قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس، بما يتصادم مع قرارات الشرعية الدولية، ويتناقض مع نهج الرؤساء الأميركيين الذين أجلوا تنفيذ قرار الكونغرس منذ عام 1995، إنما يرجع أساساً إلى طبيعة الرجل النفسية وخلفيته كشخص قادم من عالم «البيزنس»، مصدر إلهامه مفهوم الصفقة، ومن ثم فلن يفهم كل ما يمكن أن يقوله أو يشعر به مسيحي أو مسلم عربي يرى في المدينة ما هو أكبر من أسواقها وشوارعها، أي ذلك النغم الروحي الذي يجعل منها زهرة المدائن، وموضع تقديس الديانات الإبراهيمية الثلاث. لكن هل يخلو القرار من خلفية ثقافية تبرّره أو جذر ديني يلهمه، ويخلق تجاوباً معه؟ للأسف يوجد هذا الجذر الذي يضمن حداً معقولاً من قبول الأميركيين غير المهتمين بفضائل العدالة الدولية قدر استجابتهم لأفكار دينية خلاصية تنطوي عليها المسيحية الإنجيلية، خصوصاً العقيدة الألفية القائلة بعودة المسيح إلى حكم العالم في نهاية الزمان، وهو اعتقاد له جذور لاهوتية وإن ارتبط صعوده وهبوطه بالتحولات التاريخية. ففي بداية الكنيسة كان ثمة اعتقاد بعودة وشيكة للسيد المسيح، خصوصاً في القرن الأول الميلادي. ولأن فكرة نهاية الزمان كانت تمثل تهديداً لأمن الكنيسة، فقد حاربها القساوسة الأوائل الذين رفضوا التفسير الحرفي للتوراة وفضّلوا عليه التفسير المجازي. وعندما أصبحت المسيحية ديانة رسمية للدولة منذ عام 380م، أخذت الدولة نفسها تحارب هذه العقيدة المهدّدة لأمن الإمبراطورية الرومانية. وقد نجح القديس أوغسطين فى وضع حد لهذه العقيدة في كتابه «مدينة الله» عندما فسّرها مجازياً باعتبارها حالة روحية وليست زمنية. وعلى هذا لم يكن الفكر الكاثوليكي يعتقد في عودة اليهود إلى فلسطين، حيث ساد اعتقاد بأن الفقرات الواردة في العهد القديم، والتي تشير إلى تلك العودة لا تنطبق على اليهود، بل على الكنيسة المسيحية. أما اليهود، طبقاً للعقيدة الرسمية، فاقترفوا إثماً طردَهم الله بسببه من فلسطين إلى منفاهم في بابل. وعندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر نفاهم ثانية، وبذلك انتهى وجود ما يسمى «الأمة اليهودية» إلى الأبد، وإن ظللوا كأفراد، قادرين على تحقيق الخلاص الروحي من خلال اعتناق المسيحية. أما نبوءات عودة اليهود فكانت تُؤول على أنها عودة من المنفى في بابل، وقد تحقق ذلك في القرن السادس قبل الميلاد حين أعادهم القائد الفارسي قورش إلى فلسطين. أما الفقرات الأخرى التي تتنبأ بمستقبل مُشرق لإسرائيل، فكانت تُحمل على «إسرائيل الجديدة»، أي الكنيسة المسيحية التي كانت تُعتبر «إسرائيل الحقيقية» التي ورثت اليهودية. آنذاك لم تكن القدس توصف بأنها صهيون اليهودية، بل مدينة العهد الجديد، ولم تتضاءل أهميتها كمدينة مقدسة إلا بعد عام 590م، حين أصبح عرش البابا غريغوري «العظيم» مركزاً للسلطة المسيحية. حتى ذلك الوقت، كانت الكنيسة تنظر إلى دراسة العبرية كبدعة يهودية أو تسلية للهراطقة، اتُخذت خطوات عنيفة لاجتثاثها طوال القرون الوسطى. لكن الأمر تغيّر منذ عصر النهضة، فأصبح طلاب العلم يتقنون العبرية مع اللاتينية واليونانية، وسرعان ما أصبحت معرفة العبرية جزءاً من الثقافة الأوروبية العامة. أما حركة الإصلاح البروتستانتي فجعلتها جزءاً من منهج الدراسات اللاهوتية. وعندما تُرجم الكتاب المقدس إلى اللغات القومية المختلفة، في أعقاب ترجمة مارتن لوثر إلى الألمانية، أصبح ما ورد في العهد القديم من تاريخ ومعتقدات وقوانين العبرانيين وأرض الميعاد، أموراً مألوفة في الفكر الغربي، وغدت قصص وشخصيات العهد القديم مألوفة، بل عاد يسوع نفسه إلى مكانه في المخيلة المسيحية باعتباره نهاية سلسلة طويلة من الأنبياء العبرانيين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين صاروا محلاً للتبجيل بديلاً من القديسين الكاثوليك. ولما كان التعليم الذي يتلقاه معظم