يعتبر التلصص جزءاً أساسياً من لعبة العلاقة بين الجمهور والعمل الفني. فبالنسبة الى بعض التحليلات السيكولوجية الحديثة، يندفع الجمهور الى مشاهدة الأعمال الفنية، أو قراءة الأعمال الأدبية، لتوقه للتعرف الى حياة الناس الآخرين، لرغبته في أن يكون، بالواسطة، داخل تلك الحياة من دون أن يرغب، أصلاً، في أن يكون داخلها بالفعل. غير أن التلصص، كان في أحيان كثيرة، موضوع أعمال فنية، كاشفاً في طريقه عن تلك الرغبات الدفينة، في شكل مباشر. ولعل أشهر معبّر عن التلصص في عالم الفن السينمائي، الفريد هتشكوك، ولا سيما في فيلمه الأشهر"النافذة الخلفية"الذي جعل التلصص على حياة الجيران موضوعه ومنطلق حبكته ووسيلة اكتشاف الجريمة فيه، علماً بأن المتلصص بطل الفيلم هو في الحياة المهنية مصور فوتوغرافي - أي متلصص أيضاً في شكل أو آخر -، لكنه الآن متوقف عن العمل لإصابته بحادث أقعده البيت، فاستبدل الكاميرا بالمنظار. ومن بين الأفلام التي جعلت التلصص موضوعاً لها، أيضاً، فيلم البولندي كيشلوفسكي الأخير"أحمر"- من ثلاثية"أزرق، أبيض، أحمر"التي كانت آخر ما حقق قبل رحيله - فهذا الفيلم يتحدث كذلك عن قاضٍ سابق يعيش الآن متلصصاً على حياة الآخرين مستمتعاً بإعادة بناء هذه الحياة كما يروق له. يشكل فيلما هتشكوك وكيشلوفسكي اذاً، جزءاً من السينما التي قامت على التلصص، جوهراً وحبكة... وهما يذكران دائماً كمثلين أساسيين في كل حديث عن التلصص في السينما. ومع هذا فإن ثمة فيلماً انكليزياً يعاد اكتشافه دائماً، مرة بعد مرة، كما يعاد اكتشاف مخرجه من جديد منذ ألقى عليه مارتن سكورسيزي أضواء كاشفة واعتباره أستاذه الكبير. الفيلم هو"توم"أو بالفرنسية والإيطالية"المتلصص"، من إخراج مايكل باول، الذي الى عقدين فقط كان بالكاد يذكر في تاريخ السينما. لكن سرعان ما عاد الى الواجهة ليعتبر اليوم من أساطينها. فيلم"المتلصص"حقق في العام 1970. يومها استقبله النقاد والجمهور استقبالاً فاتراً. أما اليوم فالحال تختلف، بل ان ثمة من بين النقاد من يتحدث عنه بوصفه"عملاً عن جاك باقر البطون، مموضعاً بين"كلب أندلسي"، المعتبر أهم فيلم سوريالي في تاريخ السينما، وپ"النافذة الخلفية"الهتشكوكي"... ما يعني بكلمات واضحة ان هذا الفيلم جمع الغريزة بالعقل باللاوعي، في بوتقة واحدة، ما يجعله فريد نوعه في عالم السينما. يتحدث الفيلم عن مارك لويس. وهو مصور شاب يعمل في التصوير السينمائي البدائي، ويعيش ليلاً ونهاراً في رفقة كاميرا محمولة يمكنها تصوير أفلام من مقاس 16ملم - أفلام الهواة في ذلك الحين -. غير ان مارك ليس إنساناً سوياً، اذ سرعان ما سنكتشف في سياق القسم الأول من الفيلم ان مارك مجرم من طينة جاك باقر البطون. هو سفاح آلى على نفسه أن يقتل كل فتاة هوى تقترب منه لتعرض عليه خدماتها. لكن مارك لا يقتل ضحيته إلا بعد أن يصورها بكاميراه أولاً، أما أداة القتل فشيء أشبه بالسكين مخبأ في رجل حامل الكاميرا. وهو اعتاد أن يزيد من رعب جرائمه بأن يضع أمام ضحاياه، لحظة لفظهن الروح مرآة محدودبة تصور ما يفعله بهن... أي عملية الطعن نفسها. ومارك، ذو المظهر البريء والذي يقترف جرائمه من دون أي ندم أو شعور بالذنب، يتحدث عن هذا كله أمام جارته المدعوة هيلين، والتي في سياق حديثه هذا يعرض لها أفلام هواة كان أبوه يصورها، وفيها مشاهد لاعترافات مريضات نفسيات كان الأب، وهو محلل نفساني، يشتغل على حالاتهن، من خلال تصويره لهن... وكان الأب يعرض هذه الأفلام الحافلة بالمشكلات والاعترافات على ابنه الصغير، لكي يدرس رد فعله الطفولي على ما يراه أمامه. وهكذا يبدو لنا واضحاً ما يقوله مارك لهيلين، من أن رغباته الإجرامية المرتبطة بالتصوير والتلصص والمرايا، انما أتت من تلك