تُعد السياسة المالية من المفاهيم التي طرأ عليها تغيرات كبيرة اقتصادية واجتماعية ومالية عبر التاريخ، فهي المرآة لدور الدولة الاقتصادي والاجتماعي في إدارة شؤون دفة الاقتصاد، وتشكل انعكاسًا له في كل عصر، حيث مهد ظهور الأزمات الاقتصادية الطريق لتطور النظرة إلى المالية العامة لتصبح سياسة تستخدم فيها الحكومات برامج الإنفاق العام والإيرادات العامة التي تتناسب مع الوضع الاقتصادي القائم لكل دولة لتحدث آثارًا مرغوبة في كل من مكونات الاقتصاد الكلي وتمنع عنها الآثار غير المرغوبة. ففي عهد الإغريق على سبيل المثال، تضمنت كتابات أفلاطون وأرسطو بعض الأفكار الاقتصادية العامة والقليل من التعليقات على المسائل المالية، ولكن كان لأفكارها الاقتصادية والسياسية بشأن الدولة والملكية شأن كبير في تطور الفكر الاقتصادي في العصور اللاحقة وبالتالي تطور الفكر المالي في العصر الحديث، وفي عهد الإمبراطورية الرومانية كان تطور الفكر المالي مرتبط أساساً بسيادة النزعة الفردية في هيكل الاقتصاد الروماني بعد فكرة القانون الطبيعي التي شكلت بدورها الأساس الفكري والقانوني للرأسمالية، وفي العصور الوسطى كان النظام الاقتصادي سائدًا وكان للكنيسة دور كبير في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في حين كادت الدولة أن تختفي وتخفي معها النظام المالي. تعريف السياسة المالية تُعرف السياسة المالية بأنها مجموعة الأدوات التي تستخدمها الدولة للتأثير على النشاط الاقتصادي لتحقيق هدف معين، وتتكون من أدوات الإنفاق العام وأدوات الإيرادات العامة، وتتميز السياسة المالية في القدرة العالية على التحكم في الظواهر التضخمية لما تتمتع به أدواتها من تأثيرٍ مباشر. كما تسعى لتحقيق الاستقرار والتوازن الاقتصادي من خلال تأثيرها في مستويات الطلب الفعلي وموازنته مع حجم العمالة المحققة. وتباشر السياسة المالية عملها من خلال الإنفاق الحكومي بالتحكم في هيكله وحجمه وكذلك من خلال الإنفاق الفردي الخاص بالأفراد والمشروعات. كما أن لها دور هام في تحديد مستوى الرفاه الاقتصادي والاجتماعي في الدولة وذلك من خلال تزويد المواطنين بما يحتاجونه من خدمات مختلفة، وتنويع مصادر الدخل الوطني بتنويع مجالات استثمار الفوائض المالية المحققة. وظائف وأدوات السياسة المالية التأثير على مكونات الاقتصاد الكلي لتحسين الأداء الاقتصادي والذي يفرض الحاجة بأن تحدد السياسة المالية الحالة التي يكون عليها الاقتصاد لتحديد الهدف الذي يجب أن تعمل على تحقيقه ومن ثم تقرير كيف يمكن أن تستخدم الأدوات المالية لتحقيق الهدف المحدد عبر تأثير هذه الأدوات في المتغيرات الاقتصادية للحالة الاقتصادية التي يعيشها اقتصاد الدولة. فالضرائب على سبيل المثال، تؤثر في الادخار (تؤدي إلى تخفيضه عمومًا) والذي بدروه يؤدي إلى نقص حجم الاستثمارات وبالتالي نقص حجم الإنتاج الذي يخفّض العرض الكلي. في حين أن النفقات العامة تؤثر في العرض الكلي، فنقص النفقات يؤدي إلى نقص العرض وزيادة حجم النفقات العامة يؤدي إلى زيادة الاستهلاك الذي يؤدي إلى زيادة الطلب الذي يحفز العرض على الزيادة المطلوبة للوصول إلى حالة الاستقرار الاقتصادي. - زيادة معدلات النمو الاقتصادي على المدى الطويل، والذي تسعى السياسة المالية من خلال ذلك، إلى زيادة معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي على المدى الطويل من أجل رفع معدل الرفاهية الاقتصادية في المجتمع. حيث تعمل أدوات السياسة المالية على تحقيق هذا الهدف، وإن لم تحقق ذلك يمكن القول إن مكونات السياسة المالية غير متجانسة وقد تؤدي إلى أهداف غير مرغوبة؛ لذلك تحدد السياسة المالية بناءً على حالة الاقتصاد القائمة في البلد ومن ثم تختار الأدوات المالية المناسبة كي تسهم في زيادة حجم الطلب الكلي على المدى الطويل، الأمر الذي يدفع إلى زيادة العرض الكلي في