الناس يتكون أساساً من قراءة الأدب التوراتي، فقد أخذت الأجيال اللاحقة تعتبر فلسطين بمثابة الوطن اليهودي، فلا هجرة سوى هجرة إبراهيم، ولا وجود لمملكة غير مملكة داود التي سبقتها وتلتها ممالك كثيرة، ولم يعد الناس يذكرون من الثورات إلا ثورة المكابيين، وكان يبدو وكأن لا وجود للشعوب الكثيرة التي عاشت في فلسطين، مع أن معظمها عاش فترات أطول من اليهود. كان مستحيلاً أن يتشرّب المرء تاريخ العهد القديم، وأن يسترجعه كوحي سماوي، ولا يحترم الشعب الذي دار في فلكه، ومن ثم أخذت فكرة الشعب المختار تحتل بؤرة الفكر البيوريتاني. والبيوريتانيون هم البروتستانتيون الأتقياء المتمسكين بأهداب الدين والأخلاق الفاضلة، وقد نشأت جماعتهم في بريطانيا أساساً، ودعموا ثورة كرومويل، وبرحيله عانوا اضطهاداً دفعهم إلى الهجرة أولاً إلى هولندا، ثم من هولندا وإنكلترا إلى العالم الجديد الذي اعتبروه الأرض الجديدة، ومن ثم إلى تأسيس الاتحاد الأميركي بعد الاستقلال عن وطنهم الأم. ومثلما أصبحت البيوريتانية- بعقيدتها الألفية- في مركز القوة داخل العالم المسيحي، صارت فكرة البعث اليهودي تجد قبولاً على نطاق واسع. وبعد أن كان هناك فصل واضح بين شعب العهد القديم العبري، الذي كان يعتبر مثالياً، واليهود المعاصرين الذين كان يُنظر إليهم بازدراء، فقد تلاشى هذا الفصل ليصبح العبرانيون التوراتيون أسلافاً حقيقيين لأبناء دينهم المعاصرين، وساد الاعتقاد بين البروتستانت بأن اليهود المشتتين حالياً سيُجمعون من جديد في فلسطين للإعداد لعودة المسيح، وتطور الاهتمام بالتوراة باعتبارها كلمة الله، وأصبح العهد القديم هو المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد، باعتباره مصدر المسيحية النقية، والطريق إلى فهم النصوص بمعناها الواضح البسيط وليس اللاهوتي المعقد. انتقل الإحياء العبراني هذا من أوروبا إلى العالم الجديد عبر حركة الكشوف الجغرافية، ففي رحلته إلى أميركا كان كريستوفر كولومبس على ثقة في أنه قارب الوصول إلى الفردوس الأرضي. كما كان يؤمن بأن النبوءة المتعلقة بنشر الإنجيل في كل بقاع الأرض لا بد من أن تتحقق قبل نهاية العالم الذي لم يكن يومه ببعيد، وأن ذلك اليوم سوف يسبقه افتتاح القارة الجديدة، واعتناق الوثنيين المسيحية، والقضاء على المسيح الدجال. كما كان يعتقد أن اكتشافه سوف يقود في النهاية إلى تحرير القدس من المسلمين وإعادة بناء المعبد، وأنه سوف يستخدم الذهب الذي يجده في العالم الجديد لإعادة بناء الهيكل مركزاً للعالم و «حلمة» للكرة الأرضية. كانت أوروبا، في نظر المستعمرين الأوائل، تمثل عالماً منحطاً وجحيماً، على النقيض من فردوس العالم الجديد وكان القول الشائع آنذاك: «إما السماء وإما أوروبا» يعني بالضبط إما السماء وإما الجحيم. وبانتصاف القرن السابع عشر، بدأ التوتر يتصاعد بين المستعمرين ووطنهم الأم، حيث رأى البيوريتانيون أن الإصلاح الديني الإنغليكاني كان ناقصاً. بل ذهب البعض إلى أن الممارسات الدينية المتبعة في إنكلترا من صنع المسيح الدجال، على نحو أحلها منهم موقعاً يشبه موقع روما من المسيحيين الأوائل، ومن ثم شرع المستعمرون الأوائل، بوصفهم شعباً مختاراً، ينظرون إلى رسالتهم في العالم الجديد باعتبارها مرحلة جديدة من التاريخ سوف تشهد بزوغ فجر الإنجيل وشروق شمسه في إنكلترا الجديدة (نيو إنغلاند). وعلى رغم أن إعلان الاستقلال الذي كتبه «جيفرسون» مع «جون أدامز» و «فرانكلين»، وصادق عليه مؤتمر المستعمرات يوم 4 تموز (يوليو) 1776م كان بمثابة وثيقة تنويرية، أساسها حقوق الإنسان التي كان جون لوك ينادي بها، كالحق في الحياة والحرية ونشدان السعادة، ولم يكن فيه أي إشارات غيبية أو يوتوبية على شاكلة عقيدة السعادة الألفية، فإن الأغلبية الساحقة من الأميركيين كانت كالفينية، ومن ثم اختلطت لديهم الأيديولوجية العلمانية بالأفكار