تجمع الفنون، عادة، هويات محلية - عالمية. والفنانون الناجحون في العالم هم الأكثر التصاقاً بثقافاتهم"الخاصة"، لكن ذلك لا يمنع وجود اهتمام مرّكز من المؤسسات المعنية بالثقافة والفنون في كل بلد بالنشاطات الابداعية المحلية وتشجيعها، تأكيداً للمبدأ الحضاري"أعرف نفسك"... هذه المقدمة ضرورية للوصول الى الموضوع: فقد أعلنت الوزيرة اللبنانية السابقة السيدة ليلى الصلح حمادة في المؤتمر الصحافي الذي عقدته لجنة مهرجانات بعلبك لتقديم المغنية الكبيرة وردة الجزائرية انها اشترطت لرعاية مهرجانات بعلبك هذا العام مادياً ان تكون هناك حفلات عربية ولبنانية، بل هي التي سمّت السيدة وردة بالذات في برنامج المهرجانات التي جرت العادة أن يغلب عليها، في السنوات الأخيرة تحديداً، الطابع الأجنبي في تقليد لا يزال مستمراً منذ عقود... حسناً فعلت الوزيرة حمادة في هذا الشرط"الجميل"، ذلك أن الفنانين اللبنانيين، خصوصاً النجوم منهم، وتحديداً ذوي الميول في المسرح الغنائي، وهم كثر، ومن جيل الشباب، كادوا ييأسون من"سياسة"لجنة مهرجانات بعلبك التي قضت باستبعادهم، أو باللامبالاة تجاههم. وفي حين كانوا يصرّحون مراراً بأنهم يحلمون بالوقوف على أدراج القلعة التاريخية، باتوا يأنفون التصريح عن هذا الحلم، بعدما وجدوا الأبواب موصدة في وجههم. ان هذه"السياسة"الاستعلائية على الفنانين اللبنانيين دخيلة على طبيعة مهرجانات بعلبك التي انطلقت في الأساس عام 1957 من خلال مبدأ البحث عن الشخصية الفنية اللبنانية، وكانت أول الأعمال المسرحية فيها"أيام الحصاد"التي تشارك فيها فنانون كانوا يومها في سن الشباب وخبراتهم لم تكن كبيرة، وحتى نتاجهم لم يكن الا في بدايته مع ما في البدايات من الارتباك ومنهم: عاصي ومنصور الرحباني، زكي ناصيف، توفيق الباشا، صبري الشريف، محمد شامل، نزار ميقاتي، نصري شمس الدين وآخرون، فأحدثت"أيام الحصاد"على تقشفها، اكتشافات جدية في حقول الغناء والموسيقى والمسرح والرقص، وكانت بداية حقيقية و"جبارة"قياساً بذلك الزمن، في شكل يسمح بالقول إن هؤلاء الفنانين اللبنانيين، قدمت لهم مهرجانات بعلبك الحضن الدافئ ولحظة التحدي لتقديم ابتكارات. ويمكن القول أيضاً إن المسرح الغنائي الاستعراضي بدأ في لبنان عام 1957. كل الفنانين اللبنانيين المذكورة اسماؤهم، الذين شاركوا في"ايام الحصاد"كانوا نهاية الخمسينيات على أبعد تقدير، في سن الثلاثين، اي في العمر الذهبي حيث الأحلام والامكانات تمتزج بقوة. ومن هناك كان انطلاق المركبة الفنية اللبنانية المسرحية الفولكلورية الطابع، ليتوزع بعد ذلك فنانونا الكبار كل في اتجاه لكتابة تجربته الخاصة بحبر المواهب المتدفقة. وهم.. هم الذين اعطوا مهرجانات بعلبك ذلك الاسم الكبير في لبنان والعالم العربي والعالم ككل حتى باتت المهرجانات تستقطب الكبار في العالم بعدما طبقت شهرتها الآفاق. ومنذ ذلك التاريخ، نادراً ما سعت مهرجانات بعلبك الى"اكتشاف"مواهب مسرحية استعراضية لبنانية كبيرة، وقد تكرّس المنطق"الأجنبي"في برنامج المهرجانات في السنوات الأخيرة بطريقة تدعو الى العجب، حتى جاءت الوزيرة ليلى الصلح حمادة فركزت على الحلم الذي كاد يضيع: تخصيص مساحة لبنانية أو عربية في البرنامج. واذا كانت المغنية وردة الجزائرية هي التي حلّت هذا العام على مدارج القلعة وأحيت حفلة ناجحة بكل المقاييس، فهناك من يتوقع في العام المقبل، وربما بشرط الرعاية المادية من السيدة الصلح حمادة أن يفتح المجال أمام الشباب الفني اللبناني، وفي الاتجاهات المسرحية الغنائية، لتقديم أعمال تكمل المسيرة الجمالية، وتكتشف مواهب ابداعية جديدة في هذا الباب... ومن نوافل القول إن الشخصية الفنية اللبنانية التي تتعرض لفوضى عارمة في الاعتبارات الانتاجية، في حاجة الى من يهزّ الصورة لاعادة التوازن اليها... من جديد. فهل تسمع لجنة مهرجانات بعلبك أصوات الفنانين اللبنانيين الشباب الذين لا حوافز أمامهم أكبر ربما من أن تدعوهم هذه المهرجانات الى... المعركة؟ وهل تبادر السيدة الصلح حمادة الى"اشتراط"جديد من هذا النوع قد ينتج فنانين كباراً كأولئك الذين انتجتهم"أيام الحصاد"عام 1957؟