تكاد هذه الانتخابات الرئاسية الأميركية أن تقدم، وللمرة الأولى منذ فترة غير وجيزة، خياراً حقيقياً للناخب، إذ بعد استتباب الترشيح الحزبي الديموقراطي والجمهوري على التوالي لكل من باراك أوباما وجون ماكين، لم يعمد المرشحان إلى الانتقال بخطابهما باتجاه استقطاب الوسط المستقل، كالمعتاد في الانتخابات الماضية انطلاقاً من القناعة بأن هذا الوسط، مهما تضاءل حجماً، من شأنه أن يحسم التنافس لصالح هذا المرشح أو ذاك، بل ثابر كل منهما على لهجة تعبوية تلتزم النهج العقائدي السائد في حزبه، أي الخط التقدمي بالنسبة للديموقراطي أوباما والخط المحافظ بالنسبة للجمهوري ماكين. غير أن هذا الالتزام قد لا يكون دلالة على ثبات المرشحين في عقائديتهما بقدر ما هو انعكاس لاتساع الشرخ بين القواعد المتعاطفة مع هذين النهجين، ولعدم اطمئنان هذه القواعد إلى صفاء انتماء المرشحين إليهما. فخطابيات هذه المواجهة الانتخابية تندرج طبعاً في إطار السعي الحثيث إلى الفوز بالرئاسة، ولكنها كذلك تفيد بعودة فعلية للولايات المتحدة اليوم إلى أجواء الحرب الثقافية التي استعرت في البلاد في عقد التسعينات. والواقع أن السمات الشخصية لكل من باراك أوباما وجون ماكين قابلة للتوظيف في إطار الحرب الثقافية المتجددة. فأوباما هو الشاب المجسّد لجيل جديد توّاق إلى كسر احتكار السلطة ممّن امتهنها، وهو ذو الخلفية الانصهارية عرقياً وثقافياً والمعبّر بالتالي عن ثروة التنوع في مجتمع متعدد، ونسبته إلى الهوية الأفريقية الأميركية مهما ارتبكت تتيح المجال أمام التاريخ الأميركي للشروع بتصحيح يمسح عنه الشعور بالذنب لتورّطه بالعبودية. هذا من وجهة نظر تقدمية ديموقراطية. أما القراءة المحافظة الجمهورية، وإن بقيت خجولة في بعض تعابيرها، فهي أن خلفية أوباما الأفريقية، بما في ذلك اسمه واحتمالات وجود أبعاد إسلامية له، ليست مصدر قوة واعتزاز على الإطلاق، بل سبب للريبة. فما تصريح زوجته عن أنها للمرة الأولى فخورة بانتمائها إلى الولاياتالمتحدة، أو قول رجل الدين المقرّب منه بأن الولاياتالمتحدة تستحق اللعنة لا البركة، إلا دلائل تكشف عن افتقاد أوباما للوطنية المخلصة. وقد اجتهد أوباما في تفنيد هذه الاتهامات وواجه المسألة العرقية بشكل مباشر وتبرأ من الأقوال المعادية لبلاده، إلا أن التأثير المتراكم لهذه الحوادث يبقى مستقراً في الصف الجمهوري المحافظ. والشرخ بين شقّي الثقافة الأميركية يتبدّى أولاً ودون شك في المسألة العرقية. فثمة من قد يمتنع عن التصويت لصالح أوباما ولو كان لهذا المرشح مطلق الكفاءة، وذلك لبشرته السوداء. ولكن في المقابل، ثمة من يندفع للتصويت له، مهما تضاءلت خبرته وكفاءته، للون بشرته هذه، وللقناعة بأنه آن الأوان للولايات المتحدة أن تتجاوز العنصرية والتفرقة العرقية. وفي مقابل الاعتزاز التقدمي بأوجه هوية المرشح الديموقراطي، فإن التفاخر المحافظ يطرح نفسه على أساس إنجازات المرشح الجمهوري. فجون ماكين هو البطل الوطني ذو المناقبية العالية والذي اختار