بتصريح لافت خلال مقابلة جديدة مع مجلة أكسبرس الفرنسية، وفي معرض حديثه عن ضرورة المسارعة بالإصلاحات، يشير الملك الأردني، عبد الله الثاني، إلى وجود"مستشارين"كانوا يحذرونه من مغبة المسارعة في عملية الإصلاح. وبالضرورة، المقصود بالإصلاح هنا في الجانب السياسي. إذ أنّ"الإصلاح الاقتصادي"يسير بخطوات متسارعة منذ سنوات. پالإشارة الملكية إلى التيار المعارض للإصلاح تعيد السجال السياسي الأردني مرة أخرى إلى حدود الإصلاح السياسي الممكن في الأردن وهواجس هذا التيار المقرب من الملك والحاضر في مؤسسة الحكم. التيار المعارض للإصلاح السياسي، أو المتوجس منه، يستند إلى معطيات وذرائع متينة، تعود إلى طبيعة التركيبة السكانية من ناحية، والعلاقة الوثيقة لأية إصلاحات أردنية داخلية بمخرجات المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية. ولعلّ حجر الرحى في الإصلاح السياسي والدمقرطة ترتبط في الأردن بتغيير قانون الانتخاب من خلال منح الأفضلية للقوى السياسية بدلاً من القانون الحالي الصوت الواحد الذي يجعل من صلة القرابة والعائلة والعلاقات الشخصية المحدد الرئيس في عملية الانتخاب والترشيح والنجاح في العديد من المدن والمحافظات، ما يصوغ تركيبة مجلس النواب وتوجهاته السياسية ويحد من قدرته على القيام بدور فاعل يعكس حجمه الدستوري الحقيقي. التيار المعارض للإصلاح يرى في تغيير قانون الانتخاب خطرين رئيسين"الأول أنّه ينقل الثقل في البرلمان من"الشرق أردنيين"إلى"الأردنيين من أصول فلسطينية". هذا فضلاً أنه يخل بالتقاسم التاريخي لمعادلة السلطة والثروة بين الطرفين، ومؤذن بتوتر اجتماعي- سياسي، فإنّه يمثل تأكيداً لطروحات يمينية أميركية وإسرائيلية بأنّ الدولة الفلسطينية قائمة فعلاً في الأردن، والشاهد الأول هو مجلس النواب ذو الأغلبية الفلسطينية. پالخطر الثاني المتمثل بتغيير قانون الانتخاب، في رؤية المعارضين، يكمن بالحضور الطاغي لجماعة الإخوان المسلمين والمرشحة أن تحقق في ظل انتخابات غير مزوّرة نسبة جيدة من المقاعد، في ظل عجز القوى الأخرى من ناحية، والاستياء الشعبي من الأوضاع الاقتصادية من جهة أخرى. تكمن المعضلة مع جماعة الإخوان أنها، وعلى الرغم من إقرارها بالديموقراطية واللعبة السياسية، إلاّ أنّها لا تزال تتمسك بخطاب أيديولوجي يعوق اندماجها الحقيقي في حل المشكلات السياسية والاقتصادية، ويجعل من أية قوة حقيقية لها عقبة أمام تحضير الحكومة للشارع للتعامل مع الإكراهات الواقعية والتحديات العملية. المعضلة الأخرى أنّ الأغلبية العظمى من أعضاء الجماعة هم أ"ردنيون من أصول فلسطينية". ما يثير لدى صانع القرار قلقاً من التزاوج السياسي والفكري والتداخل التنظيمي بين الجماعة وحركة حماس غرب النهر، ويجعل من حضور الحركتين السياسي الطاغي مصدر قوة كبير لهما، ويغير المعادلات السياسية والأمنية التقليدية في الأردن. هذه المخاوف ليست فقط أقاويل يبثها تيار يميني- أمني أردني لتعطيل مسار الإصلاح السياسي، بل هي محددات حقيقية لعملية الإصلاح السياسي كي لا تنقلب العملية إلى أداة تفكيك وتفتيت لمؤسسات الدولة والمجتمع. بخاصة أنّ ديناميكيات الاستقطاب الاجتماعي والسياسي فاعلة مسبقاً من خلال برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يؤدي إلى تغييرات اقتصادية واجتماعية كبيرة، ترجح كفة القطاع الخاص على العام وتحدّ من الدور التاريخي للقطاع العام في الإدارة والتنمية. ويمكن الاستئناس بتجارب عربية أخرى شكّل الإصلاح السياسي غير المنضبط معول تدمير للدولة