ليس من السهل لأحدث دولة في أوروبا كوسوفو أن تشق طريقها في السنوات المقبلة. وليس هذا بسبب الموقف الصربي، إذ تعهد رئيس الوزراء فويسلاف كوشتونيتسا عشية الاستقلال بأن صربيا لن تترك هذه الدولة تنعم بالاستقرار ولو للحظة، بل انه يكمن أساساً في التخلص من عبء الماضي. عبء الماضي ثقيل على الألبان في كوسوفو ولا يمكن لهم أن يتخلصوا منه بسهولة، وهو ما لا بد منه، حتى يكون لهم مستقبل أوروبي أولاً ودولي ثانياً. صحيح أن للصرب تاريخهم في كوسوفو، وهو جزء من تاريخ كوسوفو الطويل، ولكن الألبان لهم تاريخهم الأطول والأمرّ. فبلغاريا المجاورة حكمت كوسوفو كما حكمتها صربيا، وكانت تطالب أيضاً بكوسوفو بالاستناد الى تركة القرون الوسطى حتى منتصف القرن العشرين، حيث حصلت على قسم منها بعد انهيار يوغوسلافيا في ربيع 1941. ولا يزال الألبان الى الآن يتذكرون بمرارة سنوات"التحرير"البلغاري خلال 1941-1944. ومع أن للبلغار والصرب تاريخهم وتأثيرهم في كوسوفو القروسطية، كانوا يبررون به كل ادعاء لهم باستعادتها، فإن للألبان تاريخهم أيضاً. قد تكون كوسوفو القروسطية"قلب صربيا"ولكن كوسوفو هي أيضاً"قلب الألبان"أو"مهد الألبانوية"أو الحركة القومية الألبانية. فيها عقدت"رابطة بريزن"في صيف 1878 التي تعتبر الانعطاف الكبير في التاريخ الألباني الحديث، حيث اجتمع ممثلو الألبان من مسلمين ومسيحيين للمطالبة بحكم ذاتي ضمن الدولة العثمانية على نمط ما حصل عليه الصرب قبلهم. وقد كان للحراك الألباني الحاشد في كوسوفو في مدينة فريزاي خلال تموز/ يوليو 1908 دوره في إرغام السلطان على إعلان الدستور، كما أن ألبان كوسوفو تصدوا بالسلاح للسياسة المتعصبة لپ"الاتحاد والترقي"، وهم من قاموا بالثورة المسلحة في صيف 1912 وسيطروا في ذروتها على عاصمة الولاية وأرغموا اسطنبول في 12 آب أغسطس 1912 على الاعتراف لهم بنوع من الحكم الذاتي. وعوضاً عن الأفراح التي كانوا يستعدون لها نتيجة لانتصارهم جاءتهم الأتراح من صربيا والجبل الأسود عندما شنت مع بلغاريا واليونان الحرب ضد الدولة العثمانية في خريف 1912 لتبدأ مع ذلك ما سمي"الحرب البلقانية"التي غيرت الخريطة السياسية للبلقان. تصادف أن كان هناك ليف تروتسكي ليغطي الأحداث للجرائد التي كان يراسلها في شبابه، فصدم لما شاهده هناك من ممارسات جيوش"التحرير"ضد المدنيين المسلمين الأبرياء، وهو ما عبّر عنه بأمانة في تقاريره التي صدرت لاحقاً في كتاب. وذهب تروتسكي الى البلقان متأثراً بالدعاية الروسية/ الصربية عن"حرب التحرير"لإجلاء العثمانيين عن أوروبا، ولكنه فوجئ هناك بالقتل والنهب والسلب ضد المدنيين المسلمين الأبرياء. مجازر جماعية ضد الألبان في ضواحي بريشتينا وغيرها خلال"الحرب البلقانية"مما كان له صدى في الصحافة الأوروبية. والغريب هنا، لمن يظن ان كوسوفو هي"قلب صربيا"، أن بلغراد وافقت على اقتسام كوسوفو في 1912 مع الجبل الأسود، حينها أخذت شرق كوسوفو وتركت