68 % نمو السجلات خلال 20 شهراً منذ سريان نظام الشركات الجديد    «السياحة»: نسبة إشغال الفنادق في الرياض تجاوزت 95%    رئيس مجلس الشورى يرأس وفد السعودية في الاجتماع البرلماني بدورته ال 29 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في باكو    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يصل إلى البرازيل لترؤس وفد السعودية المشارك في قمة دول مجموعة ال20    انتظام اكثر من 389 ألف طالب وطالبة في مدراس تعليم جازان    "سعود الطبية" تستقبل 750 طفلاً خديجًا خلال 2024م    فريق طبي ينجح في استخدام التقنيات الحديثة للتحكم بمستوى السكر في الدم    علاج فتق يحتوي 40% من احشاء سيده في الأحساء    "دار وإعمار" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب جلوبال" بتوقيعها اتفاقياتٍ تمويليةٍ وسط إقبالٍ واسعٍ على جناحها    "ثبات للتطوير العقاري" تختتم مشاركتها الناجحة في "سيتي سكيب 2024" بتحقيق مبيعاتٍ نوعيةٍ وتوقيع اتفاقياتٍ مع بنوكٍ رائدة    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    "المواصفات السعودية" تنظم غدًا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    20,124 مخالفاً في 7 أيام وإحالة 13,354 إلى بعثاتهم الدبلوماسية    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    أغرب القوانين اليابانية    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    أشبال الأخضر يجتازون الكويت في البطولة العربية الثانية    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    عروض ترفيهية    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    ابنتي التي غيّبها الموت..    ألوان الأرصفة ودلالاتها    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هامشيون غيروا مفاهيم الفن السابع ورحلوا معزولين . ساتياجيت راي : لا مكان في بوليوود السعيدة لفنان حقيقي 5
نشر في الحياة يوم 24 - 08 - 2007

يعتبر صاحب واحد من أكبر الأسماء في عالم السينما. في الكتب، في الدراسات، في الجامعات، في نوادي السينما. في كل مكان توجد فيه ثقافة سينمائية، ثمة مكانة في المقدمة لساتياجيت راي. هندي بنغالي لم يمارس الفن السابع فقط... بل مارس معظم أنواع الفنون ليتوج ذلك الجمع في أفلامه التي حققها طوال أربعة عقود، ومنها علامات اساسية في تاريخ السينما.
ساتياجيت راي هندي، أي ينتمي الى ذلك البلد/ القارة الذي يضاهي هوليوود في كم انتاجه السنوي من الأفلام... ومن الانتشار الجماهيري للأفلام. غير ان هذه الهوية يجب ألا تخدعنا. فالرجل بالكاد يكون معروفاً في وطنه لدى الجماهير العريضة. فتلميذ طاغور شاء لنفسه، منذ جعل السينما مهنة وهواية له، ووسيلة ابداع، ان يكون جاداً صارماً في ما جديته. بالنسبة اليه لن تكون السينما ابداً وسيلة للظهور، للكسب، او للحضور الاجتماعي. السينما بالنسبة اليه رسالة فكرية، ووسيلة للتعبير عن موقف من الحياة وشؤون الحياة. هكذا تعلم من طاغور. وكذلك من الواقعية الجديدة الايطالية، ومن جان رينوار الذي تعرف اليه باكراً فأحب السينما من خلاله.
وهكذا اختار ساتياجيت لنفسه، منذ البداية ان يكون هامشياً، في مواضيعه الانسانية والاجتماعية غالباً وفي اسلوبه الفني المتقشف والذي يترك مكاناً لبراعة الممثلين ولاستخدام الموسيقى، وفي انتاجه غالباً ينفق أمواله على أفلامه، او يلجأ الى اساليب تمويلية خارج السياق السائد. هل ثمة تناقض بين ما ندعوه هنا هامشيته، وبين حضوره في تاريخ السينما حضوراً كبيراً؟ على الاطلاق، لأن ساتياجيت راي، مثله في هذا مثل الذين سبق لهذه السلسلة أن تناولهم، من روشا الى برغمان، ومن كاسافتس الى غوناي، ادرك منذ البداية انك كي تكون فناناً حقيقياً مجدداً صادقاً وأصيلاً... لا يمكنك ابداً، في عالم اليوم، ألا أن تكون هامشياً.