ونشر للفوضى وتعزيز للانتماءات الأولية والجغرافية والإقليمية على حساب الاستقرار السياسي وحكم المؤسسات، في ظل ثقافة اجتماعية وسياسية لا ترسو فيها قيم الديموقراطية والمدنية بصورة متماسكة وناجزة. على الطرف الآخر من المعادلة ثمة تيار يطالب بالمسارعة في الإصلاح السياسي وتغيير قانون الانتخاب باعتماد معيار الكثافة السكانية بدلاً من المناطق الجغرافية، ما يجعل"الأردنيين من أصول فلسطينة"ذوي الأغلبية البرلمانية، ويشكل مقدمة إلى عملية إدماج واسعة لهم في مؤسسات الدولة، ما يحقق نفوذاً سياسياً كبيراً موازياً للنفوذ الاقتصادي الحالي. هذا التيار يرفع راية"الحقوق المنقوصة"للأردنيين من اصول فلسطينية، ولا يعدو مطلب"الإصلاح السياسي"لديه أن يكون"اسماً حركياً"لتغيير المعادلات السياسية في البلاد، لكنه في المحصلة لا يمس البعد الداخلي للعلاقة الأردنية- الفلسطينية فقط، بل العلاقة المستقبلية المحتملة بين الأردن والكيان السياسي الفلسطيني المفترض، ما يجعل من الأردنيين من أصول شرق أردنية أقلية، لا يمتلكون نفوذاً سياسياً واقتصادياً حقيقياً، ويجعل من هذه الشريحة الواسعة مصدر قلق أمني وسياسي، بعدما كانت تشكل تقليدياً الروافع السياسية والاجتماعية والأمنية الأساسية للنظام والاستقرار السياسي في البلاد. بين مواقف هذين التيارين المتضاربة تضيع أية قراءة موضوعية واقعية لمفهوم الإصلاح السياسي في الأردن ومحدداته وشروطه ومراحله المفترضة، ويبقى السجال عبثياً بين من يمسك بمكاسب سياسية وآخر يسعى إلى الاستيلاء عليها، وتبقى الحياة السياسية تدور في حلقة مفرغة، دون مخرجات حقيقية تسير إلى الأمام ولو بخطوات بطيئة. التجارب التاريخية في التحول السياسي والتجارب العربية الراهنة الفاشلة في الإصلاح السياسي تدفع بالفعل إلى بناء قراءة واقعية لمسار الإصلاح السياسي في الأردن تأخذ بالاعتبارات الشروط التاريخية والمعادلات السياسية والأمنية الداخلية. كي لا ينقلب الإصلاح إلى وبال على السلم الأهلي والاستقرار السياسي. القراءة المقصودة، وقد بدأت نخبة من المثقفين تفكر فيها، يمكن أن تتضمن شقين"الأول تسير فيه عملية الإصلاح بخطى متسارعة تحديداً في مجال"الحاكمية الجيدة"ومبدأ سيادة القانون ومكافحة الفساد والحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، والحد من تغول المنظور الأمني على الحياة العامة في: الجامعات، النقابات، التعيينات الحكومية، حرية الإعلام.. إذ لا ترتبط هذه الجوانب بالمعادلات الداخلية والإقليمية، بقدر ما تحقق انجازات واقعية وإيجابية لتحسين شروط الحياة السياسية. أما الشق الثاني"المتعلق بقانون الانتخاب وتركيبة البرلمان، فيمكن السير فيه بخطوات حذرة ومحسوبة. وهنالك اقتراح"الأجندة الوطنية"، التي شارك في إعدادها نخبة من الخبراء الأردنيين، قبل سنوات، وتضمنت رؤية متوازنة لقانون الانتخاب تتمثل بما يسمى"مبدأ الصوتين"، إذ يتيح تحسين مخرجات العملية الانتخابية من ناحية، ويحُول دون أن يتحول البرلمان إلى مدخل للتلاعب بهوية البرلمان والدولة. يتوازى مع هذه العملية السير قدماً في تقوية وتجذير الأحزاب السياسية المختلفة لتحتوي النزعات الاجتماعية، وتغلب الاعتبارات السياسية والبرامجية، على العوامل الإقليمية والشخصية والجهوية. ربما تشكل محددات الإصلاح السياسي وشروطه عامل تأخير في الوصول إلى نظام ديموقراطي ناجز، إلاّ أنّها أضمن لحماية الإصلاح. إذ أنّ المفاضلة بين الاعتبار السياسي والأمني ستكون ? حتماً- لدى أغلبية المواطنين لصالح الثاني. * كاتب أردني.