غرب كوسوفو مع مدينة بيتش مقر البطريركية الصربية الى الجبل الأسود. وتعد تلك السنوات من التاريخ الأسود للبلقان وليس للألبان فقط. إذ صادف أن كانت هناك الباحثة البريطانية المتخصصة في البلقان اديث درهم في 1912-1913 وشاهدت ما لم تتوقعه من ممارسات بربرية وثّقتها في كتابها"عبء البلقان"الذي أصدرته في لندن. وعلى رغم ذلك فإن القوى الكبرى في"مؤتمر لندن"1912-1913 كانت واعية الى ما حصل ويحصل، لكن كانت تتجاذبها المصالح والتحالفات، وكانت روسيا مع فرنسا تؤيد ضمّ ما احتلته صربيا والجبل الأسود كوسوفو وألبانيا بينما كان الطرف الآخر المعارض لتوسع النفوذ الروسي بريطانياوالنمساوألمانيا تصرّ على حق الألبان في دولة مستقلة. وكحل وسط، لتجنب اندلاع نزاع أوروبي، تم التوصل الى تشكيل دويلة مستقلة ألبانيا تشمل نصف الألبان فقط وضم كوسوفو الى صربيا لتجنيب أوروبا خطر الحرب. وكان وزير الخارجية البريطاني ادوار غراي رئيس المؤتمر واعياً للظلم الذي وقع على الألبان، فقال في تصريح شهير له"حين تعرف كل الحقائق فان هذا القرار سينتقد بحق من الذين يعرفون المنطقة والذين يعرفون طموحات السكان هناك، ولكنه كان يجب تجنب النزاع المباشر بين القوى الكبرى بأي ثمن". وجاء اندلاع الحرب العالمية الأولى رحمة للألبان، حيث انشغلت صربيا في الحرب مع النمسا ثم قامت القوات النمسوية باختراق صربيا وصولاً الى كوسوفو، حيث اعترفت للألبان بنوع من الحكم الذاتي الذي أعاد إليهم الروح. ومع إعلان قيام"مملكة الصرب والكروات والسلوفيين"يوغوسلافيا لاحقاً في 1918 لم يسأل أحد الألبان عن رغبتهم بل أن الحلفاء المنتصرين بريطانياوفرنسا أيدتا حليفتهما صربيا في تشكيل دولة كبرى يوغوسلافيا تهيمن عليها بلغراد. وخلال يوغوسلافيا الأولى 1918-1941 عاش الألبان أسوأ فترة لهم، حيث تعرضوا لمختلف الضغوط لاقتلاعهم وتهجيرهم الى تركيا. ومع أن عشرات الألوف من الألبان استسلموا للضغوط وهاجروا، إلا أن ذلك لم يرض بلغراد، بل كانت تريد أن تتخلص من الأكثرية الألبانية المسلمة لتعيد كوسوفو كما كانت في القرون الوسطى"قلب صربيا". وهكذا وقعت بلغراد في صيف 1938 على اتفاق مع تركيا لترحيل 40 ألف أسرة من"صربيا الجنوبية"كما أصبحت تدعى كوسوفو الى تركيا لتوطينهم في الأناضول. وجاء أيضاً اندلاع الحرب العالمية الثانية رحمة على الألبان أن هذه الاتفاقية لم تنفذ كما أن انهيار يوغوسلافيا في ربيع 1941 سمح للطرف المنتصر ألمانيا وإيطاليا وبلغاريا أن يتقاسموا كوسوفو. وبناء على ذلك ضم حوالى ثلثي كوسوفو الى ألبانيا في 12 تموز 1941. وخلال السنوات اللاحقة 1941-1944 عادت الروح ثانية الى الألبان في كوسوفو بعد طول حرمان من حقهم في الأرض وحتى من حقهم في استخدام اللغة كان حق تعلم اللغة في المدارس غير مطروح بالمرة. ومع بروز الحزب الشيوعي اليوغوسلافي بمشروعه لتحرير وتوحيد يوغسلافيا على أساس طوعي/ فيديرالي قيل للألبان في كوسوفو