لا نعرف طبيعة الأطباق التي زينت المائدة التي جمعت جنرال «التيار الوطني الحر» وجنرال «اللقاء الديموقراطي» برعاية رئيس الجمهورية الجنرال ميشال سليمان. يمكن التكهن ان المائدة كانت منوعة واستوحت مناخات اتفاق الطائف وتصويبات اتفاق الدوحة مع سلة من النيات الطيبة. بالتأكيد لم تكن الصلصات الحارة واردة. ولا مبالغة في مقادير البهارات والحامض والملح فمطبخ القصر الجمهوري وفاقي بامتياز ويتحاشى اي مبالغة او انحياز حتى بين الأطباق. لذيذ ان يلتقي ميشال عون ووليد جنبلاط تحت سقف القصر الجمهوري وبرعاية الجنرال الرئيس. لقاؤهما القصير السابق في باريس قبل اربعة أعوام افشله فقدان الود وإصرارهما آنذاك على تعاطي الأوهام وخلافهما العميق على الأدوار والأحجام. وهو لذيذ لأنه يجمع رجلين لا يمكن انكار رصيدهما في طائفتيهما. جنبلاط زعيم كل الدروز تقريباً. وعون زعيم نصف المسيحيين تقريباً. ثم انه لقاء بين رجلين مجازفين دفع البلد احياناً ثمناً باهظاً لمجازفاتهما من دون ان ننسى المجازفين الآخرين. لا يتسع المكان هنا لسرد لائحة المجازفات. جازف جنبلاط كثيراً. انتصاره في «حرب الجبل» التي حاول تفاديها مزق النسيج اللبناني وأضعف لاحقاً موقع الجبل في القرار اللبناني. أنهكت تلك الحرب الدروز والموارنة معاً. وقبل اسابيع شبّه جنبلاط نفسه الطائفتين بالهنود الحمر في اشارة الى تراجعهما في المعادلة السكانية وفي علاقات القوة بين الطوائف. جازف جنبلاط ايضاً في الحروب في شوارع بيروت. وجازف حين رفض التمديد لجنرال كان اسمه اميل لحود. وجازف حين اغتيل رفيق الحريري. ذكّره الجرح الجديد بجرح قديم فذهب بعيداً في تصفية الحسابات. وحين وقف في ساحة الشهداء ذهب أبعد من المعقول والمقبول والمسموح. وحين ارتطم ب»حزب الله» بعنف نسي ميزان القوى. وحين اصطدم بسورية بدا كمن يحاول تغيير معالم الجغرافيا. وجازف حين ندم كثيراً على الأيام التي بالغ فيها كثيراً. يتقدم مسرعاً ويتراجع مسرعاً. شجاع وسريع ومتسرع. متابعته لمشاهد الإقليم بعد إسقاط صدام حسين أقلقته. أحداث 7ايار(مايو) الشهيرة ذكرته ان الفتنة تقيم تحت النافذة. أيقظت الصدمات والضربات حنينه الى دمشق والعمق العربي والإسلامي فأمطر الساحة بالاعتذارات بعدما كان أمطرها بعكس ذلك. الجنرال عون استاذ في المجازفات. شغر القصر الرئاسي في 1988 فاستجارت الجمهورية بقائد الجيش. شكل حكومة عسكريين تحولت «بتراء» لحظة ولادتها وكان أصدقاؤه الحاليون يسمونه «الضابط المتمرد». أحب القصر واعتقد ان المنقذ يأتي دائماً على دبابة. انطلق الجنرال المجازف. جازف ب»حرب تحرير» ضد سورية. وب»حرب إلغاء» ضد «القوات اللبنانية». وبرفض تسليم القصر للرئيس رينيه معوض وبعدم الخروج منه إلا على دوي المدافع اللبنانية والسورية في عهد الرئيس الياس الهراوي. ومن ساحة القصر أطلق خطباً قاسية يفضل اليوم ان ينساها الناس. رغبته في إعادة التموضع بعد عودته من المنفى اثر اغتيال الحريري تشبه رغبة جنبلاط الحالية في اعادة التموضع. التفت الى الجغرافيا والديموغرافيا. دربه على القراءة خبير في شؤون الأقليات والتضاريس اسمه كريم بقرادوني. اطلق رحلة الثأر من 14 آذار. وثيقة تفاهم مع «حزب الله» ورحلة لاكتشاف مناجم الود مع سورية. لكن حلم المجازف بالقصر لم يتحقق. جازف في الانتخابات الأخيرة وعاد بكتلة كبيرة. عاقب الناخبون صهره جبران باسيل في الانتخابات النيابية فعاقبهم بالإصرار عليه وزيراً في الحكومة ووريثاً في التيار. أغلب الظن أن الغداء كان لذيذاً. الأهم هو الخروج من زمن المجازفات الى زمن الدولة أو شبه الدولة. موقع القصر الجمهوري وفاقي بطبيعته. قريب من بيروتالشرقية. ومن الضاحية الجنوبية. ومن طريق بيروت - دمشق. والأهم أيضاً هو قيام دولة تتسع لكل بنيها ولا تثير تحولاتها ذكريات الهنود الحمر.