كان المشهد واحداً من أقوى ما صور فيم فندرز في فيلم وثائقي له. وسيقول لاحقاً، إنه المشهد الذي أمتعه، بقدر ما أحزنه، الى درجة اختلط لديه الحزن بالمتعة في شكل مدهش: جاء المشهد في فيلم"شريط نيك"، الذي حققه فندرز خلال العام الأخير من حياة المخرج نيكولاس راي نيك حسب تسمية الأصدقاء له. حقق فندرز الفيلم وهو كمن يسابق الزمن، فهو كان يعرف وراي أيضاً كان يعرف ان المريض لم يبق لديه سوى أسابيع قليلة يعيشها. وكان يريد أن يصور أطول فترة ممكنة معه ليجعل من ذلك جزءاً أساسياً من الفيلم. إذن، في المشهد، تدخل الكاميرا ووراءها فندرز من باب شقة راي المتواضعة لتجده ممدداً على السرير، ينظر بقوة وعزم على رغم أن جسده يبدو متهالكاً. بعد الترحيب، يبدو على راي كمن يستعيد قوته ويبدأ حوار حول السينما والمرض والموت. وإذ يتعين على راي أن يأتي خلال الحديث على ذكر أفلام له، تجده لا يتذكر، أول الأمر سوى اسمين:"ثائر من دون قضية"وپ"جوني غيتار"، هذا على رغم أن هذا الهوليوودي المخضرم كان حقق دزينات من الأفلام. ولئن كان"ثائر دون قضية"، قد استنفر دائماً أفلاماً كثيرة كي تكتب عنه. فإن"جوني غيتار"يبدو أقل حظاً، لأنه إن ذكر لا يذكر إلا بفضل الأغنية الشهيرة التي تحمل عنوان الفيلم، ولكونه أشهر فيلم مثلته جوان كراوفورد في مسارها السينمائي. أما"ثائر من دون قضية"فيتذكر لأسباب عدة، أولها أن بطولته كانت لجيمس دين، نجم الستينات الأسطوري، وبعد ذلك لأنه كان من أول الافلام الهوليوودية التي تصدت لانتفاضة الشبيبة، ممهدة لثورة الستينات. ولئن ارتبط اسم نيكولاس راي بپ"ثائر من دون قضية"في شكل دائم وعفوي فإن قلة فقط يمكنها أن تتذكر انه كان هو من أخرج"جوني غيتار". ومع هذا لا بد من الإقرار اليوم بأن هذا الفيلم يمكن اعتباره واحداً من أفضل عشرة أفلام"رعاة بقر"حققت في تاريخ هوليوود، بل كذلك الفيلم الذي أنسن ذلك النوع وأسبغ عليه أبعاداً عاطفية لا لبس فيها. انطلاقاً من هذا كله جرى التعارف، وان بعد سنوات طويلة من تحقيق"جوني غيتار"وعرضه، على انه يتجاوز كثيراً إطار أفلام المغامرات، ليبدو أقرب الى حلم رومانطيقي... ولعل هذا ما جعله دائماً يبدو شديد الاختلاف عن كل أفلام"الغرب"وپ"رعاة البقر"التي حققها أساطين هذا الفن من طينة جون فورد وويليام ويلمان وحتى هوارد هاوكس. فهؤلاء كانوا حرصوا دائماً في أفلامهم المنتمية الى هذا النوع، على سلوك دروب واقعية. أما نيكولاس راي فقدم عملاً أكثر اختلاطاً وأقل واقعية، ما جعل فرانسوا تروفو، المخرج الفرنسي الذي بدأ حياته ناقداً، يصف الفيلم بأنه"حلم غربي"، كما يقول عنه انه"الحسناء والوحش"على طريقة رعاة البقر. ولم يكن هذا الوصف غريباً بالنسبة الى فيلم تختلط فيه المغامرة بالمسرح بالرقص بحياة العصابات بالصالون الجامع للاضداد في مدينة نائية وسط صحراء تبدو بلا نهاية. وما هذا سوى الوصف الموارب لهذا الفيلم. فيلم"جوني غيتار"يروي حكاية تدور أحداثها في مدينة تقع في خراج منطقة صحراوية شاسعة. وفي هذه المدينة تعيش المدعوة فيينا جوان كراوفورد، التي تسعى أول وصولها الى إقامة صالون من النوع المعهود في أفلام رعاة البقر، وإذ يدهش المحيطون بها لهذا الاختيار الذي يبدو غير منطقي، تقول لهم إنها تعمل من أجل المستقبل القريب، حيث بات محتماً ان تكون في المدينة محطة للسكة الحديد، ما سيمكن هذه المدينة من الازدهار، ويوجب بالتالي أن يكون لها"صالون". فإذا بادرت هي، معناها انها هي التي ستقطف الثمار. وبالفعل تؤسس فيينا صالونها، وكلها أمل بأنها بعد بناء هذا الصالون وازدهاره، ستتمكن من جمع أصحابها وزبائنها من حولها وحول هذا الصالون ما يعطيها مكانة وسلطة. هنا، وإذ يبدأ الفيلم بعد أن نكون قد أدركنا هذا كله وبدأ الصالون يستقبل رواده، يصل ذات يوم الى