في كثير من الأحاديث الصحافية التي كان يدلي بها، كان ساتياجيت راي يقول دائماً ان المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو هو من بين السينمائيين الذين يفضلهم في ساحة السينما العالمية، الى جانب جان رينوار وكوروساوا وجون هستون. ومع هذا، حدث في سنة 1956، حين كان مهرجان كان يعرض أول أفلام راي"باتر بانشالي"ليعطيه عند الاختتام جائزة خاصة أطلق عليها اسم"جائزة الوثيقة السينمائية الانسانية"... كان فرانسوا تروفو واحداً من أول الذين بارحوا قاعة العرض في منتصف الفيلم معلناً ضجره وانه لم يفهم شيئاً مما يدور على الشاشة أمامه. لسنا ندري ما اذا كان تروفو قد بدل رأيه لاحقاً في سينما ساتياجيت راي، لكننا نعرف أن هذا الأخير ظل دائماً يثمن سينما زميله الفرنسي عالياً.
أما مغادرة تروفو الصالة عند عرض"باتر بانشالي"فقد كانت شبيهة بما سيفعله كثر، حتى من الهنود، لاحقاً، حين كانوا يدخلون الصالات التي تقدم على عرض فيلم لراي، انطلاقاً من السمعة العالمية لأفلام هذا المبدع البنغالي، ليجدوا ان الفيلم يضجرهم، وانه يختلف تماماً عما كانوا يتوقعون. ففي الهند، البلد الذي كان ? ولا يزال ? ينتج مئات الأفلام الرائجة تجارياً، في السنة، يتوقع المتفرجون دائماً أفلاماً تسير على نفس النمط نفسه: ميلودراميات غنائية راقصة تستعرض فيها العواطف القوية وتستدر الدموع أو القهقهات، وتصخب الألوان ويفتعل الممثلون آلاف التعابير على وجوههم في مواجهة فاتنات يغضبن ويعشقن ويرقصن طوال الوقت. في أفلام ساتياجيت راي، ليس ثمة شيء من هذا كله. بل هناك قضايا انسانية واجتماعية جادة. هناك عواطف متزنة. هناك علاقات بين البشر حقيقية. وهناك نقد للأعراف والممارسات، اضافة الى تصوير متواصل للتبدلات الاجتماعية. فإذا أضفنا الى هذا ان راي صور أفلامه دائماً باللغة البنغالية، فيما نعرف أن الأفلام الناجحة في الهند تصور عادة بالهندية، وأن راي تتلمذ بخاصة على يدي رابندرانات طاغور واقتبس بعض أعماله، النخبوية والجادة، كما سيقتبس لاحقاً النرويجي هنريك ابسن... يمكننا أن نفهم حجم هامشية راي في وطنه الواسع الذي اتسع لكل أنواع السينمات وضاق عن سينما ذلك الفنان الذي كرمه العالم كله وأعطاه عشرات الجوائز المهرجانية وأصدر عشرات الدراسات عنه، وصولاً الى منح أهل الأوسكار له"أوسكار انجاز العمر كله"في سنة 1991، قبل وفاته بعام.
لا أموال للكآبة
ومع هذا كله، حين حقق ساتياجيت راي فيلمه الروائي الطويل الأول"باتر بانشالي"، كان طارئاً على الفن السابع. كان يعمل من دون أية خبرة سابقة... لمجرد رغبة تملكته حين كان ينجز رسوماً لكتاب روائي من كبار كتّاب الهند، يتناول الحياة الريفية في البنغال، في أن يحول الكتاب الى فيلم يسير فيه على نهج"الواقعية الجديدة"الإيطالية التي كان اكتشفها لتوه من خلال مشاهدته"سارق الدراجة"لفيتوريو دي سيكا. هذه الرغبة واتته أواخر سنوات الأربعين من القرن العشرين. وكان ذلك في الوقت نفسه الذي التقى فيه جان رينوار الذي كان يصور فيلم"النهر"في الهند، ثم جون هستون الذي كان قصد الهند لتصوير فيلم له هو الآخر. وهكذا ولدت الفكرة. ولكن أي منتج كان سيوافق على تمويل عمل اجتماعي كئيب تدور أحداثه في ريف ميت، من حول شخصيات بائسة، في فيلم لا مكان فيه للغناء أو الرقص أو النجوم؟ الجواب كان واضحاً منذ البداية. ولذا، ما أن جسد راي مشروع الجزء الأول لأن الفيلم سيصبح ثلاثية تعرف باسم"ثلاثية آبو" حتى جمع ما لديه من مال، وما لديه من أصدقاء كلهم من هواة لم يسبق لهم العمل في السينما ? باستثناء المصور سوبراتاميترا الذي سيرافقه في بعض أفلامه التالية، حتى سنة 1960 حين سيقرر راي انه هو الذي سيصور أفلامه بنفسه مذاك وصاعداً... كما سيفعل بالنسبة الى الموسيقى اذ أنه بعد ثلاثة أو أربعة أفلام لجأ فيها الى موسيقى رافي شنكار وعلي أكبر خان وولايات خان، ممن كانوا كبار موسيقيي الهند، راح يكتب موسيقى أفلامه بنفسه وبدأ العمل.
