يشهد مجلس التعاون الخليجي في الوقت الحاضر مرحلة جديدة في مسيرته التكاملية والتنموية وخصوصا بعد تشكيل هيئة التنسيق الاقتصادية والتنموية، وبعد مرور زمني أعطى نضجا جيدا لتجربته، وبعد أن استطاع التوصل إلى تثبيت أهداف أكثر وضوحا يسعى لتحقيقها على المديين المتوسط والطويل الأجل وهي الاتحاد الجمركي والسوق الخليجية المشتركة والعملة الموحدة. وأمام التحديات الراهنة التي يواجهها المجلس والمتغيرات الخارجية التي تتواكب مع اقترابنا من العقد الثالث للقرن الحادي والعشرين، فقد اصبح من الضروري ان يكون هناك تصور شامل الاطار يجمع وينسق جهود وفاعليات المسيرة التنموية في مختلف مجالاتها وابعادها الرسمية والشعبية في المرحلة المقبلة. لذلك فان أي مجهود حقيقي لوضع خطط تنموية تكاملية بين دول مجلس التعاون الخليجي لابد أن يقوم على أطر وأهداف وسياسات واضحة. ويتصدر موضوع تفعيل التوجهات والسياسات والآليات المستقبلية لمسيرة التنمية بدول المجلس القضايا الاقتصادية التي تناقشها الاجهزة المعنية بدول التعاون في الوقت الحاضر. وتشمل كذلك ترسيخ جوانب التكامل الاقتصادي بين دول المجلس من خلال الاهتمام بالبعد التكاملي في خطط وبرامج التنمية بدول مجلس التعاون مع التوسع في المشروعات الخليجية المشتركة والسعي لتفعيل السوق الخليجية بالكامل. وتستهدف جهود الإصلاح المالي الخليجية مواجهة العجز في الموازنات العامة في دول المجلس والحرص على تحقيق الاستقرار المالي وقيمة العملة. كذلك الاهتمام بالتطوير التقني كأحد أهم محاور السياسات الاقتصادية وتنسيق أسواق العمل بين دول مجلس التعاون بهدف معالجة مشكلة البطالة في دول المجلس واحداث تغييرات ايجابية في التركيبة السكانية. وفي جانب التنمية البشرية، فان الاهداف تتركز في تنمية الموارد البشرية كمحور رئيسي لمسيرة التنمية ورفع مستوى التعليم الأساسي ووضع سياسة سكانية واضحة تهدف الى ايجاد توازن بين معدلات النمو الاقتصادي والسكاني بغرض رفع المستوى المعيشي للفرد وتحديد دور الحكومة في النشاط الاقتصادي وتطويره ليقتصر على دور الموجه الاستراتيجي وتوجيه الانفاق العام تجاه تحقيق وتطوير الوظائف الأساسية للدولة وما يعجز القطاع الخاص عن القيام به أو لا يرغب في أدائه. ومن أجل تحقيق تلك الأهداف بامكان دول التعاون الاستفادة من الخبرات العالمية ولا سيما خبرات الدول الآسيوية. لقد نهجت هذه البلدان العديد من السياسات والوسائل الفعالة يأتي في مقدمتها خلق إدارة فعالة وديناميكية لبرامج التنمية تستجيب إلى المتغيرات والظروف الخاصة حيث تمتزج أشكال التدخلات الحكومية المعتدلة لحماية الاقتصاد مع صور إطلاق المبادرات والحريات للقطاع الخاص ليأخذ دوره كاملا في التنمية. أما الوسائل الرئيسية لتحقيق النمو الاقتصادي المستهدف فتتمثل في تراكم رأس المال المادي والبشري وتخصيص هذا الرأسمال للاستثمارات ذات الانتاجية العالية وحيازة التكنولوجيا واتقانها، واخيرا تحقيق نمو سريع للإنتاجية. ففيما يخص بناء رأس المال البشري، تبرز هنا أهمية الاستثمار في التعليم الأساسي. وفي دول