المكان المدعو جوني غيتار الذي كان في الماضي لصاً معروفاً بسرعته في إطلاق النار. لقد أصبح اليوم مغنياً جوالاً، وهو ما إن يصل حتى يسعى الى استعادة صداقته الماضية مع فيينا... حتى وان كان اكتشف مع وصوله ان هذه الأخيرة صديقة الآن لرجل شرير من أهل المكان يدعى الفتى الراقص. والفتى الراقص لا يستسيغ بالطبع مشاهدة جوني غيتار هنا، لأسباب أولها طبعاً غيرته على فيينا التي يريد أن يمعن في خطب ودها، وتحويلها من صديقة الى حبيبة. وهكذا يدور جزء من زمن الفيلم على التناحر بين الرجلين، فيما يبدو واضحاً على فيينا المتأرجحة شكلياً بينهما أول الأمر، انها تميل أكثر الى جوني غيتار، العاطفي. غير أن الأمور سرعان ما تأخذ منحى آخر، حين يقوم الفتى الراقص وعصابته بالهجوم على عربة مسافرين وسرقتها، وهذا ما يجعل شرطة المدينة، بحثاً عن الفتى الراقص والعصابة، تأتي الى الصالون للقبض على اللصوص. وتتصدى فيينا للرسميين وتدور معارك، يحترق خلالها الصالون، ما يجعل الأمور تنتهي بفيينا وجوني غيتار معاً، وقد بارحا المدينة، عند الغسق بحثاً عن آفاق أخرى لحياتهما التي باتت مشتركة منذ ذلك الحين. من الواضح هنا أن هذه الأحداث، التي تشبه الأحداث التي نجدها في أفلام رعاة البقر وپ"الغرب"عادة، ليست سوى الخلفية الحديثة لفيلم يريد أن يتجاوزها بكثير. ذلك أن ما لدينا هنا، في حقيقة الأمر، إنما هو حكاية غرامية رومانطيقية، زينتها كاميرا نيكولاس راي بألوان شديدة الغرابة تجعل المتفرج وبحسب ما يقول فرانسوا تروفو الذي كان في مقدمة النقد الفرنسي الذي حدد لهذا الفيلم قيمة كبرى، في وقت كان النقد الأميركي لا يزال عاجزاً عن إدراك القيمة الفنية الحقيقية لهذا الفيلم المحيّر تجعله يشعر أنه يعيش حلماً عابقاً بحنين ما. وبخاصة لأن الأساس هنا، في هذه الدراما السيكولوجية الجوانية، هو إظهار العواطف وتحويل البيئة المكانية الى شاهد على ما في دواخل القلوب. ولا بد هنا من الإشارة مرة أخرى، الى الدور المدهش الذي تلعبه الألوان في هذا الفيلم، فهي التي أعطته طابعه الما - فوق واقعي وبعده"التراجيدي من طريق الصورة لا من طريق الحدث نفسه". ان هذه الجوانب في الفيلم، لم تفهم كما ينبغي أول الأمر، فاعتبرت من قبيل الزينة، بل كان ثمة بين النقاد الأميركيين من أخذ على راي إسرافه في استخدام مبتذل للألوان. أمثال هؤلاء النقاد كان عليهم ان ينتظروا زمناً مقبلاً قبل أن يدركوا حقيقة ما أراد نيكولاس راي التعبير عنه في هذا الفيلم، وتقديمه على سبيل التجديد في قواعد نوع سينمائي كانت أسسه قد ترسخت منذ زمن وباتت في حاجة الى التجديد. ونعرف اليوم أن"جوني غيتار"كان، بالفعل، بداية تطوير طاول أفلام"الغرب"في اتجاه إنساني وعاطفي، لعبت فيه المشاهد الطبيعية والألوان دوراً كبيراً "شين"لجورج ستيفنز على سبيل المثال. عاش نيكولاس راي بين 1911 و1979. وبدأ مساره السينمائي بفيلم أثار ضجة مبكرة هو"انهم يعيشون ليلاً". أما أول أفلامه فكانت بوليسية ذات صبغة تعبيرية يدور معظم أحداثها في ليل المدن. لكنه سرعان ما تدرج نحو توزع أكثر في أنواع الأفلام التي يخوضها، علماً بأنه وصل الى ذروة شهرته حين حقق، بعد عام من"جوني غيتار"، فيلم"ثائر من دون قضية 1955 الذي، كما أشرنا، أطلق أسطورة جيمس دين. أما في مجال السينما الاجتماعية فهو وصل الى أعلى درجات النجاح، مع"أكبر من الحياة"الذي حققه سنة 1956. لاحقاً تدهور مسار راي الإخراجي، لا سيما إذ راح يدمن الكحول والمخدرات، ما غيّبه عملياً عن الساحة الفنية، حتى سنوات السبعين من القرن العشرين حيث استعاد بعض مكانته، ولكن ليس لفترة طويلة، مع ان كباراً من أمثال مارتن سكورسيزي وجان لوك غودار، لم يتوقفوا عن الحديث عنه بوصفه واحداً من كبار معلميهم في فن السينما. [email protected]