الممارسة التي كان أبوه يلجأ اليها في عمله: لقد دفع ذلك كله مارك الى الانحراف واتخاذ التلصص هواية له، وهذا التلصص قاده الى القتل والى ذلك الأسلوب الفريد في تعذيب ضحاياه لكي يصورهن وهن في أقصى درجات الرعب، على وشك الموت قتلاً. وفي النهاية، طبعاً، كان لا بد أن تقبض الشرطة على مارك... وهناك، اذ لم يعد يجد امرأة يجعل منها ضحية له، ينتحر مارك بنفس السلاح الذي كان يقتل به بنات الهوى، وقد حرص هنا أيضاً على أن يستخدم كاميراه لتصوير موته. في البداية مرَّ هذا الفيلم على النقاد والدارسين مرور الكرام. كل ما في الأمر انهم دهشوا لتوجه مايكل باول الى تحقيق فيلم رعب وانحراف من هذا النوع، هو الذي كان اشتهر بأفلامه الهادئة، مثل"الكولونيل بلمب"وپ"الحذاء الأحمر"وپ"مسألة حياة أو موت"وكلها أفلام حققت في سنوات الأربعين وأتت ترفيهية عائلية. أما"المتلصص"فكان شيئاً آخر تماماً. غير أن أبعاده الحقيقية لم تظهر عند عروضه الأولى. لاحقاً فقط رأى الدارسون ان الفيلم يكاد يكون أمثولة حول فن السينما نفسه. ليس فقط من خلال حضور الكاميرا السينمائية كعنصر أساس في الفيلم، بل أيضاً من خلال المشهدية نفسها، الطريقة الاستعراضية التي يصور بها مارك ضحاياه. انه إخراج سينمائي حقيقي ينطلق من لغة تنهل من تاريخ السينما وعلاقتها بالرعب والموت. أكثر مما تنهل من روايات الإجرام الإنكليزية نفسها. هنا، بدلاً من أن يتحدث الدارسون عن ادغار والاس صاحب أشهر روايات الإجرام في الأدب الإنكليزي أو سير أرثر كونان دويل، تحدثوا عن هتشكوك وبونويل. ذلك ان الفيلم اعتبر سينما داخل السينما. وكناية عن حب للسينما يقود صاحبه الى أن يرغب في أن يكون داخل الشاشة وخارجها في آن معاً. وذلكم هو، في الحقيقة، مغزى المشهد الأخير حيث يقوم مارك، المنتحر، بإخراج موته وتصويره. واللافت أن هذا التفسير كله، وان تأخر، لم يبدو دخيلاً على الفيلم، بل بدا من صلبه... وكل ما فيه من علاقة بين السينما والفيلم في سياق الفيلم وموضوعه، بدا منطقياً، خصوصاً أن مايكل بويل، بحسب الناقد كلود بيلي، كثَّف في فيلمه الإشارات الدالة على أنه انما أراد أولاً وأخيراً أن يحقق فيلماً عن فن السينما: فمن ناحية نراه هو بنفسه يلعب دور الأب، المحلل النفسي الذي يصور أفلاماً يعرضها على ابنه الصغير، وفي بعضها تصوير لحال رعب تنتاب فتى يعالجه يلعب دور الفتى في الفيلم ابن مايكل باول نفسه، أما السيدة التي تكشف جرائم مارك، فهي عجوز مدمنة و... عمياء. أي على النقيض من الكاميرا. وهذه موضوعة ستعود اليها السينما كثيراً حين تصور شخصيات عمياء أكثر كشفاً للحقيقة من الشخصيات المبصرة أودري هيبورن في فيلم"انتظر حتى الظلام"لتيرنس يونغ. مهما يكن فإن مايكل باول، الهادئ دائماً والمنادي بسينما عائلية ترفيهية، كان يصر على أن فيلمه فيلم حنون هادئ... ليس فيه أي شر... بل حب للفن وللسينما. بل انه قال عنه مرة أنه فيلم رومانطيقي، أمين لواقع الحياة ولواقع المشاعر الانسانية. والحقيقة أن نظرة الى الفيلم تتفرس فيه من هذا المنظور قد تصل الى النتيجة نفسها. بل كان هناك دائماً نقاد ومهتمون بالفيلم فتنتهم شخصية مارك لويس، واعتبروه، على رغم جرائمه الكثيرة، ضحية لا جلاداً. ويقيناً أنه لو كان توماس دي كوينسي حياً بيننا في القرن العشرين، لكان رأى في"المتلصص"تطبيقاً لبعض فصول كتابه"الجريمة باعتبارها واحداً من الفنون الجميلة". أو بالأحرى: الجريمة باعتبارها دليلاً على وجود النزعات الإجرامية لدى الانسان. ولنذكر أخيراً أن سينمائيين أميركيين كثراً تأثروا حقاً بسينما مايكل باول، الذي ولد في العام 1903 في لندن، ومات في أميركا آخر القرن العشرين، ومن بين هؤلاء"مكتشفه"مارتن سكورسيزي وبريان دي بالما.