولا يخفى أن العالم العربي يطرب لمواقف الامين العام الأخيرة في القضايا العربية، ويجب أن تلقى أوسع انتشار وإيضاح، كما تسعده مواقف ممثله الخاص في العراق فيرا ديميلو وقناعته بدور فاعل مستقل للمنظمة الدولية، وحرصه على أن يعمل بوضوح، وألا تختلط الأوراق، بل يجب أن يكون التعاون كاملاً بين الأممالمتحدة وسلطات الإحتلال لهدف واحد هو إنهاء الإحتلال وتمكين الشعب العراقي من تقرير مصيره. وفي الأممالمتحدة مواقف مضيئة يجب توثيقها وإبرازها، فلا تزال مواقف السيدة ماري روبنسون المفوض السامي لحقوق الإنسان ورئيسة جمهورية أيرلندا السابقة تبهر العالم العربي بشجاعتها وسط التحيز الواضح لإسرائيل وجرائمها. ولا يجوز أن تفوتنا تلك الجرأة التي يتحلى بها بعض ممثلي الأممالمتحدة في مواقعهم واقتحامهم الساحة الإعلامية بجرأة نادرة وفي "عش الدبابير" كما يقولون. فقد نشر المفوض السامي لوكالة غوث اللاجئين، وكذلك ممثل الأمين العام في فلسطين لارسن عدداً من المقالات في "النيويورك تايمز" و"الهيرالد تريبيون" وسط الحملات الصهيونية الشرسة ينتقد فيها هدم إسرائيل منازل الفلسطينيين وتجريف أراضيهم وفرض إبادة إقتصادية ونفسية وإجتماعية عليهم. ومعلوم ذلك الجدل الذي أثارته إسرائيل بسبب مواقف لارسن في مذابح جنين وغيرها، والحملة الدبلوماسية الرسمية التي شنتها عليه. وإني لأرجو مخلصاً أن يتعلم العالم العربي من إسرائيل، لأن سكوت الإعلام العربي عن الدفاع عن مواقف هذه الشخصيات الدولية يساعد الحملات الصهيونية التي تدخل الحكومة الإسرائيلية طرفاً مباشراً فيها بكل طاقاتها وإتصالاتها الدولية، إلى حد أنها حاولت إبعاد ممثل الأممالمتحدة في الشرق الأوسط، مثلما حاولت ابتزازه بكشف فضائح أجادت الأوساط الصهيونية إعداد ملفها تحت الطلب، كما فعلت مع فالدهايم ومئات غيره، بل إنها لم تتردد في اغتيال برنادوت عندما نشر تقريره المنصف في المسألة الفلسطينية. ولا شك أن من العلامات المضيئة في الأممالمتحدة تلك المواقف القانونية الواضحة ضد السور الإسرائيلي في الضفة الغربية، والذي لا يزال الموقف العربي الرسمي والإعلامي يحاذر البوح بحقيقته ومراميه. فقد نشر جون دوغارد، وهو من البيض في جنوب إفريقيا وأستاذ القانون الدولي في جامعة لايدن في هولندا، مقالاً يومي 2-3/8/2003 في "الهيرالد تريبيون"، بصفته المقرر الخاص للجنة الأممالمتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وهو بحق، إمتداد لأسلافه العظام. وعنوان المقال هو "اهدموا سور إسرائيل". وبعد أن يقدم معلومات مهمة عن السور ينتهي إلى ان السور هو بحق إستيلاء على الأراضي الفلسطينية بغير حاجة إلى إعلان ضمها في قانون سبق أن لقي معارضة واضحة في حالتي القدس والجولان. والإستيلاء وفق القانون الدولي يعني الحصول بالقوة على إقليم الغير، وهذا مخالف للقرار 242 الذي يحظر صراحة الإستيلاء على أراضي الغير بالقوة تجسيداً لمبدأ أساسي من مبادئ القانون الدولي، كما أنه انتهاك صريح لإتفاق أوسلو الذي حظر المساس بوضع غزة والضفة حتى يتقرر مصيرهما في مفاوضات الوضع النهائي، وهو إنتهاك لإتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على الدولة المحتلة أن تضم أراضي محتلة، فضلاً عن انتهاكه للمادة 2/4 من ميثاق الأممالمتحدة. وهذا المقال دراسة قانونية موضوعية هامة، فهي شهادة قانونية، كما أنها شهادة سياسية منصفة من أحد رموز الأممالمتحدة. إنني آمل أن تركز الأممالمتحدة على جوانب هذه الدبلوماسية العامة، لكي تشعر العالم العربي أنه إذا كان لمجلس الامن حساباته، فقد أبرأت الأمانة وخبراؤها في جميع المواقع ذمتهم أمام التاريخ، وهذا لا شك موقف بالغ الأهمية أيضاً في تعديل وتقويم مجلس الأمن على المدى البعيد، كما يلتقي حماس الأممالمتحدة في ذلك مع تحمس العالم العربي لمساندة الأممالمتحدة والإبقاء عليها، حتى تفلت من هذه العاصفة، وأن يعتدل ميزان القوة في النظام الدولي، وأن تستعيد الأممالمتحدة مكانتها، كما يستعيد القانون الدولي سلطانه ومكانته. * كاتب مصري.