يكبر أي مغنّ لبناني، وبين عينيه يرتسم طيف مهرجانات بعلبك الدولية كحلم قد يتحقق له، فكيف إذا كان المغني ابن بعلبك المدينة التي حين انتمت الى التاريخ القديم أضاءت في حجرات القلب مساحات من الارتباط بجذور حَوَّلَتْهَا، في الزمن الحديث خلال الأربعين سنة الأخيرة، مهرجاناتُ القلعة الى وعي فنّي شفّاف ومنير ومحيي، فضلاً عن الوعي الأساس الذي هو الهيبة السّاطعة. الفنان عاصي الحلاّني، رُبي على مشاهدة قلعة بعلبك كقيمة إبداعيّة، وان لم يكن قد رُبي على أي أثر للمهرجانات الرفيعة التي شهدت عصرها الذهبي حين كان هو في مقتبل العمر فما عايش أي تجربة فنّية، حتى بالنَّظَر، على أدراج تلك القلعة. عاصي اليوم، بعد سنوات من العلاقة الطيّبة مع جمهور لبنان والعالم العربي عبر المنحى الفولكلوري اللبناني للأغنية، يفكر في كيفية تحقيق وقفة جديّة في مهرجانات بعلبك، وقد أثار كوامنه في هذا التفكير إحياؤه المتعدد والملوّن لمهرجانات غنائية عربية في أكثر من موقع سياحي وجمالي وتاريخي معاً في بلاد عربيّة مهتمة. فمن مهرجانات جرش في الأردن، الى مهرجانات قرطاج في تونس، الى مهرجانات دار الأوبرا في مصر الى مهرجانات تدمر واللاذقية في سورية، الى مهرجانات كبيرة في الخليج العربي، يُطلب عاصي الحلاّني كإسم شعبي قادر على التعاطي مع الغناء الفولكلوري والبدوي الذي ينبع من هوية لافتة، ولجان تلك المهرجانات تعدّ نفسها لأمسيات عاصي الغنائية بتركيز... يتساءل عاصي الحلاّني عن الحائل دون أن يكون هو، وبعض مجايليه الشباب في الغناء اللبناني، في صلب المشاركة في ليالي مهرجانات قلعة بعلبك؟ ويعتقد أنه إذا كان هناك اعتراضات على نوعية معيّنة من الأغنيات الشعبيّة التي قد تنجز بهدفٍ ليس بضخامة تلك المهرجانات، فإن بالإمكان اختيار اغنيات ذات طبيعة خلاّقة شعراً وتلحيناً وتخصّص لليالي القلعة العتيدة. ولا يخفي عاصي حرقة واضحة من إهمال ربما يكون مقصوداً من لجنة مهرجانات بعلبك لجيل الشباب نتيجة موقف مسبق غير عادل وغير واقعي وغير نبيل تجاههم. ويتمسك عاصي الحلاّني بمقولة يجدها باهرة عندما يُذَكِّر بأن مهرجانات بعلبك عندما بدأت في نهاية الخمسينات، كانت تعتمد على جيل شاب كان يحمل طموحات شاسعة بأبعاد أكبر من حدود وحواجز، وذلك الجيل الشاب هو اليوم ما يسمّى الجيل المؤسّس عن جدارة وكفاية وعمق فعلي للفنون التي خاض فيها. فمن مهرجانات قلعة بعلبك كانت الطلّة المسرحية الكبيرة الأولى للأخوين رحباني وفيروز وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وصبري الشريف ومحمد شامل ونصري شمس الدين، ثم كانت الفرص الغالية للخبرات الغنائية الدقيقة مع وديع الصافي وصباح، وبعدهما جيلٌ تابعٌ كان يكمل ويبني عمارته الفنية الخاصة. وكل هؤلاء، يومذاك، كانوا شباباً. ويطرح عاصي السؤال: لماذا لا تفتح أبواب قلعة بعلبك لنا، ومعروف ان هذه الأبواب حافز جوهري لتقديم جديد في مستوى متفوّق قد يجد الفنان نفسه مدعّواً اليه من دون أي أعذار تخفيفيّة. وإذا كانت أُغنيات بعينها لا تفيد في أن تحضر الى مساحة هذه المهرجانات، فالأغنيات المطلوبة ستحضر حتماً في اللحظة التي يُدعى فيها جيلنا - كما يقول عاصي - الى القلعة. ويعتبر عاصي أن فكرة لكل مقام مقال تصحّ عنواناً للتعاطي مع مهرجانات بعلبك إذا وردت في برنامج هذا الصيف. وما دام مقام المهرجانات يتبوّأ الصدارة الفنية - الثقافية، فإن مقال ذلك المقام هو النصوص الملائمة والموسيقى اللائقة بحيث، حتماً، يطل الفنان على أفق آخر أشدّ كثافة مما اعتاد، وأقوى شخصيةً مما ساد عنه، فضلاً عن أن نوعية ما سيُغَنّى ستراقَب بعين وذكاء. ولعلّ تجربة أولى من هذا النوع في مهرجانات بعلبك تكون منطلقاً ليتسلّم الجيل الجديد حقاً مشعل الماضي المتفتح على توالدٍ خصب. وإذ يسلّم عاصي الحلاّني بأن هذه الخطوة دقيقة وخطيرة في حال الفشل، يسلّم أيضاً بأن اختيار الأسماء والخبرات والتجارب يضع امكانات النجاح في الواجهة أكبر فأكبر. "بعد بكّير؟" يستفهم عاصي، ويضيف "مع رجاء ألاّ ينتظروا حتى تنفضّ عنّا زهوة الحماسة والاندفاع"!