الاقتصاد الوطني، مع ملاحظة أن هذه الزيادة يجب أن تفوق نسبة الزيادة السكانية كي تؤدي المأمول. السياسة المالية التوسعية تَهدف السياسة المالية إلى علاج الفجوة الانكماشية بزيادة الدخل التوازني عن طريق زيادة الإنفاق الحكومي أو تخفيض الضرائب أو كليهما. حيث تؤدي الزيادة في الطلب الكلي إلى زيادة الدخل ليصل لمستوى التشغيل الكامل باستخدام أدوات السياسة المالية التوسعية. ويُعد تأثير الإنفاق الحكومي أكبر من تأثير الضرائب على الدخل. ويؤدي تخفيض الضرائب إلى زيادة القوة الشرائية للأفراد مما يؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي والذي يؤدي بدوره إلى زيادة الإنفاق الكلي مما يساعد على التخلص من الانكماش. السياسة المالية الانكماشية تَهدف إلى علاج الفجوة التضخمية بتخفيض الدخل التوازني عن طريق تخفيض الإنفاق الحكومي أو زيادة الضرائب أو كليهما. حيث يؤدي تقليل الطلب الكلي إلى انخفاض الدخل ليصل لمستوى التشغيل الكامل باستخدام أدوات السياسة المالية الانكماشية. في حين تؤدي زيادة الضرائب إلى تخفيض القوة الشرائية للأفراد مما يخفض الإنفاق الاستهلاكي الذي يعد أحد مكونات الإنفاق الكلي وبالتالي انخفاض الإنفاق الكلي مما يعمل على التخلص من التضخم بدرجات متفاوتة. كما يؤدي تخفيض الإنفاق الحكومي إلى انخفاض الإنفاق الكلي وبالتالي تقليص الفجوة التضخمية. تطبيقات عملية للسياسة المالية للسياسة المالية دور فعال خلال الأزمة العالمية 2008-2010م من خلال إنعاش الاقتصاد واستعادة الاستقرار وضمان استمرارية عجلة التنمية. حيث انتهجت بعض الدول سياسة مالية تجاوبت مع فترة الانكماش الاقتصادي العالمي مما كان له بالغ الأثر في تعزيز قدرة الاقتصاد على الصمود أمام تداعيات الأزمة المالية العالمية. كما استفادت بعض الدول النفطية من الطفرات النفطية السابقة وارتفاع أسعار الخام إلى مستويات قياسية الأمر الذي مكنها من تسجيل وفورات مالية ضخمة وفوائض قياسية في موازناتها وحساباتها الجارية وهي عوامل دعمت استمرار النمو الاقتصادي ومقاومة تداعيات الأزمة المالية. كما أقرت هذه الدول ميزانية توسعية في الإنفاق على البنى التحتية، مما عمل على تحريك القطاعات الاقتصادية الأخرى. أدوات السياسة المالية 1- الضرائب بكافة أنواعها مثل ضريبة الدخل وضرائب الشركات والضرائب غير المباشرة وكذلك الرسوم الجمركية التي تفرض على السلع والخدمات سواء كانت محلية أو مستوردة، حيث تفرض الدولة ضريبة أو رسما معينا لتحقيق هدف معين يخدم السياسة الاقتصادية للدولة. وتهدف الدولة من فرضها على سلع معينة إلى حماية صناعة وطنية أو إعادة توزيع الدخل القومي الحقيقي أو رغبة الدولة في التأثير على وارداتها من السلع والخدمات بما يخدم سياستها الاقتصادية العامة. 2- الإنفاق الحكومي يؤثر كل من حجم الإنفاق الحكومي وكيفية توزيعه على النشاطات المختلفة داخل الدولة. وقد يكون الإنفاق الإجمالي ثابتا أي بدون زيادة أو نقص ولكن إعادة توزيعه على الأنشطة الاقتصادية قد يؤثر ايجاباً، فعندما يتم خفض الإنفاق على البنية التحتية لصالح زيادة الإنفاق على التعليم فإن لتوزيع الإنفاق دورا كبيرا في تحفيز الاقتصاد وإعادة هيكلته. أهداف السياسة المالية رفع مستوى الدخول للأفراد وبالتالي تحسين مستوياتهم المعيشية. - تحقيق التنمية الاقتصادية: من خلال زيادة العناصر الإنتاجية المستخدمة في النشاط الاقتصادي سواء عن طريق تشغيل المتعطل منها لدى المجتمع أو زيادة الكمية المتاحة من العناصر الأكثر ندرة، مع رفع إنتاجية وكفاءة استخدام كل منها، وذلك عن طريق إعادة توزيعها بين قطاعات الاقتصاد المختلفة بغية استخدامها الاستخدام الأمثل أو عن طريق إجراء تغييرات جذرية تستهدف في النهاية إلى التخلص من علاقة التبعية الاقتصادية والسياسية للعالم الخارجي. - التخصيص الأمثل للموارد: يقصد بتخصيص الموارد