انفق راي على الفيلم الأول كل ما كان جمعه من مال، لكن الفيلم لم يكتمل إلا حين قررت حكومة البنغال الغربية بعد لأي ومماطلة أن تقدم عوناً. وهكذا ولد الفيلم الأول ليعرض في"كان"مقدماً الى العالم كله سينما هندية لم تكن معهودة. نجح الفيلم في"كان"? رغم موقف تروفو ? ونجح في العالم ما أثار"حشرية"كثر من الهنود، شاهدوه حين عرض وأحبوه الى حد ما. وبهذا تحول راي الى نجم جديد في الإخراج السينمائي، قبل أن يتحول خلال سنوات الى"مؤلف"بالمعنى الشامل للكلمة، حيث صار يشرف بنفسه على كل كبيرة وصغيرة في الفيلم، وأصبح بالتالي واحداً من كبار السينمائيين المرموقين في العالم. غير أن هذا الأمر اذا كان أعطاه مكانة كبيرة على خارطة الفن في العالم، فإنه سرعان ما قلص الاهتمام العملي به داخل الهند، وصار مدفوعاً أكثر وأكثر الى الهامش، الى درجة أنه بعد سنوات زهو أولى، صار تحقيقه كل فيلم من أفلامه مغامرة كبيرة ومعضلة إنتاجية وتمويلية كبرى. لكن هذا لم ييئسه أبداً بالطبع. كما لم ييئسه كون مناطق غربية عدة ? باستثناء بريطانيا ? راحت تفقد الاهتمام به، بعد اللقاء الأول معه، خصوصاً أن أفلامه راحت تغوص أكثر وأكثر في خصوصيات الحياة البنغالية وتعقيدات معضلاتها الاجتماعية والوجودية. وعلى هذا النحو راحت تمر مرور الكرام، عند عرضها الأول في المهرجانات بخاصة، وفي الصالات في بعض الأحيان. تحف سينمائية لن يفيق النقد والجمهور النخبوي عليها إلا متأخراً، وهي أعمال تعتبر اليوم علامات أساسية في تاريخ السينما، ومنها خلال المرحلة الأولى"صالون الموسيقى"1957 فيلمه الثالث، الذي حققه قبل أن يعود الى الجزء الثالث من"ثلاثية آبو"وعنوانه"عالم آبو"1959."صالون الموسيقى"فيلم رائع ينحو منحى"الفهد"لفيسكونتي، بل منحى سينما فيسكونتي كلها، في تصوير انهيار طبقة اجتماعية بأسرها لمصلحة جديد قادم لا نملك رادّاً عنه. هذا الانهيار لم يهتم راي بتصويره اجتماعياً أو سياسياً كما هي الحال لدى فيسكونتي، بل انسانياً وسيكولوجياً... ومن خلال حكاية راجا، صار على شفير الانهيار الطبقي، لكن ذلك لم يبعده عن الموسيقى التي يعشقها، بل يحفزه الى اقامة حفل موسيقي كبير، فيه مسك الختام لحياته المرفهة، في صالون بيته.
