"استقر رأينا على البيع ... سنعرض فيلا البحيرات ... السمسار يتحدث عن 400 ألف دولار ربح. وسننتظر أول إعلان عن مشروع فلل جديدة لنشتري على الخريطة..."، قال وسيم وهو يسكب المزيد من الطعام في صحنه. هبت ديما لمساعدته فيما توجه زوجها بالحديث الى ضيوفه على مائدة العشاء:"طيب ممتاز. نحن من جهتنا سنبقى هنا في الحدائق مجمع سكني لأننا ما زلنا ندفع وفق الإيجار القديم وفيلا المرابع العربية سنؤجرها ب250 ألف درهم 70 ألف دولار وبهذا نغطي قسطها للمصرف كما نغطي إيجار هذه الشقة ويبقى لنا بعض المال". كان وائل يستمع مطرقاً..."أنا لا أصدق يا جماعة... غادرت مدة عامين فقط... كيف تغير كل شيء لهذه الدرجة؟". خلال بضعة أعوام تغيرت دبي. وبسرعة فائقة، وأصدقاء مائدة العشاء ليسوا من أصحاب الملايين... وإنما نماذج عن شباب تزخر بهم دبي. فئة متوسطة على قدر لائق من التعليم والخبرة المهنية استدعتهم فرص العمل في كبريات الشركات العالمية التي فتحت مراكز إقليمية لها في دبي. لكن أياً منهم لم يكن ثرياً بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. وما كون وسيم ودانة يستعدان لتحصيل مليون ونصف المليون درهم إلا نتيجة لقرار اتخذاه بعد مزيد من التردد قبل تسعة أشهر حين مضيا الى شراء فيلا من المطور العقاري"إعمار"في إحدى مناطق دبي الجديدة. تطلب الأمر يومذاك دفع 10 في المئة من ثمن البيت وهو ما كان يساوي ربع مليون درهم أو 70 ألف دولار وتقسيط الباقي مع"أملاك"، الذراع المالية"إعمار"لفترة تمتد خمسة وعشرين عاماً. أما ديما وسمير فإن ثمن فيلا مجمع"المرابع العربية"التي اشترياها بنفس وسيلة التقسيط عام 2006 قفز اليوم من 627 ألف دولار الى 104 ملايين دولار! وائل كان الأقل حظاً بينهم، فقد ابتعثته شركة النفط التي يعمل لديها مدة عامين الى ليبيا عاد بعدها ليكتشف أن قطار الشراء ربما فاته، فالأسعار الجديدة لا يؤهله مرتبه الحصول على قرض يغطيها كما أن عشرة في المئة من ثمن فيلا كتلك التي اشتراها أصدقاؤه اليوم صار مبلغاً لم يعد تدبيره بالأمر الهيّن. إنها طفرة العقارات. وهؤلاء هم الفئة الجديدة التي تتذوق حلاوة الاستثمار"المضمون"الذي في الغالب كان دوماً خارج حساباتها. مهندسون وأطباء وإعلاميون تجمعهم اليوم علاقة جديدة مع المال ويشغلهم هاجس دائم بتنميته على خلفية نمو اقتصادي غير مسبوق تعيشه الإمارة الشابة. فدبي اليوم صارت قبلة العمال والمهنيين ورجال الأعمال والسواح والمشاهير من فنانين ورياضيين على حد سواء. دبي فندق"برج العرب"ومنتجعات مدينة جميرا ومدينة الإعلام ومهرجان السينما وسباق الخيل ودوري التنس ومهرجان الجاز وغيرها وغيرها، تعد بالمزيد من مشاريع التطوير العمراني مع اقتراب موعد انتهائها من تشييد أعلى مبنى في العالم والمعروف ببرج دبي. مظاهر وأسباب الطفرة عام 2007 بلغت حصة قطاع العقار 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بنمو قدر بنسبة 21 في المئة عن العام السابق. وبإضافة قطاعات البناء والقطاعات الخدمية التي تدور في فلك العقار فإن النسبة من الناتج المحلي تقفز من 8 في المئة الى 23 في المئة. هذا في وقت قفز فيه معدل سعر المتر المربع من الأرض السكنية بنسبة 67 في المئة في 2007. أما معدل سعر المتر المربع من الأرض التجارية فقد نما بنسبة 1702 في المئة عام 2007 بعد أن كان سجل نمواً بنسبة 33.3 في المئة في العام الذي سبق. وقد ارتفعت في شكل صاروخي قيمة الصفقات لشراء أراض تجارية واستثمارية الى 38 بليون درهم عام 2007 مقارنة مع 8.7 بليون عام 2006 بما يعكس الازدياد الواضح في عدد المشاريع السياحية القادمة الى دبي الى جانب تضاعف عدد الشركات التي تؤسس مكاتب لها في الإمارة. ولا شك أن قطاع العقار السكني يستمد دعماً إضافياً من الرغبة المتزايدة لدى أثرياء العالم بامتلاك منازل في مشاريع تعد سبقاً في عالم الرفاهية على غرار