تبدو ظاهرة الرؤساء الأكاديميين في البلقان غريبة في ظل وصول هؤلاء في أعقاب حروب قومية وأهلية مريرة، اذ عادة ما تتوج حروب من هذا النوع برؤساء قادمين من الجيوش او الميليشيات لا من الجامعات. في البلقان اختلف الأمر في البوسنة اولاً مع الرئيس حارث سيلاجيتش، ثم مع الرئيس الكوسوفي فاتمير سيديو استاذ الاقتصاد ووريث الزعيم الكوسوفي التاريخي ابراهيم روغوفا. سيديو يتزعم"الرابطة الديموقراطية الكوسوفية"التي تعتبر حزب النخب المدينية المتعلمة في كوسوفو، وهي اليوم تمثل الوجهة الاستقلالية المعتدلة في الدولة الجديدة، وهذا الخيار يمثل حاجة ملحة لكوسوفو في ظل الرقابة الدولية على الاستقلال التي تشترط ان تكون كوسوفو دولة لكل مواطنيها في ظل مخاوف الأقليات، وخصوصاً الصربية منها، بأن تدفع الغالبية الألبانية نحو 90 في المئة من عدد السكان باتجاه الاقتراب من ألبانيا. "الحياة"التقت الرئيس سيديو وأجرت معه هذا الحوار: هل تشعرون بأن ما جرى في جورجيا سينعكس سلباً عليكم؟ - يؤسفني طبعاً ما حدث في جورجيا، وهو أدى الى فوضى ومآس في تلك المنطقة، ولكن ليس هناك ما يدعو الى أن نربط ما جرى هناك بما يجري عندنا هنا في كوسوفو. ففي كل المفاوضات التي حصلت كان يتم التركيز على أن كوسوفو هي حالة خاصة لا تمكن مقارنتها بغيرها، وهذا أعطى استقلالنا بعداً قوياً. ونحن ركزنا على أن لكوسوفو وضعية خاصة لا تتشارك بها مع أي حالة أخرى، بما في ذلك صربيا. المعروف أن كوسوفو كانت تحت الاحتلال الصربي، ولكن قبل الاحتلال الصربي كانت كوسوفو وحدة فيديرالية، ضمن الاتحاد اليوغوسلافي، وبالتالي كوحدة فيديرالية، كان لها حق الاعتراض على القرارات الفيديرالية، مثلها مثل كرواتيا وصربيا وغيرها. وديموغرافياً، كانت كوسوفو الوحدة الفيديرالية الثالثة من حيث عدد السكان بعد صربيا وكرواتيا. ومن حيث البعد الاثني، لا يوجد ما يربطها مع الدول الأخرى التي لم ترد أن تعيش مع صربيا في اتحاد أو دولة. المعروف أن في عهد سلوبودان ميلوشيفيتش، حصلت مجازر جماعية، وكان هناك سيناريو للتخلص من الألبان في كوسوفو، وهو ما تم تطبيقه من خلال"الجينوسايد"أو التطهير العرقي الذي شهده بلدنا، وبسبب ذلك حصل التدخل الدولي، وكوسوفو مضى عليها سنوات وهي تحت الإدارة الدولية، وخلال هذه السنوات تم تأسيس المؤسسات الديموقراطية بالاستناد الى الاختيار الحر لسكانها، وبالتالي لكوسوفو حدودها المعروفة التي لم تكن موضع تشكيك من أحد. وروسيا في السابق كانت عضو لجنة الاتصال التي كانت تتابع وتقرر كل ما يتعلق بكوسوفو، وحتى في ما يتعلق باحترام رغبة الشعب ووحدته الذاتية والسيرورة السياسية. لذلك نحن نعتقد أن محاولات روسيا اللاحقة لعرقلة الاستقلال الكوسوفي هو جزء من تعقيدات علاقتها بالغرب ومن شروط ترتيب الأوضاع في مناطق أخرى من العالم. كوسوفو دولة مستقلة اعترفت بها حتى الآن 43 دولة، ونحن نأمل ونعتقد أنه ستكون هناك اعترافات أخرى بنا. وكوسوفو دولة مستقلة لكل سكانها، ويعيش فيها 90 في المئة من الألبان و10 في المئة من أقليات مختلفة، ولكن الجميع يعاملون بالمساواة مع الأكثرية. هل انتم راضون عن مستوى الاعتراف الدولي بجمهورية كوسوفو؟ - نحن راضون عن القرارات التي اتخذت في اللحظات الأولى بعد إعلان الاستقلال، ولكن نحتاج الى أن تكون هناك اعترافات أخرى، ولا أكتمكم أننا كنا نعتقد أننا سنُستقبل باعترافات أكبر في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، ولكن للأسف الدول التي اعترفت بنا في هذه المنظمة عددها محدود، ولكن أعتقد أنه لا توجد أسباب حقيقية للتردد في الاعتراف. نحن نعتقد ونسعى الى أن تكون لكوسوفو علاقات مع كل الدول في العالم الديموقراطي. هل تلمحون الى أن هناك احتجاجاً كوسوفياً على عدم حصول اعتراف كافٍ من الدول الإسلامية بكم؟ - هناك مرارة في كوسوفو جراء التردد العربي في الاعتراف بنا. ومرد ذلك الى أسباب كثيرة، فهناك دول ليست بعيدة عنا اعترفت بنا، ونحن نقدر أن العالم الإسلامي يقدر حرية الشعوب وحرية تقرير المصير، والعالم الإسلامي تعاطف مع مأساتنا وما تعرضنا له خلال الحكم الصربي. الدعاية الصربية تقوم بمهمة التشويش وتزوير الحقائق، فربما هناك وهم هو أن يوغوسلافيا مؤسسة دول عدم الانحياز ورثتها صربيا. ولكن الصحيح هو أن صربيا كانت المسؤولة عن تحطيم فكرة يوغوسلافيا، وبالتالي لا يحق لصربيا أن تستند الى ماض ساهمت هي في تدميره. صربيا تلعب بورقة أخرى، فتتهمنا بأننا دولة إسلامية، وبالتالي نحن أصوليون ولا داعي لأن يكون في أوروبا دولة إسلامية. نحن نقول إننا دولة علمانية، وحرية الدين مضمونة للجميع، في حين أن صربيا تحاول أن تسوِّق في العالم الإسلامي أنها ساعية الى الانتماء الى منظمة المؤتمر الإسلامي. ونحن نتمنى أن لا تستخدم كوسوفو كقضية للصراع بين الأديان وهو ما تحاول صربيا الإيحاء به. فكما تعرفون القوات الصربية هي التي دمرت المساجد في كوسوفو، في حين أن لدى الألبان مشاعر اعتراف واحترام للأديان الأخرى. لا يوجد بلد ضحية في العالم يطلب تجاوز الصفحة التي ظلم خلالها مثلنا. لم نعد نطلب اعتذاراً من صربيا، ولم نفعل ذلك بسبب شعور بالدونية، ولكن بسبب تقديرنا لأهمية الاستقرار والأمن لهذه المنطقة. هل تعتبرون أن كوسوفو وطن نهائي للكوسوفيين أم ان المخاوف التي يطلقها الصرب لجهة احتمال انضمامكم الى ألبانيا صحيحة؟ - كل معارضي الاستقلال الكوسوفي كانوا يقولون ذلك الكلام. كانوا قبل الاستقلال يقولون ذلك وما زالوا يقولونه، وبعضهم من أحرجهم استقلالنا، يقول الآن أنه لم يعد في الإمكان أن تقوم ألبانيا الكبرى فصاروا يقولون بكوسوفو الكبرى، وفي هذا تلميح الى احتمال انضمام ألبان مقدونيا إلينا. نحن لا يعيقنا ولا يزعجنا أن تكون ألبانيا دولة مستقلة وكوسوفو دولة مستقلة وأن تبقيا كذلك وأن نحترم الأمر الواقع، وهو ما حدث في مناطق كثيرة من العالم، كالعالم الألماني وأميركا اللاتينية وفي العالم العربي. وبالتالي نحن نتمنى على هذه الدول أن تطور روح التعاون، وأن تكون مقدمة للاندماج في الاتحاد الأوروبي. والادعاءات التي تأتي من الناحية الصربية نرد عليها بعبارة واحدة: هم كانوا يعملون من أجل صربيا الكبرى، وهذا المشروع أدى الى المآسي التي حلت بسلوفينيا وبوسنيا، ولذلك هذا الحلم لم يتبخر من