عودة الى طاغور
حقق"صالون الموسيقى"نجاحاً نقدياً طيباً، لكنه فشل في عروضه الجماهيرية. ومن هنا وجد راي ان عليه أن يقدم فيلماً أكثر بساطة، ولكن من دون تنازلات، فكان"حجر الفلسفة"1958، الذي أتى عبارة عن حكاية ساخرة، لم يفهم النقد الأوروبي منها شيئاً على أي حال... وفي المقابل استقبلت بترحاب، على الأقل من قبل المشاهدين البنغال من الذين تمت الحكاية اليهم بصلة وثيقة. ومن هنا حقق"حجر الفلسفة"نجاحاً، محدوداً، في البنغال، لكنه كشف لراي انه قدم، في سبيل ذلك. تنازلات على مستوى الأداء الفني لم يكن يرغب في تقديمها. فكان ذلك بالنسبة اليه مدعاة مراجعة كبيرة للذات تواكبت مع انجازه الجزء الثالث من"الثلاثية"... ولقد مهد هذا كله لديه، لأحداث قلبة في عمله انتجت فيلمه التالي"ديفي"1960، الذي تحدث فيه عن العادات والتقاليد المرتبطة بالشعوذة من خلال"آلهة مزيفة وممثلة"يقصدها الناس للتبرك كما يقصدون الأولياء والقديسين. كان من الواضح ان هذا الموضوع غير شعبي في البنغال ولا في الهند عموماً. أما راي فإنه في العام التالي، قرر ان يلجأ الى أستاذه الكبير رابندرانات طاغور، لعل شعبية هذا الأخير وصواب مواقفه في أعماله، يساندانه. وهكذا كان ذلك العام بالنسبة اليه عام"الفتيات الثلاث"، المأخوذ من قصة لطاغور، ثم عام الفيلم التسجيلي الرائع الذي حققه عن الكاتب والشاعر الكبير في عنوان"طاغور". والحال أن وضع ساتياجيت راي نفسه تحت عباءة طاغور في هذين الفيلمين، تواكب مع بدئه كتابة موسيقى أفلامه بنفسه... وهكذا بدأ راي طريقه ليصبح"مؤلفاً"حقيقياً، في وقت كان حضوره السينمائي ? النظري على الأقل ? يكبر في العالم كله، فيما تتزايد هامشيته في القارة الهندية... بل حتى في البنغال. وفي الوقت نفسه راح يقلص حجم الطاقم العامل معه خفضاً للنفقات أو رغبة في الإمساك بالعمل كله؟.
ولم يكن من الصدفة أن يزداد اهتمامه منذ ذلك الحين بأن يصبح الجزء الأساس من الفيلم يتحلق من حول شخصيات نسائية... وهو في هذا أيضاً كان يتبع درب طاغور. لكن هذا التوجه لم يبعده عن الغوص، عبر أفلامه، في المشاكل الاجتماعية أكثر وأكثر. ودائماً تقريباً ? من حول فكرة أساسية هي فكرة المجابهة بين عالمين. فكما أنه في"ثلاثية آبو"رسم فيلماً بعد فيلم المجابهة بين الطفولة وعالم الكبار، ثم بين الريف والمدينة، وصولاً الى المجابهة بين البؤس والعيش نفسه. نراه في"صالون الموسيقى"رسم المجابهة بين عالم ينهار وآخر يولد.
