في آسيا الوسطى يدخل الأهالي المحليون أفواجاً في"شهود يهوه"، وفي البرازيل تعد البروتستانتية الانجيلية 25 مليون مؤمن في 2007، وتتعاظم صفوف الديانة الفصحية في العالم كله، بينما تستقطب التيارات الأصولية شباناً أوروبيين من البيض والسود، ويبلغ المؤمنون الجدد بالإسلام في"القاعدة"أعلى نسبة مقارنة بالمنظمات الأخرى. وعلى خلاف الظاهرات هذه، تعاني الكنيسة الكاثوليكية الأمرّين في سبيل الحفاظ على معتنقي الكثلكة في صفوفها، ويتردى عدد المقبلين على الانخراط في سلك الرهبنات. ويلاحظ أن أشد المنافحين عن التقليد الانغليكاني المحافظ هم، اليوم، من النيجيريين والأوغنديين والكينيين في حين لا يرى رأس الكنيسة الانغليكانية البريطانية، روان ويليامس، ضيراً في تحكيم الشريعة الإسلامية في قضايا المسلمين الشخصية، ولا ينكر رسامة كهنة مثليين. وتقيم الكنائس الأرثوذكسية، السلامية على انطوائها، شأن الهندوسية ومعتقديها. والملاحظات لا تقتصر على هذا. فالبوذية تنتشر في الغرب، ويؤدي الإفراط الإيديولوجي في توسل الدولة الإيرانية بالدين الى ميل المجتمع الإيراني المدني شطر القيم الزمنية. ويخرج من صفوف الكوريين الجنوبيين الشطر الأكبر من القسس البروتستانتيين في العالم، وتحل كوريا الجنوبية، عدداً، بعد الولاياتالمتحدة. ولا ريب في أن نظرية صدام الحضارات، أو حوارها، قاصرة عن تفسير أو فهم هذه التيارات العميقة، وشبكها الخرائط والأقاليم بعضها ببعض، ومزجها الهويات، وفكها الروابط التقليدية والمعروفة بين الدين والثقافة. فماذا يحصل حين تتقطع أواصر الديانات بجذورها الثقافية؟ أو لماذا تتولى الديانات اليوم ترتيب الهويات على أنحاء ومراتب مختلفة وجديدة؟ ويناقش الجواب عن الأسئلة والملاحظات هذه مذهبان أو رأيان. فيرى الأول أن غلبة القيم الزمنية والدنيوية سيرورة لا عودة عنها، وهي تترتب على الحداثة وشرطها في آن. ويرى الآخر أن عودة التدين، أو الذهن الديني، احتجاج على حداثة مستلبة وخاوية، أو هي نهج آخر يُدخل منه في الحداثة. والمناقشة هذه هي في قلب الخلاف على العلمانية: هل تفرض هذه على رغم المعتقد الديني، ولو أدى الأمر الى انتهاك الحرية الفردية، أم أن الإحياء والتجدد الدينيين هما مرآة التنوع والثراء والحرية الإنسانية؟ والحق أن ما نشهده هو صوغ التدين والاعتقاد صياغة نضالية وجديدة في اطار تغلب عليه القيم الزمنية والدنيوية، وسبق له أن أقر الدين على استقلاله وقيامه برأسه. وحملت غلبة القيم والمثالات الزمنية، ومعها العولمة، الديانات على الانسلاخ عن الثقافات ومنها. وألزمتاها تدبر نفسها على نحو مستقل، وتجديد ابنيتها وهياكلها في حيز زمني ودنيوي. والحيز هذا لا يقتصر على أرض أو إقليم، وليس في عهدة دولة أو سياسة، تالياً. ولعل اخفاق الدين السياسي إسلاماً سياسياً وثيوقراطية مرده الى تنطحه الى منافسة غلبة القيم والمثالات الزمنية والدنيوية في ميدانها ومضمارها: الميدان السياسي الأمة، الدولة، المواطن، الدستور، النظام القضائي. وتسييس الدين على هذا النحو يؤدي من طريق مواربة الى تغليب القيم والمثالات الزمنية عليه. وذلك جراء ملابسته السياسة اليومية، وافتراضه ولاء الفرد وحريته. والدين السياسي يشترط على الناس جميعاً أن يعتنقوا إيماناً. ولكنه يقصر عن الاضطلاع بأود الإيمان هذا، فيضطر الى الزام رعاياه ظاهراً واحداً. ويحول هذا بينه وبين الزعم أنه صورة إيمان تشترك فيه جماعة أو أمة. وعلى هذا، فالرابط بين غلبة القيم