منازل جزر النخلة وخريطة العالم التي شيدتها الإمارة في عرض البحر. لكن الوقود الحقيقي لقاطرة النمو العقاري يبقى تدفق الأجانب للعمل والإقامة. فدبي تعد هؤلاء لا بفرص عمل وحسب وإنما بأسلوب حياة يجمع ما يحلم به أي زوجين شابين من رفاهية وأمن وبيئة صديقة للأطفال. ولعل هذه المعادلة شكلت المدخل الأول للشباب الثلاثيني الى عالم العقار. فالبداية بالنسبة الى كثيرين كانت تملك منزل الأحلام وسط مساحات خضراء ومسابح ونواد رياضية وملاعب للأطفال:"حين قدمنا الى دبي قبل خمسة أعوام لم نكن نملك أية مدخرات. كانت شركة"الاتحاد"العقارية تروج لمشروع سكني خارج الحدود المسكونة للإمارة آنذاك وكانت تعرض من أجل جذب السكان الى تلك المنطقة صيغة الإيجار الذي يتحول الى ملكية. كان المجمع السكني غاية في الرفاهية والجمال وكان الإيجار متدنياً، فأقدمنا على الخطوة من دون أن يدور في خلدنا أن ذلك القرار سيفتح أمامنا باب الاستثمار على مصراعيه"يقول أحمد الذي حقق من بيع المنزل ما مكنه لاحقاً من شراء شقة يؤجرها وحجز فيلا عادت عليه بدورها بربح مجز. أحمد، الموظف الإداري، وزوجته وطفلاه البالغ أكبرهما سنتين من العمر يقطنون اليوم في فيلا تتجاوز قيمتها المليون ونصف المليون دولار في أحد أرقى المجمعات السكنية في دبي. ومن المتوقع أن يتجه المزيد من المقيمين الى تملك منازلهم مع اتساع سوق التمويل العقاري والسهولة النسبية في الحصول على قروض سكنية. "أملاك"للتمويل هي أقدم شركة تمويل عقاري في الإمارات. تأسست عام 2000 ونمت في شكل لافت خلال أعوام قليلة. آخر النتائج المالية للشركة تشير الى ارتفاع الأرباح الصافية بنسبة 155 في المئة في النصف الأول من 2008 الى 269 مليون درهم ويرى رئيس مجلس إدارتها ناصر الشيخ أن النسبة المتوقعة لنمو الأرباح على مستوى 2008 تبلغ 90 في المئة. أما أكبر مزود للتمويل العقاري في دبي اليوم فيتمثل في شركة"تمويل"التي تخطت قيمة موجوداتها التمويلية المجمعة، تلك الخاصة"بأملاك"13.6 بليون درهم. وقد دخلت في لعبة التمويل مصارف محلية وأجنبية تتراوح بالإجمال نسبة الفوائد على قروضها بين 7 و9 في المئة فيما تمتد آجالها الى 25 عاماً وتتطلب دفعة أولية من ثمن العقار تتراوح نسبتها ما بين 10 الى 30 في المئة. إلا أن سهولة حصول البعض على قروض سكنية عدة من مصادر عدة في آن تطرح جملة تساؤلات حول مدى انضباطية قطاع التمويل العقاري وحصانته. يقول همام حسن وهو يعمل في الذراع الاستثمارية لإحدى الشركات العقارية إن إمكانية تحقيق الربح السريع عبر البيع المتكرر للعقارات فتح مجالاً لأنشطة غير مدروسة تتمثل في تهافت المستثمرين للحصول على موافقات مبدئية لقروض من مصارف مختلفة لحجز مساكن عدة على الخريطة في آن بهدف بيعها وتحقيق ربح سريع حتى قبل دخول موعد الأقساط الفعلية. "مشاريع الخرائط تتطلب دفعة أولية فقط أما التقسيط فيبدأ حال استلام الشقة أو الفيلا وهذا قد يحدث بعد عام أو اثنين أو أكثر. الكثيرون اليوم يحصلون على موافقات مبدئية من مصارف عدة فيحجزون مساكن على الخريطة ويقومون ببيعها في السوق الثانوية قبل استحقاق أي من الأقساط". من البورصة الى العقار لعل المشاهدات الأولى لوسيم ودانة وديما وسمير حول الفرص التي تتيحها دبي لتعظيم رأس المال كانت بين العامين 2004 و2005 حين كانت ارتفاعات أسعار الأسهم في البورصة تحبس الأنفاس. تأخر هؤلاء في ركوب الموجة حرمهم مكاسب هائلة نتجت من صعود المؤشر للسوق المالية أواخر 2005 الى مستويات 8484 نقطة. لكنهم لاحظوا وبعضهم ذاق مرارة الخسائر التي لحقت بمن دخل سوق المال متأخراً. فمع انزلاق المؤشر الى محيط ال5500 نقطة اليوم ما زال الآلاف عالقين بمحافظ لا يغطي تسييلها إلا جزءاً يسيراً من رأسمالهم المدفوع. تجربة البورصة وعالم المال الافتراضي صورت العقار كملاذ أكثر أمناً في أذهان أهل المال الجدد في دبي. وهكذا