وفي"ديفي"رسم المجابهة مع التقاليد وارتداء الشعوذة لبوس الإيمان، سنجده في أفلام تالية له يواصل تصويره شتى أنواع المجابهة: المرأة في وجه المجتمع والتقاليد العائلية المكبلة في"الزوجة الوحيدة"? 1964 وهو موضوع سيعود اليه مراراً وتكراراً لا سيما في"البيت والعالم"1984 المقتبس عن قصة لطاغور، والمجابهة السياسية في"عاصفة بعيدة"1973 أحد أكثر أفلامه سياسية، وهو الفيلم الذي أعطي جائزة أفضل فيلم في برلين في العام نفسه، والمجابهة ضد الفساد في"الوسيط"? 1975. والشيء نفسه يمكن ان يقال عن"المدينة الكبيرة"1963، خصوصاً عن"شارولاتا"الزوجة الوحيدة الذي يعتبر أحد أجمل وأقوى الأفلام التي حققها خلال مرحلته الأولى... وهو بدوره يقدم، من خلال اهتمام زائد بالحضور الأنثوي، مجابهة عالمين وحضارتين ومجتمعين... ولكن من دون أية انتصارية زائفة لعالم يبدو لنا ان راي، طوال الفيلم، يفضله. فهو، وها نحن مرة أخرى أمام المقارنة مع فيسكونتي، واقعي الى درجة اعترافه بانهيار العالم الأفضل لمصلحة الأسوأ. هل في هذا سوداوية ما؟ أبداً... مجرد جرس انذار، كما ستكون الحال في واحد من أجمل أفلام سنوات السبعين لديه، وهو فيلمه الأول بالألوان وباللغة الهندية:"لاعبا الشطرنج"، حيث يوصل المجابهة الخاسرة الى أعمق أبعادها السياسية من خلال حكاية شخصين من كبار الأعيان في امارة اسلامية في الهند، يمضيان الوقت في لعب الشطرنج غير آبهين بالقوات الانكليزية التي تتقدم وتتقدم في تلك الأثناء حتى تغزو الإمارة أو المملكة كلياً.
الغرب المنقذ
وقد لا نكون هنا في حاجة الى القول ان سينما راي، كانت منذ أوائل سنوات السبعين قد استعادت بعض نجاح، وأتى"لاعبا الشطرنج"ليتوجه، ولكن دائماً من دون التمكن من اخراج راي من الهامش، على الأقل في الهند، حيث في الوقت الذي صار فيه ايقونة قومية وپ"الهندي المعروف أكثر من أي هندي آخر في العالم قاطبة"، ظل المشاهدون يترددون في مشاهدة أفلامه، ويعلنون سأمهم حين يقودهم"حظهم العاثر"وپ"حشريتهم"الى مشاهدتها.
مرة أخرى، لم ييأس ساتياجيت راي أمام هذا الواقع. بل أمعن أفلمة للمواضيع التي يحب. وظل ينهل من الواقع ومن الأدب... ولئن بخلت عليه الهيئات والشركات في بلده بالتمويل اللازم لمشاريعه التي راح يحققها بما يشبه الانتظام حتى الرمق الأخير، فإن أموالاً غربية راحت تسانده، يوفرها له غالباً فنانون ومنتجون غربيون مثل جيرار ديبارديو معجبون بأعماله الى درجة أنه عزّ عليهم ألا تتواصل.
وهكذا، حقق من بعد"لاعبا الشطرنج"مجموعة لا بأس بها من أعمال، يمكن القول على أي حال انها متفاوتة القيمة، ومن أبرزها"مملكة المجوهرات"1980،"عدو الشعب"1989،"أغصان الشجرة"1990، وأخيراً"الغريب"آغانتوك الذي حققه وهو يحتضر تقريباً، ليموت بعد انجازه، ويدفن في جنازة قومية وشعبية، مشى فيها ألوف من الناس الذين من المؤكد أن كثراً منهم، كانوا يتساءلون عمن يكون هذا البطل الذي يكرمه العالم كله ويشاهد أفلامه، فيما الهند، ذات السينما التي تنافس سينما هوليوود عدداً، لا تجد له مكاناً في ستديواتها وشركات انتاجها. ترى أفلم يقل شخص يوماً: لا مكان لنبي في بلده؟
مسيرة حياة طاغورية وصلت السينما من قلب الفنون الكبرى
ولد ساتياجيت راي واسمه في الهندية شوتوجيت رايي في مدينة كلكوتا الهندية، سنة 1921، لأسرة ذات اهتمامات فنية وأدبية وفكرية. لا سيما من ناحية أبيه الذي كان رساماً وشاعراً، ولم يعرفه الابن اذ ان الأب مات وساتياجيت في الثانية من عمره. باكراً ألحق الفتى بالكلية الرئاسية التابعة لجامعة فيزفا بهاراتي، ثم التحق بالمدرسة الشهيرة التي كان رابندرانات طاغور، شاعر الهند وأديبها الأكبر، قد أسسها. وكان طاغور يمت الى أسرة راي بنسب وصداقة، ومن هنا فتح ساتياجيت عينيه ووعيه على تلك العلاقة وعلى أسطورية ذلك المبدع.