تمضية أعوام إضافية في الأسر والتعذيب بدلاً من الاستفادة من امتيازات هويته، يوم أراد آسروه إحراج والده ذي المنصب القيادي في القوات المسلحة الأميركية بإطلاق سراحه ليظهر وكأنه حصل على معاملة تفضيلية. وفي حين يلتزم معظم الديموقراطيين إما الصمت أو المشاركة العلنية في تبجيل ماكين لسجلّه في الخدمة العسكرية، فإن الرئيس الأسبق جيمي كارتر عبّر عن رأي العديدين حين خرج عن اللياقة الإجماعية ليتساءل عمّا يضيفه هذا السجلّ إلى كفاءة ماكين المفترضة كرئيس للبلاد. وإذا كان التصوير الجمهوري لماكين يسعى إلى التشديد على استقلاليته ومناقبيته كعضو في مجلس الشيوخ، فإن الرؤية الديموقراطية ترى في مواقفه تقلبات انتهازية ونفاقا مما يجسّد"السياسة كالمعتاد"والتي وعد باراك أوباما الناخبين بأن يتجاوزها. ورغم أن اختيار المرشحين لمنصب نائب الرئيس من كل من الجانبين جاء ليتحدى ميزات المرشح الآخر، إذ أضاف جو بايدن لأوباما ما يفتقده من الخبرة والشيب، ومنحت سارة بايلن اللائحة الجمهورية ما كان ينقصها من النجومية والشباب، فإن الاختيار جاء في الحالتين ليدعّم الالتزام العقائدي والحزبي للمرشحين الرئاسيين. وفي ما يتعدى الأشخاص، اتسمت رسالة كل من الحزبين في هذا الموسم الانتخابي بوضوح افتقدته في الانتخابات السابقة. فالموقف الديموقراطي هو أن الاقتصاد الحر مولّد للجشع، ولا بد بالتالي من حكومة متجاوبة مع الإرادة الشعبية بشأن توزيع منصف للثروات من خلال الضرائب والبرامج. أما الموقف الجمهوري فأن الحكومة ذات الصلاحيات الواسعة هي المولّدة للفساد، ولا بد من وضع الثقة في حرية المجتمع والاقتصاد لتحقيق العدالة. وبالإضافة إلي هذا التعارض الحاد في المواقف من السياسة والاقتصاد، فإن الحزبين يعتمدان توجهين متضاربين في الشأن الاجتماعي، حيث أن تركيز الحزب الجمهوري هو على القيم الاجتماعية وعلى واجب الدولة المعاضدة في المحافظة عليها، فيما تأكيد الحزب الديموقراطي على الحقوق الفردية وضرورة التزام الدولة بصونها. وعمق الشرخ الثقافي في الولاياتالمتحدة يتجاوز الجانب السياسي النظري وحتى الاجتماعي التطبيقي، ليبلغ بعداً مناطقياً حاداً. فالشمال الشرقي للبلاد، كما الساحل الغربي، هما المعقلان للمخزون الانتخابي التقدمي. وفي المقابل فإن الجنوب والغرب الأوسط يتواصلان ليشكلا حزاماً متماسكاً من المحافظين والمتدينين. ورغم أن أوباما يطمح للفوز ببعض ولايات هذا الحزام، فإن فوزه فيها يعتمد على تجمعات مدينية، فيما يبقى العمق الريفي محافظ الولاء والانتماء. وبطبيعة الأحوال، فمسؤولية العودة إلى المواجهة الثقافية في السياسة الأميركية لا تقع على أوباما أو ماكين، وإن كان لون بشرة أوباما يساهم في التعجيل بها... فهذه الحرب لم تنطفئ يوماً، إلا أنها انكفأت بفعل اعتداءات فرضت التركيز على أولوية مختلفة، هي الأولوية الأمنية. أما اليوم، فبعد مضي سبعة أعوام اطمأن خلالها المواطن الأميركي إلى أن الاعتداء كان حالة شاذة، فإن الهم الثقافي عاد إلى الواجهة.