إنكم لكي تكسبوا حق تقرير المصير عليكم أن تقاتلوا الاحتلال الألماني/ الإيطالي مع"البارتيزان". وبالفعل قاتل الألبان مع"البارتيزان"وشكلوا وحداتهم القتالية وصولاً الى تشكيل"المجلس الإقليمي الشعبي"الذي اعتبر السلطة العليا الممثلة لسكان كوسوفو. واجتمع هذا المجلس في أول مؤتمر له في قرية بويان على الحدود الكوسوفية الألبانية وأصدر في 1/1/1944 بياناً تاريخياً يقول إن الأكثرية في كوسوفو ترغب في الانضمام الى ألبانيا في دولة واحدة. ولكن الوضع تغير بعدما سيطر"جيش التحرير"اليوغوسلافي على كل كوسوفو وفرض عليها في صيف 1945 الأحكام العرفية، حيث دعي المجلس نفسه الى الانعقاد في مدينة بريزرن وفرض عليه أن يصدر قراراً في10 تموز 1945 يعبر فيه عن رغبة سكان كوسوفو بالانضمام الى صربيا وليس الى يوغوسلافيا وهو ما وافق عليه"مجلس الشعب"في صربيا في 23 تموز 1945. في يوغوسلافيا الجمهورية تحت حكم الحزب الشيوعي حصلت كوسوفو على حكم ذاتي محدود في صربيا ثم على حكم ذاتي واسع بموجب دستور 1974، حيث اعتبرت كوسوفو إحدى المكونات الفيديرالية الثمانية المؤسسة ليوغسلافيا، أي ان هذه الوحدات تآلفت برغبتها في تكوين الفيديرالية. وعاشت كوسوفو آنذاك أحلى أيامها، حتى ان وضع ألبان كوسوفو أصبح أحسن من وضع إخوانهم في ألبانيا تحت حكم أنور خوجا. ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، حيث برز سلوبودان ميلوشيفيتش في 1986-1987 ليمثل الصعود القومي الجديد الذي يعتبر ان يوغوسلافيا التيتوية غدت لمصلحة الآخرين على حساب الصرب، وانه آن الأوان للصرب أن يتّحدوا في دولة واحدة تحفظ لهم حقوقهم ومصالحهم. وفي هذا السياق انطلق ميلوشيفيتش من كوسوفو، التي ألغى فيها الحكم الذاتي الواسع، ليوسع سيطرته على كل يوغوسلافيا وهو ما أدى الى تمرد الجمهوريات الأخرى سلوفينيا وكرواتيا وإعلان رغبتها بالاستقلال. في عهد ميلوشيفيتش وصلت كوسوفو الى أسوأ وضع، وخصوصاً في صيف 1998، عندما بدأ ترويع وتهجير الألبان على نطاق واسع الى الدول المجاورة، ما أصبح يهدد الاستقرار الهش في البلقان. ولذلك كان لا بد من التدخل العسكري لإنقاذ الاستقرار في البلقان قبل إنقاذ الألبان الذين تصادف انهم مسلمون. مع إجلاء القوات الصربية وإرساء الإدارة الدولية بموجب قرار مجلس الأمن 1244 بدأت كوسوفو تنهض من جديد في السياسة والاقتصاد والثقافة. في السياسة بدأ إطلاق عملية سياسية كبرى. إذ أجريت أول انتخابات حرة بمراقبة دولية في تاريخ كوسوفو تمخّض عنها تكون برلمان وتشكيل حكومة منبثقة عنه واختيار رئيس إبراهيم روغوقا باعتراف دولي. ومن الجانب الدستوري/ القانوني صدر أولاً"الإطار الدستوري"ثم حزمة من القوانين التي تنظم مفاصل الحياة الجديدة. وبالاستناد الى ذلك صدرت الوثائق الجديدة من رخصة السيارة وحتى الهوية وجواز السفر التي تسهل أمور المواطنين في كل مجال. والأهم من ذلك ما جرى في الاقتصاد. فقد تغيرت ملامح