اذاً هناك في مدرسة طاغور المسماة"جامعة الغابات"شانتينيكيتان وجد راي نفسه غائصاً في حب الفن منذ صباه، من الرسم الى الموسيقى والكتابة. لذا كان من الطبيعي حين صار عليه أن يختار مهنته أن يلجأ الى الفن الأقرب اليه، الرسم. فعمل رساماً في وكالة للدعاية. وكان ذلك في العام 1943... لكن تلك المهنة لم تكف طموحاته فتحول خلال سنوات قليلة الى رسام فني حقيقي... لكنه في ذلك الحين اكتشف السينما وأغرم بها، من دون أن يدرك أنه سيخوض غمارها بعد فترة يسيرة. والحقيقة ان التبدل الأساس الذي طرأ في حياته من ناحية الانتقال الى العمل السينمائي، كان حين قادته مهنته في الرسم الى لندن فاكتشف الواقعية الجديدة الإيطالية وأغرم بخاصة بفيلم"سارق الدراجة"وتساءل بينه وبين نفسه عما اذا لم يكن في امكانه هو الآخر أن يصبح مخرجاً ويحقق هذا النوع من الأفلام، حتى وان كان خالي الوفاض لحظتها تماماً من أي معلومات تقنية. على العموم جاءه الجواب على سؤال اثر عودته الى الهند، حيث فوجئ بأن جان رينوار موجود هناك يصور فيلمه"النهر"فتعرف اليه وطرح عليه السؤال الشائك. فإذا بجواب رينوار يبدو مشجعاً. وهكذا، قرر راي أن يحدث تلك القلبة الأساسية في حياته. ولم يكن صدفة أن يختار لتجربته الأولى رواية كان يحقق لها رسومات في ذلك الحين، هي"باتر بانشالي". انفق راي على ذلك الفيلم كل ما يملك من مال فلم يكن كافياً... لكنه تمكن، مع رفاق التفوا من حوله، معظمهم من مكتشفي فن السينما حديثاً، من إكمال الفيلم مع بعض المعونات. وعرض"باتر بانشالي"في"كان"ليحقق من النجاح ما دفع مخرجه الى إكمال مسيرة لم تتوقف إلا برحيله عن عالمنا سنة 1992.
طوال حياته السينمائية الطويلة حقق ساتياجيت راي نحو ثلاثين فيلماً... أخفق في بعضها ونجح في بعضها الآخر. وفي بعض الأحيان حقق أعمالاً فنية خالدة. لكنه في الحالات كلها ظل أميناً لفن السينما ولمجتمعه وأصالته، كما لم يفته أن يظل منفتحاً على العالم وعلى الآخر. وتابع الابتكار الموسيقي والرسم والكتابة، قصصاً ونقداً سينمائياً، حيث أنه عاش فناناً كاملاً... ومات فناناً كاملاً... ليترك أعمالاً ظلت على الدوام هامشية... ولكن في الهامش الذي يصنع الفن الكبير.
هكذا تكلم السيد راي
أنا لم أكن لأتصور أبداً أن أياً من أفلامي، وخصوصاً باتر بانشالاي، سيعرض ويشاهد في هذا البلد أو في أي من البلدان الأخرى. ومن هنا، فإن واقع أنها عرضت وشوهدت هو إشارة الى أنك إذا ما كنت قادراً على تصوير مشاعر كونية في أفلامك، وعلاقات كونية وأحاسيس وشخصيات حقيقية، سيكون في إمكانك أن تجتاز بعض الحدود لتصل الى الآخرين، حتى وإن كانوا ? في حالتي أنا ? من غير البنغاليين.
ان المتفرجين عندنا يحبون أن تكون هناك في الفيلم شخصية مركزية، أو ثنائي من شخصيتين مركزيتين، يمكنهم أن يتماهوا معها أو معهما، كما يحبون أن تكون ثمة حكاية ذات خط سردي مستقيم. في بعض أفلام تعددت المجموعات حيث ثمة المجموعة الرقم واحد والرقم اثنان وثلاثة وهكذا... ثم عودة الى المجموعة الأولى... بدا الأمر ذا تركيبة موسيقية في غاية الجمال، لكن المتفرجين لم يحبوا هذا. وأبدوا ردود فعل شديدة الحمق... حتى المقالات النقدية الصحافية لم تكن مهمة أبداً...
