وصلت الفرنسية سيلين إلى بيروت، مساء الأحد الماضي. فور وصولها ذهبت الى أحد المتاجر الموسيقية لتشتري بطاقة تخوّلها الدخول مع صديقها اللبناني بلال الى حفلة لأشهر عازفي جاز في العالم، الكوبي تشوتشو فالديز والفرنسي ميشال لوغران، ضمن مهرجانات بيبلوس. السادسة من مساء أول من أمس، عند ساحة الشهداء في وسط بيروت، حيث يتجمّع الذاهبون الى مدينة جبيل تنقلهم الباصات شبه المجانية، فوجئ بلال بمعدات مسرحية وموسيقية تُفكك. فسأل سيلين:"ما الذي يجري هنا؟". استغربت الفرنسية السؤال، مجيبة:"شهدت هذه الساحة الأحد حفلة هستيرية للمغني الأميركي اللبناني ميكا. ألم تسمع بالأمر. ألم تقرأ الصحف؟". يضحك بلال هازئاً:"أنتم الأجانب أفضل منا في رصد هذه الأمور". مرفأ جبيل. الشمس ما زالت تحطّ على مخدة البحر الهادئ. تراقب السائحة المتحدثين بالفرنسية من"البابوج الى الطربوش". تشمّ رائحة أصحابها الزكية. تحدّق في الوجوه، وبالأيادي المزيّنة بالمجوهرات الثمينة، وتعود للأسئلة:"لماذا غالبية الناس هنا أثرياء؟ وما سرّ هذه الأناقة الباذخة؟ أين يسكن هؤلاء، ماذا تُُمثّل لهم هذه الحفلة هل هي تاريخية أو بمثابة عرس كبير؟ لماذا يكثر في هذا المهرجان حاملو الجنسيات غير اللبنانية". عجز بلال عن الجواب، فقال:"هذا هو لبنان، كل الناس فيه أغنياء وإن كانوا فقراء، وهنا حفلة موسيقية عادية، لكن الأناقة واجب يلازم معظمنا يومياً. ثم إن المهرجانات هنا تستقطب وتلفت الأجانب أكثر من اللبنانيين، خصوصاً بالنسبة لأسعارها". تهزّ سيلين برأسها، ماضية الى الحفلة الفريدة من نوعها. بعد انتظار دام حوالى 20 دقيقة، أطلّ تشوتشو فالديز الذي ينتظره اللبنانيون منذ زمن، بقامته الطويلة متران المزدانة بالأبيض الناصع، فصرخت الحناجر باسم الرجل الذي لُقّب من قبل"جاز ماغازين"ب"عازف البيانو الأكثر كمالاً في العالم". فأعلن منذ اللحظة الأولى التي لامست أصابعه البيانو، سخونة السهرة غير الاعتيادية. أرقصت أصابع فالديز الطويلة النحيلة مفاتيح البيانو، على إيقاع موسيقى الجاز الأفرو- كوبية، بمرافقة الكونترباص والدرامز والإيقاع الخشبي، في القسم الأول من الحفلة. بدأ بمقطوعة تتخبّط فيها أصوات الآلات الأربع، لتصل إلى مسامعنا موسيقى حيوية الى أبعد الحدود. ثم تنقل بين الإيقاعات الرومانسية الهادئة، والحزينة الدفينة، والحالمة المطمئنة، ناقلاً جماهيره الى الجزيرة الكاريبية حيث اكتسب مهارة العزف على يد والده بيبو فالديز 89 سنة. أما اختتام الجولة الأولى، التي غلبت عليها مجموعة متنوّعة من مقطوعات الجاز الارتجالي التجريبي الذي يتميّز فالديز بتقنية عالية في عزفه، فكان مسكاً مع دخول العنصر النسائي الى المسرح. ماريا فالديز ذات الصوت الإفريقي الحزين الشغوف، صفّقت وتمايلت ورقصت بجسدها الممتلئ وروحها المرِحة، فألهبت أيادي الجمهور وحرّكت نبضات حناجرهم حين غنوا معها"بيسامي موتشو"أو أحبك كثيراً بالإسبانية. يقول بلال وهو يهتف وراء ماريا فالديز بصوت عال كالببغاء،"لا أفهم شيئاً مما تقوله، لكنها رائعة". فالسيدة السمراء التي لم يكن اسمها مُدرجاً في برنامج الحفلة، نالت إعجاب الجماهير وتمنى البعض لو تعود قليلاً. في القسم الثاني من السهرة الذي لم يتكرّر إلا 5 مراّت طوال حياة فالديز ولوغران، دعا الأول قائد الأوركسترا والمغني والموزّع والعازف والمؤلف الموسيقي"العازف الأبرز في العالم بالنسبة الي"، كما قال. لكن الرجل الثمانيني الحائز على عشرات الجوائز الموسيقية، منها"غرامي"و"إيمي"، لم يلبِ الدعوة. صرخ الجمهور باسمه، ولم يأتِ. فنزل فالديز من على الخشبة الى الكواليس لملاقاته، وإذ بالبيانو الثاني يسبقه، فيأتي رويداً رويداً ويجلس الرجل المناسب في مكانه المناسب. يقول مرحّباً بحوالى 4500 مشاهد تجمّوا على ضفة مرفأ جبيل،"أنا سعيد أنني هنا حيث المرفأ الأقدم في العالم. الحياة بدأت من هنا، السلام انطلق من هنا". آلتا بيانو على المسرح وجهاً لوجه. حوار بين عملاقين في موسيقى الجاز وجهاً لوجه. هي حفلة فريدة من نوعها، وقد تكون الكلمات قليلة بالنسبة الى هذين الفنانين اللذين أغنيا البشرية بإرث موسيقي لافت وغزير. بسرعة خارقة تمرّ أصابعهما على المفاتيح، لا يلبس الواحد منها أن يلامس مفتاحاً حتى ينتقل الى آخر، فتنعم آذان المستمعين برهافة وإحساس موسيقيين مميّزين غير اعتياديين. بدأ الرجلان الغزيران بارتجال مؤلفاتهما الموسيقية العالمية المعروفة، ثم غنى لوغران من مخزونه القديم كلماته وألحانه، إضافة الى أغنيات أشهر الأفلام التي كتب ولحّن لها مثل"مظلات شيربورغ"، و"صبايا الروكفور". أما ختام السهرة الاستثنائية، فكان مقاطع ارتجالية لأكثر من مقطوعة موسيقية، حمّست آلاف المشاهدين الذين ظلوا يُصفّقون للموسيقيين أكثر من نصف ساعة عند انتهاء الحفلة، حتى عادا وعزفا مجدّداً. إنها ليلة حالمة لا تُنسى.