الذاكرة الناقصة هي مثل اليقين المبتور في استعادة الزمن أو كتابة التاريخ، وهي محصلة تعكس وجهة نظر من دون ان تتمكن من الإحاطة بالإنتاج الإبداعي لاسيما إذا كان هذا الإنتاج متعلقاً بأهوال الحرب اللبنانية وانعكاساتها على الفن التشكيلي في لبنان على مدى أكثر من ثلاثة عقود. من يستطيع أن يدّعي منفرداً مهما بلغت به الأحلام والطموحات، أن يجمع ذاكرة الحرب بموضوعية؟ نطرح هذا السؤال في بحثنا عن أجوبة للأصداء التي ترددت حول معرض «طريق السلم: لوحات من زمن الحرب» (1975- 1991) الذي نظمه صالح بركات في مركز بيروت للفن، في سياق برنامج من سلسلة محاضرات وعروض لأفلام سينمائية وشرائط وثائقية، يحاول أن يستجمع المرحلة الفائتة وما ترسب في الذاكرة من تداعيات ومؤثرات وتحولات. وقد ترددت في كتابة هذا المقال ثم عدت عن تردّدي، فالموضوع بذاته، بالغ الأهمية والخطورة وهو عصيّ في آن، لأنه مستقطِب يمس بعمق الذاكرة الجماعية بمختلف انتماءاتها وتشعباتها وتشوهاتها، والخوض فيها بعشوائية أو انتقائية متفردة تبعث على الحيرة والتشكيك. كان من الممكن أن يتحول معرض «طريق السلم: لوحات من زمن الحرب» ظاهرة إجماعية لو استأنس بآراء أكثر من جيل من العارفين والمثقفين والمواكبين للمعارض والتجارب التي أقيمت خلال سنوات الحرب، ولو أعطى وقتاً إضافياً في الاستضاءة المعلوماتية الوثائقية، لكانت ظهرت مبررات وخفايا كثيرة حول الاتجاهات والأساليب، في قراءة الماضي بدقة، ليس أقلها معرفة دواعي وجود توقيعين لفنانين اثنين على ظاهر اللوحة الواحدة، (على سبيل المثال لوحات تمثل العابرين على الجسور للفنانين سمير خداج ومارك موراني، وهي ظاهرة تفشت لدى الفنانين المنتمين إلى الحزب الشيوعي، في تنفيذ أعمال مشتركة من بينهم سيتا مانوكيان ووليد صافي ومحمود أمهز ضمن «محترف للإبداع» عام 1979، وكذلك معرفة التأثيرات المباشرة وغير المباشرة التي تركتها أبجدية عارف الريس ورموزيته العنيفة على خيالية فن صديقه عبد الحميد بعلبكي وكذلك على غرافيكية فن جميل ملاعب في رسومه بالأسود والأبيض، فضلاً عن ظواهر كثيرة نشأت من إفرازات الحرب. لعلّ من الموضوعية الاعتراف بأن المعرض جمع أعمالاً متميزة وباهرة لفنانين ارتبطت أساليبهم مباشرة بمعاناة الحرب وأهوالها، غير انه استثنى بالمقابل الكثير من التجارب البارزة التي لا مجال لحصرها، والتي عكست همجية الحروب ومجازرها. ولئن كانت محطات المعرض، تدور محورياً حول نتاجات تعود بتواريخها إلى مرحلة السبعينات، غير أن الثغرة الحقيقية تبدو في عدم تمثيل جيل الثمانينات وبداية التسعينات إلا بصورة هامشية وعرضية، فضلاً عن مساحات أعطيت لتجارب ثانوية بلا طائل كان يمكن اختصارها ببضعة أعمال (رسماً ونحتاً) كما أن النحت باستثناء حضور سلوى روضة شقير كان شبه غائب. ثمة كلمات وردت في كتيب المعرض تحدثت عن صعوبات جمع ذاكرة الحرب التي آلت الى