الاقتصادية عملية توزيع الموارد المادية والبشرية بين الأغراض أو الحاجات المختلفة، بغرض تحقيق أعلى مستوى ممكن من الرفاهية لأفراد المجتمع. - تحقيق الاستقرار الاقتصادي: من خلال تحقيق التشغيل الكامل للموارد الاقتصادية المتاحة، وتفادي التغيرات الكبيرة في المستوى العام للأسعار مع الاحتفاظ بمعدل نمو حقيقي مناسب للناتج القومي الإجمالي. - العدالة في توزيع الدخل والثروة بين أفراد المجتمع: يقصد بإعادة توزيع الدخل والثروة إدخال تعديلات على التوزيع الأولي للدخل والثروة بغرض تقليل التفاوت في المجتمع، ومن هنا فإن أي سياسة مالية تتبعها الحكومة يجب أن تقلل من هذا التفاوت. علاقة السياسة المالية بالسياسة النقدية يرتبط التفاعل بين السياسات المالية والنقدية بتبادل تأثير كل منهما على أهداف الآخر. فالسياسة النقدية تأثير على السياسة المالية في مسألة تمويل عجز الموازنة حيث يؤثر موقف السياسة النقدية في قدرة الحكومة على تمويل عجز الموازنة لأن تكلفة خدمة الدين تتغير تبعًا لضيق أو اتساع المصادر المتاحة للتمويل. السياسة المالية في المملكة العربية السعودية تُعد السياسة المالية المحرك الرئيس لاقتصاد المملكة، ويعتبر استغلال الإيرادات العامة للدولة لتمويل البرامج التنموية أحد أدوات السياسة المالية، ومن خلال هذه السياسة تحقق الدولة أهدافها الاقتصادية والاجتماعية النافعة كالاستقرار وعدالة توزيع الدخل والعدالة بين الأجيال. وتؤثر السياسة المالية إيجابًا على المستوى الفردي والوطني من خلال رفع معدلات النمو الاقتصادي، ورفع مستويات المعيشة، والحفاظ على استقرار النشاط الاقتصادي. ويُعد الإنفاق الحكومي الأداة الأساسية التي تستخدمها المملكة لإحداث تأثيرات على مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية من خلال دعم الحكومة للمواد الاستهلاكية والخدمات العامة والقروض والإعانات وتشجيع الاستثمار. بينما تشكل الضرائب جزءًا هامشيًّا في موازنة المملكة. وتتأثر الدول في سوق النفط العالمية بالأسعار، مما يؤدي إلى تقلبات في حجم إيراداتها النفطية. ويشكل عدم استقرار أسعار النفط وتقلبات إيراداته تحديات أمام إدارة المالية العامة في المملكة العربية السعودية. حيث تسعى إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي بتمهيد أثر التقلبات والصدمات الاقتصادية على الاقتصاد المحلي غير النفطي. وقد أثرت الأزمة المالية العالمية في الاقتصاد العالمي برمته، فلم يعد هناك أي اقتصاد في منأى عن تأثير هذه الأزمة سواءً كان هذا التأثير مباشرًا أو غير مباشر، إلا أن أثرها كان محدوداً على المملكة العربية السعودية مقارنةً بالدول الأخرى؛ كون الإنفاق الحكومي لم يكن قويًا فحسب ولكنه ازداد في الواقع في ميزانية عام 2009م. ورغم الآثار المجتمعة لانهيار أسعار النفط والزيادة في الإنفاق بالميزانية لعام 2009م، وهو ما نتج عنه عجز متوقع في الميزانية، فإن الاحتياطيات المالية الضخمة بالمملكة كانت خط الدفاع الأول لسد العجز، وبالتالي تفادي الحاجة إلى اللجوء إلى الاقتراض من الخارج. ويمكن القول إن أهم تأثيرات الأزمة المالية العالمية على اقتصاد المملكة هو حدوث تباطؤ في نمو الاقتصاد السعودي، نتيجة التراجع في الصادرات النفطية وغير النفطية، والانخفاض في تدفق الاستثمار الأجنبي للمملكة. يعتقدالبعض... يعتقد ويخلط البعض بين السياسة المالية والنقدية ويعتبرهما وجهين لعملة واحدة، بمعنى آخر أدق وأوضح أن كلا السياستين تتطابق من حيث المسؤوليات والاختصاصات والأهداف، وهذا الخلط والاعتقاد خاطئ، باعتبار أن لكل سياسة نطاق وواجبات ووسائل للتأثير على السياسة الاقتصادية، ولكن وعلى الرغم من ذلك فإنه لا يمكن تحقيق الأهداف والتخلص من الأزمات والمشاكل الاقتصادية دون التنسيق والملاءمة بين أهداف ووسائل كل منهما تجنبًّا للتعارض والتضارب بين هاتين السياستين.