كانت المواجهة الانتخابية في الولاياتالمتحدة قد استقرت على حالة لا يسعها أن ترضي مرشح الحزب الجمهوري جون ماكين. ففي حين أن استطلاعات الرأي العام أشارت تكراراً إلى انقسام شبه متوازن لمجموع الناخبين بين ماكين وخصمه مرشح الحزب الديموقراطي باراك أوباما، كان من الواضح أن زمام المبادرة في المواجهة الانتخابية هو بيد أوباما، الأكثر شباباً وجاذبية، والأكثر تنظيماً في حملته الانتخابية. والخطر الأكبر الذي كان يعترض ماكين لم يكن في أن أوباما، من خلال هذه السمات، وإن كانت تسويقية وعرضية، قد يتمكن من استقطاب هذه النسبة الصغيرة من الناخبين المستقلين غير الميالين إلى هذا المرشح أو ذاك والكفيلة بضمان الفوز له، بقدر ما كانت، بشكل واضح لا يخفى على أي مراقب موضوعي، نجاح أوباما في تحفيز القواعد الشعبية التي يعتمد عليها حزبه، لا سيما الأفارقة الأميركيين والتقدميين والشباب، إلى مستويات تفوق قطعياً تلك التي كان ماكين يأمل في بلوغها في أوساط الناخبين المحسوبين على الحزب الجمهوري. فالمعضلة، من وجهة نظر ماكين، كانت انتخابات يكاد المتنافسين فيها أن يتساويا نظرياً وفق استطلاعات الرأي العام، غير أن أحدهما، وهو أوباما، يشهد حماسة واندفاعاً لدى مؤيديه يوم الاقتراع للاندفاع إلى المشاركة، فيما يعاني الآخر، وهو ماكين، من تلكؤ الداعمين له في المساهمة في التصويت. وإمعاناً في التأزم، فإنه حتى إذا جاءت الانتخابات معبّرة عن التأييد النظري للمرشحين من خلال التساوي بالزخم لدى كافة القواعد، فإن احتمالات فوز ماكين كانت مرجوحة، وإن لم يكن فوز أوباما محتماً. المطلوب، من وجهة نظر ماكين، كان إذاً، رفع مستوى التعبئة في صفوف المؤيدين له إلى حد يوازي ما يشهده خصمه، واستقطاب أكبر عدد من الناخبين المستقلين، واختراق قواعد الحزب الديموقراطي من خلال نقاط الوهن التي كشفتها فيه المنافسة بين باراك أوباما وهيلاري كلينتون. وعلى رغم علامات استفهام عديدة حول ما بدا وكأنه مجازفة متهورة، فإن اختيار جون ماكين لحاكمة ولاية آلاسكا سارا بايلن، من شأنه أن يحقق قدراً كبيراً من هذه النتائج المتوخاة، وهو قد نقل لتوّه زمام المبادرة إلى معسكر ماكين، بعد أن كاد أوباما يطمئن نهائياً إلى حتمية تتويجه رئيساً للبلاد. وإذا كان أوباما، في تسميته لجو بايدن كمرشح لمنصب نائب الرئيس، قد عمد فعلياً إلى اختيار رجل يشبه جون ماكين في عدد من الأوجه، لا سيما منها"الخبرة"التي كادت أن تكون شعاراً لحملة ماكين الانتخابية، فإن ماكين بدوره قد رسا على مرشحة تشبه أوباما في شبابها، وتركيزها على"التغيير"الذي ما فتئ أوباما يدعو إليه. فبعض أوجه الشبه بين بايلن وأوباما مقصود من خلالها تجريد هذا الأخير من إمكانية التركيز عليها لصالحه. فمع بايلن، والبالغة من العمر الأربع والأربعين، تتضاءل إمكانيات أوباما بجعل المواجهة بين جيلين، ولا سيما أنه اختار بايدن، الشيخ الشائب، شريكاً. ومعها كذلك، وهي المرأة التي يشكل ترشيحها لهذا المنصب سابقة في حزبها والمرة الثانية فقط في تاريخ الولاياتالمتحدة التي تضلع في إحدى النساء بهذا الدور، يتراجع الكلام عن جسامة الحدث التاريخي المتمثلة في اختيار أوباما،"الأفريقي الأميركي"الأسمر البشرة. وبعض السمات الأخرى لبايلن تنسجم مع الروحية الثابتة في مسلك ماكين. فهي رغم انتسابها للحزب الجمهوري، قد تصدت للفساد في حزبها وفي ولايتها، وقد برهنت عن استقلالية في قرارها. وبايلن، ذات الخلفية الاجتماعية والاقتصادية المتواضعة، وذات الأصول الريفية والانتماء إلى ولاية هامشية، تمنح ماكين كذلك طاقة شعبوية كبيرة قابلة للتوظيف باتجاه تحفيز واسع النظاق لقواعد الحزب الجمهوري وما يتعداها. والواقع أن بايلن لم تخيّب آمال ماكين في ظهورها الأول، خلال المؤتمر الحزبي الأسبوع المنصرم، إذ أظهرت قدرة خطابية متميزة وجاذبية تفي بالغرض. ولكن حملة أوباما، ومعها قطاعات واسعة من الإعلام، لم تخيّب آمال ماكين كذلك، إذ وقعت في الفخ حين عمدت إلى التجريح ببايلن بأساليب مختلفة، من خلال الإشارة إلى افتقادها للخبرة، والتركيز على مسائل عائلية مختلفة متعلقة بها، بما فيها كونها امرأة وأم وربة منزل، والتشديد على هامشية خلفيتها، إذ قد أتاح هذا التجريح لبايلن نفسها ولحملة ماكين عموماً تسليط الأضواء مجدداً على موضوعين كاد أوباما أن يطمئن إلى أنه قد تجاوزهما، وهما خبرته ونخبويته. فمع كل إشارة إلى هزالة سيرة العمل لدى بايلن، يعود إلى البروز موضوع افتقاد أوباما نفسه للخبرة. بل بايلن، ذات الخبرة المحدودة، قد تولت مناصب تنفيذية، في حين أنه ليس لدى أوباما ولا لدى شريكه بايدن، صاحب الخبرة المشهودة في شؤون العلاقات الدولية، أية خلفية تنفيذية. فبايلن، من خلال قدرتها الخطابية التي برهنت عليها بشكل حاسم، من شأنها إعادة تذكير الجمهور بأن ما يقدمه أوباما هو وعد ورؤيا، لا خبرة وإنجازات. ومع كل محاولة تمحيص بخلفية بايلن يقدم عليها أنصار أوباما، يتسع المجال أمام حملة ماكين للتركيز على الشرخ المزعوم القائم بين أوباما والنخبة الثقافية التقدمية في مدن الساحلين الشمالي الشرقي والغربي للولايات المتحدة من جهة، وعموم الجمهور الأميركي من جهة أخرى. ففي حين ينشغل أوباما وهذه النخبة، وفق هذا التصوير، بمشروعهم الفوقي التدخلي المستخف بالمواطن الأميركي العادي، يحافظ هذا المواطن على قيمه التي تجسدها بايلن، وبالتالي ماكين. رهان ماكين عند اختياره لبايلن هو على شعبوية تخترق قواعد أوباما من خلال وسمه بالفوقية والنخبوية وتبرز مواطن ضعفه. ولا شك أن بايلن قد منحت على الفور لحملة ماكين اندفاعاً وزخماً كادا أن يغيبا عن جهود الجمهوريين بالكامل. فمع بايلن، رغم التسفيه والتشكيك، لم يعد بوسع أوباما الاطمئنان إلى أن البيت الأبيض من نصيبه.