الدينية في صورة خلاقة أتاحت للمستوطنين، على التفاوت الشديد بينهم، أن ينظموا صفوفهم تحت علم أميركا لمحاربة القوة الإمبريالية لإنكلترا، وإنشاء أول جمهورية علمانية حديثة. ومع أن العقيدة الألفية لم تسد في أوساط البروتستانتية الرئيسة، فإنها تسربت إلى أوساط الجماهير، واستمرت في استقطاب الأنصار حتى بلغت ذروتها مطلع القرن العشرين، في مذهب العصمة الحرفية للكتاب المقدس، بين المسيحيين الإنجيليين الذين يؤمنون بسفري دانيال وحزقيال في العهد القديم، ورؤيا يوحنا في العهد الجديد، وجميعها تبشر بالعودة الثانية للمسيح، حيث يعود اليهود، بعد فاصل طويل من الاحتقار، إلى موقع الشعب المختار الذي تبقى عودته إلى أرض الميعاد وقيامه ببناء الهيكل، بشارة العصر الألفي السعيد. وهنا تقبع إسرائيل في قلب خطة الرب لنهاية التاريخ. فمع خراب أورشليم وتدمير الهيكل عام 70م اتجه الله إلى الأمم/ الأغيار ليقيم علاقة مباشرة معها، لكن مع المجيء الثاني للمسيح سوف ينتهى زمن الأمم، ويعود الله مرة ثانية إلى إسرائيل وحدها. ورغم أن المسيح رفض تأسيس ملك أرضي، وهو ما دعا اليهود إلى رفض نبوته، فإن مجيئه الثاني سيكون تلبية لحلم اليهود القديم في مسيا مسلح/ ماشيح للقوة والعنف، وبهذا تعود المسيحية إلى الشجرة الأم، ما يعني أن المسيحية ليست إلا مرحلة وسطى تنتهي بانتهاء مهمتها، مع عودة المسيح لمواجهة قوى الشر في العالم، وهزيمتها لصالح الشعب المختار، في موقعة دموية قاسية يُقتل فيها ثلثا العالم، وبعد الانتصار يقوم المسيح بحكم العالم ألف عام. وعلى العكس من ذلك، يرى المسيحيون الإنجيليون أن عودة اليهود إلى أرض الميعاد ليست انتصاراً لليهودية، بل مجرد حدث تدشيني يمهد لعودة المسيح وتحول اليهود أنفسهم إلى المسيحية هدفاً نهائياً، ومن ثم فإن الحب الذي يظهره البيوريتانيون لليهود ليس نابعاً من القلق عليهم، بل من دورهم المرسوم في خطة الخلاص. وبينما كانت وصية المسيح الأخيرة للتلاميذ: «اذهبوا إلى العالم أجمع وأكرزوا بالإنجيل» (مرقص، 16: 15)، فإن الأصوليين الإنجيليين يضربون هذه الوصية في الصميم، برفضهم تقديم الإنجيل إلى اليهود قبل أن يعودوا إلى فلسطين، ومن ثم تنشأ «المسيحية الصهيونية» التي تدفع نحو تمكين اليهود «موقتاً» في أرض الميعاد، باعتبارها نقطة انطلاق خطة الرب نحو الخلاص التاريخي ونظام السعادة الألفي، وهنا يبدو جوهر العلاقة بين المسيحية الإنجيلية والصهيونية اليهودية، كعلاقة لصوص، مودتهم موقتة ومحبتهم عارضة، تنتظر لحظة الصدام ونقطة الافتراق. ولأن الهيكل لم يبن بعد، والمسيح لم يعد حتى الآن، فإن لحظة الصدام تبدو مؤجلة، كما يبدو تعضيد إسرائيل وكأنه لاهوت أخلاقي صار ينعكس سياسياً في بنية النظام الأميركي، خصوصاً منذ سبعينات القرن العشرين، ضمن موجة إحياء ديني عالمي شملت أيضاً الإسلام والهندوسية، حيث تشكل اليمين السياسي المحافظ على قاعدة اليمين المسيحي الأصولي كقاعدة قوية للحزب الجمهوري. وفي موازاة ذلك، نسجت العلاقات الأميركية- الإسرائيلية على منوال غريب، يكاد لا يضاهي في العلاقات الدولية أي دولة أخرى، حتى بريطانيا نفسها، المفترض أنها الدولة الأم، حيث تم النظر إلى إسرائيل كولاية أميركية، واعتُبر أمنها جزءاً من الأمن القومي الأميركي، وحمايتها هدفاً أساساً في كل استراتيجيات التحرك في منطقتنا، بل إن جميع السلوكيات العدوانية التي قامت بها إسرائيل من حروب هجومية وتوسّعات استيطانية واغتيالات دائمة، قد لاقت تأييداً لا يمكن تفسيره إلا على تلك الأسس العاطفية والدينية، من قبل عموم الإنجيليين الأميركيين، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، حيث تتم محاولة قضم القدس، عاصمة الروح الإنسانية والديانات الإبراهيمية الثلاث، ليس فقط بتأييد أميركي من متدينين، بل بتحريض على مستوى رئاسي، ولعل هذا هو الجديد والخطر في الأمر.