يقولون إن الجو كان طيبا ولطيفا ودافئا. وإن الحوار كان صريحا وشفافا ووديا. وإن الرجلين عثرا سريعا على نقاط تطابق وتقارب وتشابه. وأكدا عمليا ان الخلاف لا يفسد للود قضية. وأن احدا منهما لم يلمس خطوط التوتر العالي ولم يتفحم. ويقولون إن الغداء كان شهيا. سلطة وهندباء ولحم مشوي وحمص وأشياء أخرى لا تهدد صحة حكومة الوحدة الوطنية. ويزعمون ان صفحة جديدة فتحت بين دولة الرئيس ميشال عون ودولة الجنرال فؤاد السنيورة. وان مفاعل الاتهامات سيتوقف عن التخصيب. وان مدرسة النكد ستغير مناهجها. وان المغفرة طوت صفحة المجزرة. وان عهدا جديدا من الحب انطلق وسيدوم اذ صار بين الرجلين خبز وملح وجبران. اعرف ان المواطن كان يشتهي لو ان هذا الغداء عقد غداة حرب تموز. ولا بأس ان يكون وليمة حقائب. وان تعطى المعارضة الثلث اللذيذ الضامن. وان يدخل الحكومة من يتأهبون حاليا. وانه كان من شأن ذلك ان يختصر الآلام. والجنازات. والخيم. وربما فتح الطريق الى القصر. لكن ذلك بات في عهدة التاريخ، والحكمة تقول إن يأتي الغداء متأخرا أفضل من ان لا يأتي أبدا. يربطني بالرجلين خيط من الودّ قديم. على الاقل من جهتي. وحتى الآن. ويربطني بهما خيط من الحبر والاسئلة والاجابات. التقيت العماد في ملجأ القصر قبل عقدين تقريبا. ورأيته مقهورا في المنفى. والتقيته زعيما ناقما بعد عودته. وعرفت الرجل "الناعم والحازم" في معقله في وزارة المال. ثم سيداً للسراي بعد الزلزال. ثم اسيرا محاصرا في عصر الخيم. لهذا سررت بنبأ الغداء لكن الخبث ملح الكتابة وليسامحني الله. خالجني شعور بأن يوم الغداء كان ايضا فرصة للتلذذ ببعض مشاعر الانتقام. وهي مشروعة في السياسة خصوصاً اذا اعتبر المعني انه كان عرضة لظلم غير عادي. في الطريق الى الرابية لم يغب عن ذهن الرئيس السنيورة ان صاحب الدعوة هو الجنرال. أي الرجل الذي نزل وسط الحشود واللافتات ليحكم الحصار على السراي. ويقول الخبثاء إنه كان من دعاة اقتحامها لو لم يتنبه آخرون الى انها خط تماس صعب بين طوائف ومذاهب وقوى اساسية في الاقليم. ولم يغب عن ذهنه ايضا ان صاحب الدعوة درس الحرب النفسية خلال دورة عسكرية في فرنسا. وانه يتقن تشويه صورة خصومه واغراقهم في الاتهامات والافادة من صورة الضحية. وانه حمّله مع فريقه مسؤولية الديون والهدر والفساد بذاكرة انتقائية تناست على الاقل شركاء فاعلين في الجمهورية المتهمة. لم يغب عن ذهن السنيورة ايضا انه سيستقبل بعد الغداء وفي السراي وفداً من "حزب الله" كان طلّق طريق السراي بعد حرب تموز والاعتصام. وقد يكون السنيورة اعتبر ذلك النهار نوعا من اعادة انصاف له. فقد اتهم في السنتين الماضيتين بكل انواع التهم بدءا من سرقة رغيف الشعب وتبديد المساعدات وصولاً الى التواطؤ مع "كوندي" والضلوع في الشرق الاوسط الكبير. هذا من دون ان ننسى تحركات الاتحاد العمالي العام الذي يستفيق دائما عشية الكوارث الوطنية. غالب الظن ان السنيورة ابتسم. لو كانت الاتهامات صحيحة لما وافقت المعارضة بالتأكيد على المشاركة في حكومة وحدة وطنية برئاستي. ابتسم وشعر بلذة الانتقام. صاحب الدعوة ايضا راوده شعور بالانتقام من الذين اتهموا حكومته قبل عقدين انها بتراء وغير دستورية وغير ميثاقية. ومن 14 آذار التي لم تنصبه زعيما لها لدى نزوله من الطائرة ولم تعرض عليه ما يستحق في لوائحها الانتخابية. لذة الانتقام من مسيحيي 14 آذار ومن "القوات" ومن بكركي ومن الذين اعتبروا ان دم الحريري وحده صنع الصفحة الجديدة وتناسوا مواقف الجنرال ومدافع الجنرال. خسر القصر فعاقب من قطعوا الطريق. يدخل تكتله الحكومة بحجم استثنائي. لذة الانتقام. لذة الانتقام. سقت المعارضة الموالاة كأس السمّ في عملية التأديب الموضعية في بيروت. سقتها كأس الثلث المعطل في الدوحة. ردت الموالاة فسقت المعارضة كأس انتخابات الرئاسة. وكأس عودة السنيورة. ومن تبادل الكؤوس ستولد حكومة الانتقام الوطني حكومة الوحدة الوطنية. يقولون إن الغداء كان لذيذا. وان "التفاهم" كان عميقا. وان حرير الودّ سيدوم بين الرجلين فقد صار بينهما خبز وملح وجبران.