المدن الكوسوفية نتيجة لما بني فيها من أحياء وفنادق ومطاعم الخ، وبرزت الآن نخبة جديدة من رجال الأعمال الألبانيين الذين أصبحت لهم مصالح خاصة وتؤثر في الأحزاب التي تقود العملية السياسية الرابطة الكوسوفية الديموقراطية، الحزب الكوسوفي الديموقراطي الخ لمصلحة الاستقلال. ولكن مع الإدارة الدولية الواعية لمآل هذه العملية السياسية، التي أوجدت خلال سنوات كياناً مستقلاً لا ينقصه إلا الاعتراف الدولي، كانت لها معاييرها وشروطها التي كان يجب أن يؤخذ بها. فكوسوفو، لا ألبانيا، هي قلب العالم الألباني تتوسط الدول التي يتوزع فيها الألبان مقدونيا الغربية وجنوب صربيا وجنوب الجبل الأسود وألبانيا. ولكن المطلوب من النخبة الألبانية الجديدة ان تركز على"الهوية الكوسوفية"، أي على الهوية التي تقوم على المواطنة والمساواة وليس على"الدولة القومية"التي تجاوزتها أوروبا. ولذلك وضع في مشروع أهتيسارى الذي أعلن الاستقلال بالاستناد إليه شرط واضح بألاّ تتحد كوسوفو في المستقبل مع أية دولة مجاورة المقصود ألبانيا. ومن ناحية أخرى، فقد كانت الإدارة الدولية واعية الى ان كوسوفو ستشكل حالة فريدة باعتبارها أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة ساحقة 95 في المئة، ولذلك فقد كان من شروط الاستقلال في مشروع اهتيساري أن تكون كوسوفو دولة علمانية. كوسوفو تنطلق الآن بشروط مسبقة لتحصل على الاعتراف الأوروبي/ الدولي بها، وبرعاية مباشرة من بعثة الاتحاد الأوروبي الذي يريدها أن تتأهل بسرعة لكي تنضم اليه في أقرب وقت حتى لا يكون هناك أي مجال لاتحادها مع ألبانيا. ولكن التحدي الأكبر يبقى في مجال الاقتصاد. فكوسوفو تعتبر من أغنى مناطق أوروبا بالثروات الطبيعية. وكان من المفارقة ان الصحافة الصربية كشفت منذ أيام فقط جريدة"داناس"البلغرادية 16/2/ 2008 أن احتياطي كوسوفو من الفحم الحجري يصل الى 20 مليار طن تقدر قيمتها ب500 بليون دولار. ولكن وضع كوسوفو القلق في السابق كان يحد في السابق من الاهتمام بالاستثمار فيها، مع وجود تململ اجتماعي بسبب تخطي البطالة لنسبة 50 في المئة نتيجة لانهيار القطاع العام وانطلاق الخصخصة، أما الآن فهناك إعداد لمؤتمر دولي للمانحين لتأمين بلايين عدة من الدولارات لكوسوفو خلال السنوات القادة لكي تقف على قدميها كدولة بعد معاناة العقود الماضية. التحدي الآن كيف تثبت كوسوفو بأنها دولة ديموقراطية تقوم على المواطنة للجميع بمن فيهم الصرب، وأوروبية بقيمها ومؤسساتها مع وجود 95 في المئة من سكانها من المسلمين، وذات علاقات جيدة مع الدول المجاورة بما فيها صربيا. التحدي الأكبر لكوسوفو أن تكون دولة ديموقراطية حقة للألبان والصرب والأتراك والغجر حتى تصبح صربيا دولة ديموقراطية للصرب وهنغاريا والألبان والبشناق. هذا هو أفضل ما تحققه كوسوفو في تاريخها: ان تتخلص من عبء الماضي وأن تبني المستقبل. * كاتب كوسوفي/ سوري. أستاذ في جامعة أهل البيت - الأردن