عقولهم وكوسوفو كانت جزءاً من هذا المشروع. وضمن هذا المشروع صربيا الكبرى تعرضنا الى موجات كبرى من التهجير منذ عام 1878 الى 1912 إذ حصل تطهير عرقي في منطقة نيش في جنوب صربيا حالياً لم يترك أثراً للألبان هناك والموجة الكبرى الثانية من 1912 الى 1914 وأدت هذه الموجة الى تهجير بعض الألبان الذين وصلوا الى سورية والموجة الثالثة من 1915 الى 1918 ومن ثم من عام 1948 الى 1966 والموجة الخامسة خلال حكم ميلوشيفيتش بطبيعة الحال. وهذه الموجات الكبرى أدت الى تشتيت مئات آلاف الألبان في الدول المجاورة كألبانيا وتركيا وبلاد الشام. إنه وهم صربيا الكبرى. نحن لا نقول بوجود شعب سماوي اسمه الشعب الألباني، ولكن هم يتحدثون عن الشعب السماوي الصربي. كل الشعوب خلائق الله ويجب أن تتمتع بالمساواة. يقول الصرب إن علاقتهم بكوسوفو تتعدى الوجود الديموغرافي، إذ هناك وجود تاريخي لهم في هذه المنطقة، فكيف يمكن أن ترعى دولة كوسوفو علاقة الصرب بتاريخهم في هذه الجمهورية؟ - سأجيب على مستويات عدة، أولاً لا نريد أن ندخل في أعماق التاريخ، ولكن التاريخ في كوسوفو لا يبدأ معهم لأن وجودنا سابق على وجودهم، فكما هو معروف جاء الصرب الى كوسوفو في نهاية القرن الثاني عشر في حين أن الألبان موجودون منذ قبل هذا التاريخ، وبالتالي كل المنشآت الدينية القديمة تعتبر في أساسها لسكان الإقليم الأوائل، والألبان حموا هذه المنشآت الصربية وكأنها منشآتهم، وانطلاقاً من ذلك ماذا نقول لتركيا التي لها منشآت تاريخية كثيرة هنا واستمر نفوذها هنا 500 سنة. ليست المنشآت الصربية وحدها، إنما كل المنشآت التاريخية يجب أن تحمى وتصان. ونحن في الضمانات الدولية للاستقلال وافقنا وبكل سرور على أن نتشارك في حماية هذه المنشآت الدينية وهذا دخل في الدستور. ومن المعروف أنه في السنوات السابقة للاستقلال الصرب هم من دمّر المنشآت وليس الألبان. الإشراف الدولي على صوغ دستور كوسوفو ألا يعيق رغبات الكوسوفيين؟ أم انهم راضون عن ما يرغب فيه المجتمع الدولي لهم وما أملاه عليهم في دستورهم؟ - كانت لدينا سيرورة صعبة للمفاوضات، ولذلك قدمنا تنازلات كبيرة. لكننا كنا راضين عنها. ولذلك وافقنا في الدستور والقوانين المتفرعة منه على أمور تتجاوز المعايير الدولية المعروفة. الصرب الآن أقل من 5 في المئة، وبالتالي هناك نص في الدستور يؤكد أن اللغة الصربية لغة وطنية تتساوى مع اللغة الألبانية التي هي لغة 95 في المئة من السكان. وللصرب نسبة وكوتا في البرلمان تبلغ 10 مقاعد من أصل 120 مقعداً، ولهم وزيران في الحكومة وهذا خارج إطار التحالفات السياسية، إذ من الممكن أن تؤدي تحالفاتهم الى حصولهم على 20 مقعداً. ولديهم نسب محفوظة في الإدارات المحلية، ولهم نظام خاص للإدارة المحلية يعطيهم قدراً كبيراً من الحكم الذاتي. لا أعتقد أن هناك مكاناً آخر في أوروبا يتواجد فيه هذا القدر من الإدارة المحلية. صحيح أن مواطنين كوسوفيين كثراً كانوا منزعجين من هذه التنازلات ولكن نحن قدمناها حتى نضمن اندماج الصرب والأقليات الأخرى في هذه الدولة. يمكن الحديث عن الدستور الكوسوفي على مستويين، الأول ما سمي مقدمة