والمثالات الزمنية والدنيوية وبين الإحياء الديني وثيق، والإحياء الديني ليس رداً على الغلبة الزمنية، بل هو ثمرتها ووليدها، والكلام على"عودة"الاعتقاد يجانب الصواب. فما تُشخَّص"عودته"لم يبق على حاله السابقة، بل تحول من حال الى حال. وهذا طور ولا يفضي حتماً الى عصر ديني جديد. ولا يُخلص من تظاهر الديانات الإعلامي، وبروزها في وسائط الإعلام ووسائله، الى تعاظم التدين والاعتقاد نظير التظاهر هذا. ففي عهد ولاية يوحنا بولس الثاني البابوية، وهو ذروة الظهور الإعلامي، تقاطر الشباب، ذكوراً وإناثاً، من أنحاء العالم، على مهرجانات واحتفالات الحبر الأعظم. وفي الأثناء، لم ينفك عدد المرشحين للرسامة، وارتداء ثوب الرهبنة، يتقهقر. وفي غضون حقبة"عودة الدين"بأوروبا، مضى الأداء الديني على تقلصه. فمن 42.37 في المئة من العائلات الإسبانية التي رضيت، في 1993، جباية الدولة رسماً طوعياً تسدده للكنيسة، انخفضت النسبة، في 2002، الى 34.32 في المئة. وفي بريطانيا يزاول الشعائر ويقيمها في انتظام البولنديون والفصحيون والمسلمون. ومعظم الفصحيين من السود الأفريقيين والجامايكيين. وهذا قرينة على أن الإحياء الديني يتصل بفئات السكان ولا يترتب على طبيعة الديانات. فهذه تستقطب من هم بالهوامش، على شاكلة حركات الإحياء الديني الكبيرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر الأوروبيين: الحركة المنهجية الميثودية التي غلبت في بلاد ويلز واسكتدلندا وتركت القلب الانكليزي. وبلغ عدد المؤمنين البروتستانت الإسبان 400 ألف في 2005، وكان بضع عشرات من الآلاف قبل عشرة أعوام، ومصدر الطفرة هذه مهاجرون من الأكوادور، بجنوب أميركا، معظمهم من الهنود. ويبدو ان التهافت على الكنائس الأرثوذكسية، غداة انهيار الشيوعية في البلدان السوفياتية، لم يلبث ان انكمش. والحركات أو التيارات الدينية التي يفد اليها المؤمنون الجدد هي، بدورها، ولائد جديدة ومحدثة، فالتيارات الأصولية تتحدر من أصول سلفية ظهرت قبل قرنين أو ثلاثة. والإنجيليون المحدثون يتحدرون من"إحياء"بروتستانتي ظهر في القرن الثامن عشر، والفصحيون لم يعرفوا قبل القرن العشرين. والفرق البوذية والهندوسية المحدثة، مثل سوكاغاكاي، وفالون غونغ، وهار - كريشنا، أو هندوسية الحزب القومي الهندي أو بوذية تيرافادا في سريلانكا، كلها لا ترقى الى أبعد من أواخر القرن التاسع عشر أو أواخر القرن العشرين. وهذا شأن الشيع، مثل المورمون و"شهود يهوه"، كذلك. وعليه، فتوهم"العودة"إنما السبب فيه علاقة الدين الجديدة بدائرة العلانية العامة والمرئية، ويسهم المتدينون في تقوية التوهم هذا، فهم ينشدون استعراض دين"محض"أو خالص. والدين"المحض"هذا هو ثمرة تقاليد جددوا ابنيتها. والمؤمنون الجدد، القادمون من ثقافات وحضارات غير الثقافات الأولى أو الأصلية، هم قرينة على تجديد الأبنية، واختلاط الثقافة والدين، ولا مراء في أن الأشكال الدينية التي استقطبت المؤمنين الجدد هي المذاهب"الأصولية"أو"الكاريزمية"، شأن الانجيليين البروتستانت ومن نحا نحوهم في الديانات الأخرى، فالأصولية هي الشكل الديني الأكثر ملاءمة للعولمة. وهي الأقوى اضطلاعاً بالتحرر من الثقافة الأصلية، والأقدر على التخفف منها، ووسيلتها الى العمومية الكونية أو الى مزاعمها فيها. عن اوليفييه روا مدير أبحاث، كاتب"إخفاق الإسلام السياسي"و"الإسلام المعولم"، "إسبري" الفرنسية، 10/2008 نشر في العدد: 16728 ت.م: 21-01-2009 ص: 25 ط: الرياض