الضياع والتبعثر، وكلمات أوحت للمتلقي بذهنية تنطوي على شيء من المبالغة والادعاء، بأنها المرة الأولى التي تم تنظيم معرض من هذا النوع في عمل غير مسبوق، وكأنها محاولة - ربما غير متعمدة - لمحو كل ما أقيم خلال حقبات الحرب من معارض وتظاهرات! وقيل على غير صواب إن معظم الأعمال تعرض للجمهور للمرة الأولى. ومما زاد في تغريب موضوع الحرب أن المحاضرة التي ألقاها صالح بركات مع كرستين شايد كانت باللغة الإنكليزية وقد أثارت الكثير من الانتقادات والنقاشات حيال مسألة التفرد بالرأي في معالجة موضوع فن الحرب. تم اختيار 20 فناناً للتعبير عن مرحلة الحرب. وقد اتخذ المعرض عنوانه «طريق السلم» من كتاب رسوم لعارف الريّس (1976)، نظراً لأهمية عبقريته الارتجالية ومخيلته الغزيرة ودوره الطليعي في مخاطبة موضوعات الحرب وتفاعلاتها. وتتصدر المعرض جدارية عبد الحميد بعلبكي (التي سبق وعرضت في معرض بيروت 1978 الذي نظمته جانين ربيز في صالة السياحة) التي ما زالت تحمل آثار رصاص الحرب، مما يشكل توقيعاً إضافياً لمعنى الاستشهاد ودمار محترفات الفنانين خلال مرحلة الحرب. وثمة لوحتان (حبر على ورق) لرفيق شرف، تعبران عن الانكسار والخيبة، يظهر فيهما الحصان مرتعداً وهو يترك المدينة قيد الانهيار، والتماثيل هي الأخرى تسقط وتموت. كان يلزمنا شيئاً من الوقت كي نقيّم أفضل موهبة عماد عيسى الذي تبوّأ في الثمانينات مركز الصدارة في أسلوبه الدادائي - المحدث وإنشاءاته الفراغية والمكانية التي تتمحور حول نرجسية فنان كتب بالخط المقلوب (كأنه في مرآة) ورقة ينعى فيها نفسه. وهو من أوائل الفنانين الجدد الذين استخدموا شظايا الحرب وتقنيات الحرق والتشويه في أسلوب مبتكر وعنيف. أما جان خليفة فنراه قد غطى وجه السيد المسيح بوشاح أسود ووضع هالات سوداً حول عيون النساء تعبيراً عن الخوف، في حين أن حسن جوني استخدم الحقيبة رمزاً للهجرة والسفر. ولئن ساهمت الحرب في عودة الواقعية إلى الفن فإننا نراها في مظاهرها الدرامية والتهكمية والتقريرية في أعمال بول غيراغوسيان وسيتا مانوكيان وسمير خداج مع مارك موراني، وكذلك في يوميات جميل ملاعب وتركيبية رؤى محمد الروّاس المقطوفة من تجارب شخصية وقصاصات الصحف وعناوين مرحلة الثمانينات وأحداثها. ومن طيات الحرب تخرج للعيان لوحات تيو منصور وتجريديات فريد حداد وحكايات جنان باشو التي حاكتها حول البطاقات البريدية وشعارات حوائط الحرب لغادة جمال، فضلاً عن رؤى تستعيد أمكنة المدينة ومعالمها بعدسة فؤاد الخوري. إذا كان معرض «طريق السلم» يعاني نقصاناً، فإن ذاكرتنا ما زالت تنبض بالماضي وتصرخ كي تطالب بالمزيد. إذ لا يكفي معرض واحد لنروي غليلنا من التجارب التي رأتها عيوننا، لكننا نأمل أن يكون المعرض قد حرّض للقيام بمبادرات أخرى، من شأنها استعادة الأحلام الضائعة وجمع شتات الأعمال التي تنتظر من ينصفها ويلقي عليها الضوء.