الفيلم السوداوي الوحيد الذي حققته خلال مساري الفني هو"الوسيط". ولم يكن في مستطاعي إلا أن أحققه على ذلك النحو في وقت كنت أحس أن الفساد الحاد، يحيط بي في كل مكان... وكنت أسمع كل الناس يتكلمون عن الفساد في كلكوتا. كان كل الناس يعرفون، على سبيل المثال، أن إنشاء الطرقات وأنفاق السكة الحديد بالخرسانة المسلحة، كان يعهد به الى مقاولين يستخدمون الأموال العامة والخرسانة لبناء بيوتهم الخاصة. وپ"الوسيط"هو فيلم عن هذا النوع من الفساد، وهو فيلم يعبر حقاً عن رأيي في أن ليس ثمة حل لهذه المعضلة.
تسألونني عن مخرجين كرسوا حياتهم وأعمالهم لقضايا سياسية كانوا معنيين بها؟ حسناً... إيزنشتاين قدم عوناً لثورة كانت قد انتصرت واستتب الأمر لها قبل تدخله. حال ايزنشتاين تقول لنا ان المخرج يلعب دوراً إيجابياً... ويمكنه أن يقدم عوناً كبيراً للثورة. ولكن لا يستطيع أن يفعل شيئاً إن لم تكن هناك ثورة انتصرت مسبقاً بالفعل. أما المخرجة ليني ريفنشتال مخرجة هتلر المفضلة، فكانت تساعد أسطورة هي الأيديولوجيا النازية. وفي ذلك الزمن كان النازيون أقوياء جداً. خلال أولى سنوات الفاشية، حتى المثقفون كانوا مرتبكين وقد اختلطت الأمور عليهم. عندما كان طاغور نفسه يعتقد أول الأمر أن ما يقوم به موسوليني كان أمراً رائعاً، وسيلعب دوراً إيجابياً. وظلت تلك معتقدات طاغور حتى نبهه رومان رولان الى انه مخطئ في نظرته، وأنه لم يدرك أبداً كل ما يترتب على استشراء الفاشية.
بالنسبة الى دوري الاجتماعي كمخرج سينمائي، يمكنكم تلمسه من خلال الموقف الذي أعبر عنه في فيلم"العدو". ففي هذا الفيلم لدينا شقيقان أصغرهما ينتمي الى جماعة الناكساليت. أما الأكبر فليس ثمة أدنى شك في أنه معجب بأخيه الصغير لشجاعته ومعتقداته. الفيلم لا يحمل أي إبهام في هذا السياق. ومع هذا وجدتني، كمخرج، أكثر اهتماماً بالأخ الأكبر، مني بالأصغر، وذلك ببساطة لأن شخصية الأكبر شخصية متأرجحة. فهذا الشخص، انطلاقاً من هويته السيكولوجية، ومن كونه كائناً بشرياً مملوءاً بالشكوك، بدا لي أكثر إثارة للاهتمام كشخصية فنية. الصغير كان قد سبق له أن ماهى نفسه مع القضية التي يحملها... وهذا يجعله جزءاً من موقف شامل ويفقده أية أهمية خاصة. وهكذا ما إن تستتب السلطة لجماعة"الناكساليت"حتى يفقد كل سمة شخصية.
في بعض الأحيان يحكم النقاد على فيلم يحققه مخرج معين انطلاقاً من عمل إبداعي كتبه آخر، متناسين وجود هذا الأخير في العمل ومتناسين أن الأفكار أصلاً أفكاره، معتبرين العمل كله، من ألفه الى يائه ملكاً للمخرج... وهو أمر غير صحيح على الإطلاق. أنا يحدث لي غالباً أن أختار قصة أو حكاية، من أجل بعض عناصرها التي تجتذبني. وخلال عملية كتابة السيناريو المقتبس عنها قد أحدث تبديلاً في الموضوع ولكن من المؤكد أن معظم العناصر الأصلية ستظل على حالها، أي كما دوّنها الكاتب الأصلي. وفي أحيان كثيرة أيضاً يتطور السيناريو كنظرة نقدية تجاه العمل الأصلي. فأنت حين يحدث لك أن تعيد قراءة القصة مرات عدة، قد تشعر أن شخصية معينة لا ينبغي أن تتصرف بالطريقة التي جعلها الكاتب تتصرف بها. ومن هنا تجري بعض التعديلات. أنا بالنسبة إلي ما إن أقرأ قصة وأصبح متمرساً فيها متعمقاً، أتركها جانباً، لأبدأ بالكتابة انطلاقاً من ذكرياتي عنها لا أكثر. وفي النهاية إذا وجدت أن بعض التبديلات مقنعة، أبقي عليها وأنسى النص الأصلي.