شرق آسيا -على سبيل المثال- تركز الانفاق العام على التعليم الابتدائي والثانوي (حوالي 80% من اجمالي الانفاق على التعليم) وذلك بهدف نشر التعليم ما بين أوسع قدر ممكن من القطاعات. كما استخدمت الاعتمادات المالية المتبقية تحت هذا البند أساسا لتعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة في حين تم تدبير التعليم الجامعي في مجال الانسانيات والعلوم الاجتماعية عن طريق القطاع الخاص. كما تم استيراد الخدمات التعليمية على نطاق واسع وخاصة في المجالات التي تتطلب مهارات تخصصية. أما فيما يتعلق بالرأسمال المادي، فتبرز هنا أهمية حشد المدخرات عن طريق أسعار فائدة حقيقية ايجابية بشكل عام على الودائع والاشراف الدقيق على الأنظمة والأجهزة المصرفية ووضع أنظمة لحماية صغار المودعين. اما في مجال تشجيع الاستثمار، فان الجهود تنصب أولا على انشاء بنية اساسية مكملة للاستثمار الخاص، وثانيا خلق بيئة مواتية للاستثمار عن طريق مزيج من التدابير التحفيزية والسعرية. وقد ساعد على تطبيق هذه السياسة في بلدان مثل اليابان وكوريا وماليزيا لفترات طويلة أن المدخرات لم تكن تستجيب بدرجة كبيرة للتغيرات في أسعار الفائدة الحقيقية فوق الحد الأدنى الايجابي المطلوب لها. وقد مكن ذلك من زيادة الاستثمارات الموجهة للقطاعات الانتاجية وتقديمها بكلفة اقل دون إلحاق ضرر واضح بالمدخرات. كذلك ترد ملاحظة هنا هي ذلك الخليط من سياسات السوق والتدخل الحكومي الذي دأبت بلدان شرق آسيا على اتباعه لضمان النجاح. وقد تم هذا المزج سواء من حيث توقيت هذه التوليفة في اطار زمني يتغير وتتغير معه تلك التوليفة كلما دعت الحاجة إلى ذلك بصورة ديناميكية قادرة على معرفة الامكانات والموارد والاحتياجات المحلية من جهة، واستيعاب صلة ذلك بالتطورات العالمية من جهة أخرى. وهذا يعنى ضمنيا أن أساس نجاح التنمية الاقتصادية الآسيوية هو وجود العنصر البشري المحلي الكفء الذي هو المخطط والمنفذ لتلك السياسات وتوليفاتها. إن العنصر البشري يجب أن يحظى بأولوية رئيسية في برامج التنمية، كما أن مراكمة المعرفة الاقتصادية هدف يجب أن نسعى إليه بشتى الطرق والإمكانات. أما برامج التنمية المادية كمراكمة رأس المال وتخصيصه وتشجيع الانتاج والصادرات والتكنولوجيا فقد نجحت الدول الخليجية في تنفيذ العديد منها بمستويات مختلفة إلا ان الحاجة تبقى ملحة لتعزيز القناعة بدور القطاع الخاص واهميته وخلق البيئة الاستثمارية الملائمة والمحفزة لقيامه بتوجيه مزيد من أمواله لتنمية اقتصاده الوطني. واخيرا فان الدول الخليجية بحاجة فعلية لترسيخ الايمان بمبدأ المشاركة بين مختلف فئات المجتمع وبينها وبين قياداتها. لقد اعتادت فئات واسعة من الناس أن تحصل على كل ما تريده من خدمات وأسباب رفاهية دون أن تقدم ما يوازي ما تحصل اليه على صورة عمل إنتاجي واجتماعي مثمر. ومن الضروري ان يتم تطوير أشكال اجتماعية واقتصادية تربط بين حجم ونوعية الخدمات الاجتماعية والترفيهية التي تحصل عليها فئات المجتمع بحجم ونوعية مشاركتها في الانتاج والعمل لتطوير وتقدم مجتمعاتها.