لم تجلب نهاية الحرب الباردة السلام للعالم. بل على العكس، اذ انتشرت الصراعات والنزاعات وسباق التسلح، بخاصة في البلدان ذات الدخول المنخفضة والمتوسطة، والتي يقع معظمها في آسيا وأفريقيا. وبرهنت الدراسات التطبيقية حجم التأثير الكبير للنزاعات المسلحة وانتشار العنف وانعدام الأمن على الموازنات وبرامج التنمية الاقتصادية للدول الخاضعة لها. ووجدت أن النزاعات المسلحة لها تأثير بالغ في خفض النمو الاقتصادي في شكل مباشر وغير مباشر، من خلال اقتطاع جزء كبير من المخصصات المالية الموجهة للانفاق على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة ذات التأثير المباشر في عملية التنمية الاقتصادية. والتأثير السلبي في إدارة النظام المالي ورقابته، من خلال تدميرالموارد المادية والبشرية وبالتالي إضعاف المركز المالي للدولة. وتعطيل الأنشطة الاقتصادية والعوائد المالية والجباية الضريبية. اضافة الى تسارع معدلات التضخم وخفض قيمة العملة المحلية وانعدام الثقة فيها، وتحوّل الأموال من النشاطات الاقتصادية المنتجة للقيمة المضافة إلى ممارسات غير منتجة كشراء الذهب وخزنه أو تهريب الأموال الوطنية إلى الخارج، ثم انخفاض حجم العلاقات التجارية الثنائية والمتعددة نتيجة لارتفاع تكاليف الصفقات التجارية والمشاريع في ظل عدم الاستقرار الأمني، الى الأبقاء على معدلات الانفاق العسكري والأمني عند مستويات مرتفعة حتى بعد زوال أسباب العنف وعلى حساب الأموال المرصودة للتعليم والصحة العامة وتقديم الخدمات الاجتماعية والإنسانية للمواطنين. ويؤكد بعضهم أن للانفاق العسكري والأمني نتائج إيجابية لما يحققه من حفز لإنتاج بعض من القطاعات المحلية. إلا أن واقع الأمر يشير بما لا يقبل الشك الى أن مثل تأثير كهذا يكون محدوداً في بلدان العالم الثالث, نظراً لأن معظم المشتريات والتجهيزات المطلوبة من قبل النشاط العسكري والأمني يستورد من الأسواق الخارجية التابعة للدول المصنّعة والمصدرة لها في الأصل. لذا فقد ثبت أن خفض الانفاق العسكري والأمني يؤدي إلى تسريع عمليات تراكم رأس المال الوطني وتحسين كفاءة استغلال الموارد، وتسريع عملية التنمية الاقتصادية للبلد المعني. ان النهوض بالاقتصاد الوطني في الدول النامية والعربية منها، قبل النزاعات العسكرية والصراعات الداخلية والانفلات الأمني وبعدها، يقضي بضرورة التركيز على تصميم الوسائل والآليات التي تتيح استخدام السياسة المالية بشكل كفوء يؤدي إلى تسارع معدلات النمو المادي والأنساني للبلد. فقد أثبتت الدراسات التطبيقية أن اعتماد سياسة مالية حكيمة تهدف إلى السيطرة على عجز الموازنة وحجم الدين العام وإبقائهما عند مستويات الحد الأدنى، سيقود إلى خفض مستويات الفقر وتحسين الظروف الاجتماعية للبلد وتحقيق استقرار اقتصادي خالٍ من الأزمات الخانقة وخلق ظروف مشجعة للاستثمار والتنمية والتحكّم المعرفي في تعبئة مصادر الثروة الوطنية وتوزيعها. وفي هذا الشأن أصدر الكثير من المؤتمرات المنعقدة تحت مظلة الأممالمتحدة توصيات تتركز حول ضرورة: خفض الفقر بكل أشكاله، تعميم التعليم والصحة العامة والنهوض بدرجة نوعيتها، تقليص وفيات الأطفال وضمان ديمومة البيئة الصالحة، الأهتمام بالبنى التحتية وربطها بالنشاطات الاقتصادية المنتجة، زيادة التخصيصات المالية لنشاطات البحث والتطوير للقطاعات الاقتصادية والخدمية القادرة على تحقيق قيمة اقتصادية مضافة. وسيؤدي تحقيق تلك الأهداف بالضرورة إلى زيادة نمو نشاطات القطاعات والمصادر المالية اللازمة للإنفاق المادي والبشري وإطلاق ديناميكية التنمية الاقتصادية المستدامة. إن برامج السياسات المالية التصحيحية"المقيدة"التي يوصي بها صندوق النقد الدولي، تركز على تصعيد درجات التقشّف المالي وإهمال معالجة أسباب ومتغيرات تحقيق التنمية الاقتصادية. كما ان السياسة التصحيحية المطلوبة يجب أن تبدأ بالتركيز على الآليات والبرامج التي تعمل على رفع كفاءة عمليات التوليف بين عناصر الانفاق الحكومي ومنها زيادة التخصيصات المالية لبرامج خفض مظاهر الفقر من بطالة وجوع ومرض في البلد المعني، على كل المستويات العمرية والاجتماعية. أما في خصوص الموارد المالية المتاحة، فتعتبر الديون الخارجية من أكبر القيود المحدّدة لتحقيق تنمية مستدامة. لذا فإن التخلص منها وإنحسار تأثيرها في الهيكل الاقتصادي في المدى المتوسط والبعيد، يعتبر فعلاً إيجابياً مباشراً يزيد فاعلية الاستثمار والنمو الاقتصادي الوطني الشامل. لذا فإن إعتماد موازين إنفاق تضخمية تستند الى زيادة حجم تدفق المساعدات والديون الخارجية، سيحد من عمليات تطوير الطاقة الاستيعابية للقطاعات والآليات المطلوبة للنهوض بالاقتصاد الوطني. إن وضع سياسة مالية حكيمة واعتمادها، يعتبر الدعامة الأساسية لتحقيق التوازن المرغوب على مستوى الاقتصاد الكلي والجزئي. كما أن السياسة المالية يمكن أن تكون أداة اعاقة وتدمير عند اعتماد الدولة قرارات خاطئة في مجال تعبئة رأس المال المادي والبشري للدولة وتوظيفه. على الدول العربية بخاصة النفطية منها، العمل على اعتماد استراتيجية إنفاق وطني كل بحسب ظروفه، تهدف إلى خفض التخصيصات المالية للنشاطات العسكرية والأمنية لمصلحة التنمية المادية والبشرية للبلد.