أعتقد أنني، شخصياً، نضجت في مرحلة مبكرة من حياتي وعلامة النضوج لدي، كما أعتقد، كانت اهتمامي بأن أحقق أكبر قدر ممكن من التكثيف الدرامي ضمن إطار بنية سردية بسيطة... بل سطحية حتى. والحقيقة أنني حين أصوغ أفلامي لا أفكر أبداً بالمتفرج الغربي. أفكر فقط بجمهوري البنغالي الخاص، وأبذل محاولات دؤوبة لاصطحاب جمهوري معي في رحلتي الفنية، وهذا أمر أعتقد بأنني نجحت فيه دائماً. في البداية كان هذا الجمهور بسيطاً يخلو ذهنه من أي تعقيد متطور. وكان جمهوراً معتاداً على مشاهدة الأفلام البنغالية الساذجة. من هنا أحسست منذ البداية أن علي أن أقوده في دربي بهدوء وبطء. في بعض الأحيان قد أكون بالغت في التعقيد في هذا الفيلم أو ذاك... وهنا كانت مجازفتي كبيرة بأن أخسر ما كنت بنيته مع هذا الجمهور.
أنا لا يمكنني أبداً أن أفعل ما يفعله فلليني أو برغمان. فجمهوري ليس جمهورهما... كما انني لا أشتغل ضمن الإطار الذي يشتغل هذان الفنانان ضمنه. علي دائماً أن أكتفي بجمهور معتاد على الفنون البسيطة. لقد اشتغلت مع الجمهور الهندي أكثر من ثلاثين عاماً. وبكل صراحة لم تحدث كل تلك السنوات أي تغيير في نظرته العامة الى السينما... لم يحدث أي تغيير خصوصاً في البنغال. في أحيان كثيرة تقابلون مخرجين هم من التخلف والرجعية والحماقة بحيث يصعب عليكم أن تصدقوا أن مثل هؤلاء موجود حقاً، وأنهم مخرجون حققوا أفلامهم في الوقت نفسه الذي كنت أنا أحقق أفلامي فيه. إن الظروف، على أي حال، تجبرني دائماً على إبقاء حكايات أفلامي عند مستوى سهل المنال بالنسبة الى الجمهور. فما الذي أفعله حينذاك؟ أملأ الأفلام بالمعاني والدلالات السيكولوجية والظلال، جاعلاً العمل كله، عملاً شاملاً قادراً، بالتراكم على أن يوصل الكثير - وإن لم يكن كل شيء - الى شعبي وجمهوري.
تسألونني عن المخرجين الذين تعجبني أعمالهم؟ حسناً، في مقدمهم فرانسوا تروفو وأكيرا كوروساوا - وللمناسبة سأشير هنا الى أنني أحب أفلام الكثير من المخرجين اليابانيين. فهم، في شكل عام، صانعو أفلام عظماء... وبهذه العبارة أعني أنهم يشتغلون في شكل رائع على كل مستويات تحقيق الفيلم. كوروساوا نفسه يمتلك نزعة إنسانية رائعة... كما يمتلك الأسلوب والنسغ الفني. أسلوبه مختلف كثيراً عن أساليب مواطنيه، ربما أقول ان ثمة شيئاً من الغرب لديه. كذلك أحب مخرجي أفلام رعاة البقر والغرب الأميركي. بيد أنني في هذه الأيام أراني أحب أفلاماً أكثر مما أحب مخرجين. خصوصاً أنني أعتقد بأن المخرجين في هذه الأيام لا يصلون الى ما كنت تتوقعه حقاً منهم. أحب خصوصاً فيلم"مذكر - مؤنث"لجان لوك غودار... لكن ثمة في المقابل أفلاماً كثيرة لغودار لا أستمتع بها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.