غادرت السيولة الجيوب وحسابات المصارف وأسواق الأسهم الى عالم الورش والعقار. والمفارقة هي ان بعض التراجعات الأكثر حدة في البورصة طاولت أسهماً لشركات ذات صلة وثيقة بالقطاع العقاري على رأسها شركة تطوير عقاري تكاد تكون العلامة الفارقة في تطور دبي العمراني. انها شركة"إعمار"العقارية، فسعر سهم"إعمار"اليوم يتداول في محيط 10 دراهم، وهو ما يمثل حوالى ثلث القيمة التي بلغها في أيلول سبتمبر من العام 2005 عند 28.75 دولار. تدفق الأجانب يعزز الطلب ولكن ما الذي يمكن أن يحدث لو انتقل سيناريو البورصة الى قطاع العقار فهبطت أسواق العقار ووجد عدد كبير من المغامرين أنفسهم يحجز الواحد منهم ثلاثة أو أربعة منازل تراجعت أسعارها الى حد أن بيعها لا يمكنه من إيفاء أثمانها؟ "هذا السيناريو غير وارد الآن بالنسبة الى هؤلاء. هم مقتنعون بأن من يشتري رملاً اليوم في دبي سيحقق الربح"كما يقول همام. ويفيد تقرير لصندوق النقد الدولي بأن خطة الإمارات بتسليم 120 ألف وحدة سكنية في الفترة ما بين 2008 وپ2010 قد تتعرض للتأخير في مقابل ضغط الطلب المتزايد على المديين القصير والمتوسط، ما يجعل احتمال التصحيح الحاد في سوق العقارات أمراً غير وارد في هذه المرحلة. "نخيل"وهي إحدى أكبر ثلاث شركات تطوير عقاري في دبي وتقوم حالياً بتطوير أراض بقيمة إجمالية تبلغ 80 بليون درهم على رغم ان عمرها لا يتجاوز الستة أعوام، تقول ان مشاريعها تهدف الى إسكان 3 ملايين نسمة مع حلول العام 2010، فيما يتوقع أن ترتفع نسبة الأجانب من إجمالي السكان الى 89 في المئة مع حلول ذلك العام. ويعتقد بأن النسبة تبلغ اليوم 80 في المئة، من 1.4 مليون شخص هم تعداد سكان الإمارة. تنويع الأصول وتوزيع المخاطر لكن هذه الأرقام المطمئنة الى حد بعيد لا يمكنها بأي حال أن تخفي حاجة حقيقية لنضوج الذهنية الاستثمارية التي يتعامل بها الكثير من مستثمري دبي الجدد مع عالم المال وهي بأي حال عاشت الصدمة الأولى في تراجع البورصة الذي كان الأكثر تأثراً به من وضع كل مدخراته إضافة الى قروض شخصية مرتفعة الفوائد في سهم أو اثنين. اليوم بدأ بعض هؤلاء المستثمرين الجدد بإدراك مخاطر وضع"كل البيض في سلة واحدة"واتجه البعض بالفعل الى تنويع الأصول التي يتملكها ما بين عقار وأسهم وسندات وودائع من جهة، والى توزيع هذه الأصول جغرافياً من جهة أخرى. فالازدهار العقاري في دبي ليس ظاهرة استثنائية على مستوى المنطقة على رغم كونه يحمل سمات شديدة الخصوصية تتعلق برؤية دبي لنفسها ولدورها حاضراً ومستقبلاً. وأسباب الازدهار العام باتت معروفة لا سيما في ظل أزمة الائتمان الأميركية وما أدت إليه من ابتعاد مال العقار عن أكبر اقتصاد في العالم وبحثه عن الفرص خارج الولاياتالمتحدة وأوروبا. "أي تي كارني"شركة عالمية في مجال الاستشارات والدراسات الاستراتيجية أطلقت أخيراً مؤشراً للفرص العقارية في العالم تربع على قمته ما بات يعرف بمنطقة الشيميا CHIMEA التي تشمل الرقعة الممتدة من الصين عبر الهند والشرق الأوسط وصولاً الى افريقيا. وتحتل المراتب الثلاث الأولى كل من الصينوالهند وتايلند تباعاً فيما تأتي المملكة العربية السعودية سادسة على اللائحة وأولى بين دول الشرق الأوسط تليها الإمارات العربية المتحدة. وسينفق بحسب أبحاث الشركة 4.1 تريليون دولار في قطاع العقارات في المنطقة التي شهدت نمواً سنوياً مجمعاً على مستوى الدول الخمسين الناشئة والأكثر نشاطاً بنسبة 6 في المئة، فبلغ إنفاقها العقاري 1.7 ترليون دولار عام 2007. يقول وسيم:"استثمرنا في البورصة في دبي وخسرنا نصف رأسمالنا على الورق حتى اليوم. لن نسحب المال على أمل أن تعود البورصة الى سابق عهدها بعد بضعة أعوام. أما في ما يخص العقار فقد اشترينا بالتقسيط منزلين حققنا مبلغاً جيداً من بيع أحدهما ونود الاستثمار في سوق أخرى الى جانب دبي لتقليل المخاطر. نفكر في بيروت أو مصر".