اهتيساري والثاني المبادئ الأخرى المتعارف عليها في دساتير العالم. لذلك في كوسوفو سيكون هناك وجود دولي لمرحلة لاحقة أيضاً، ونأمل بأن تنتهي مهمات الإدارة الدولية سريعاً، ونأمل بأن تساعد البعثة الأوروبية في تكريس هذه التحولات القانونية للدولة الجديدة. ولكن ليس لفترة طويلة، ونأمل بأن تساعد هذه البعثة في التنمية والاندماج في الاتحاد الأوروبي. هناك مجموعة من صرب كوسوفو هاجروا وعودتهم تتطلب مصالحة. فهل أنتم مستعدون لتقديم تنازلات لدفع هؤلاء للعودة؟ - نعم نحن نشجعهم على العودة والاندماج في الدولة الجديدة ولا نميل الى تذنيب الشعب الصربي. هناك أفراد قاموا بجرائم ولكن يجب العمل على عدم تحميل الذنوب لجميع الصرب. بالأمس كنت بزيارة لقرية كوسوفية قتل من أبنائها 240 فرداً ولذلك عندنا أيتام، وهناك قرى لم يبق فيها إلا نساء، وهؤلاء يمكن أن يتوجهوا الى العدالة الدولية للمطالبة بحقوقهم، ولكن لا يمكن أن نحمل مسؤولية ذلك لجميع الصرب. هناك قسم من الصرب هاجر، على رغم أن صربيا تبالغ وتقول إن هناك 300 ألف هاجروا منهم 200 ألف في صربيا وحدها، وهذا أمر غير صحيح، فآخر إحصاءات صربية أجريت عام 1991 تقول إنه كان يعيش في كوسوفو 190 ألف صربي منهم المستوطنون الذين أحضرهم ميلوشيفيتش، وأنا أعتقد أن كل المواطنين يجب أن يعودوا، ويجب أن نقوم بمشاريع تنموية تشجع هؤلاء على العودة. بعض الذين هاجروا يقدرون ما جرى من مجازر، ولذلك لا يكون الصربي مرتاحاً عندما يقوم مواطن صربي آخر بالقتل. أنا أتنقل بين القرى الصربية، والناس الذين عادوا أشجعهم على البقاء وعلى تمييز أنفسهم عن السياسة الصربية. للأسف لم يتغير شيء في السياسة الصربية تجاه كوسوفو، فمثلاً الحكومة الصربية ضغطت على العناصر الصربية في الشرطة الكوسوفية للانسحاب من الشرطة أو من الجمارك أو القطاعات العامة، ومع ذلك ما زلنا ندفع لهم الرواتب. في قرية قرب مدينة ميتروفيتسا بنينا لهم منازل جديدة ودعوناهم الى العودة، وبعد أن تسلموا مفاتيح منازلهم أعادوها بضغط من الحكومة الصربية، في حين لم نبن كحكومة أي منزل لأي ألباني على رغم أنه من المعروف أن 180 ألف منزل ألباني تم تدميرها من قبل النظام في صربيا. لذلك نتوجه بالدعوة الى الجميع للعودة، فلدينا في دول الاتحاد الأوروبي اكثر من 500 ألف كوسوفي هجروا من قبل نظام ميلوشيفيتش. هل تلقيت وعوداً من دول عربية باعتراف وشيك بالدولة الكوسوفية؟ - هناك بعض الاتصالات مع الدول العربية ومع ممثليها في المؤسسات الدولية، وخلال وجودي في الأممالمتحدة التقيت بعض السفراء وكانت لبعضهم نيات جيدة حيالنا، وكانت هناك مناسبة أخرى في مؤتمر منظمة الدول الإسلامية في داكار حيث شارك من هنا وزير التربية كممثل لي وهناك التقى مسؤولين عرباً. وهناك أصدقاء مشتركون يتولون اتصالات أخرى. في الأفق الآن مبادرات للقيام بزيارات على مختلف المستويات. نحن ننتظر اعتراف هذه الدول بنا، ونأمل بحصول ذلك، لأن هناك الكثير من القيم التي تجمعنا، بما فيها أن غالبية السكان في كوسوفو هم مسلمون، على رغم أننا دولة علمانية تعددية. نحن في أوروبا ونؤكد التعاون الأوروبي.