يطرح اتفاق التهدئة في قطاع غزة الذي أبرمته حركة "حماس" مع إسرائيل، ودخل حيز التنفيذ في التاسع عشر من حزيران يونيو الماضي، رزمة أسئلة جوهرية ملحة تتجاوز حزمة"اللماذائيات"المتصلة بمبررات الاتفاق وظروفه وآلياته، والتي هيمن على معظمها طابع الاستغراب والاستهجان المتعلق، أساسا، بانقلاب الأدوار في الساحة الفلسطينية، وتحوَل"حماس"التي كانت تتهم السلطة الفلسطينية ورئيسها باعتماد سياسة"مهادنة الاحتلال"على حساب خيار المقاومة، إلى"عين ساهرة"مهمتها مراقبة مطلقي الصواريخ واعتقالهم، تحت يافطة ضرورة الأخذ بنظر الاعتبار واقع القطاع المأسوي، وحاجة أبنائه الماسة إلى تخفيف الضغط الإسرائيلي العسكري، وتأمين بعض احتياجاتهم الحياتية الضرورية، فضلا عما تسميه الحركة"الحرص على القضية الوطنية ومصالح الشعب الفلسطيني"، وعدم جواز المزايدة على"حماس"في قضية المقاومة، لا سيما وأن الاتفاق العتيد تم في إطار"الإجماع الوطني"، وفق مزاعم القيادي محمود الزهار الذي وجه تهديدا صريحا لكل من تسوَل له نفسه العبث بالتهدئة التي باتت، بقدرة قادر، دليل"نجاح لبرنامج المقاومة على حساب برنامج التفاوض"، وفق تعبيره، وذلك في مقابل تأكيد الناطق باسم الحركة فوزي برهوم بأن"حماس تعتمد على لغة العقل والمنطق مع الفصائل الفلسطينية في إقناعها بضرورة العمل المشترك على الحفاظ على مصالح الشعب الفلسطيني العليا وحماية اتفاق التهدئة لرفع الحصار ووقف العدوان عنه وعدم إعطاء ذرائع للاحتلال لاستمرار إغلاق المعابر"!! الأبرز في رزمة الأسئلة المشار إليها يتمحور حول التالي: هل ان التهدئة تندرج في إطار استراتيجية وطنية واضحة تهدف إلى مراكمة"الإنجازات"على طريق التخلص من الاحتلال وتحقيق الأهداف الوطنية، أم هي مجرد خطوة اضطرارية في الفراغ فرضها الحصار العسكري والاقتصادي الخانق، وحاجة"حماس"إلى تخفيف الضغط الشعبي المتزايد بسبب الأوضاع الاقتصادية المأزومة التي عبرت عتبة المجاعة، معطوفا على سعيها إلى انتزاع"اعتراف"من إسرائيل بسيطرتها على القطاع وبشرعية تمثيلها للفلسطينيين هناك؟ ثم، هل ستساهم هذه الخطوة في تعبيد طريق المصالحة الوطنية المنشودة، أم ستضع العراقيل في وجه مبادرة الحوار التي طرحها رئيس السلطة، لا سيما في ظل فشل"التهدئة الإعلامية"وعودة التحريض والحرب الكلامية بين حركتي"فتح"و"حماس"إلى وتيرتها التي اعتادها الشارع الفلسطيني منذ سيطرة الأخيرة على غزة، واعتبار بعض أوساط السلطة أن اتفاق التهدئة في غزة قد صلَب من مواقف"حماس"وخلق عندها وهما بأنه قد يعطيها اعترافا بالشرعية من إسرائيل أولا، ومن أطراف عربية أخرى ثانيا، ما حوَل أولويتها باتجاه تكريس شرعية نظامها وإقامة سلطة موازية، وجعل الحوار والمصالحة أبعد من أية لحظة سابقة؟ واستتباعا للتساؤلات الإشكالية إياها نمضي بالقول: إلام يفضي عدم شمول الضفة الغربية التي لم تشكل تهديدا أمنيا جديا لإسرائيل منذ أشهر، أو حتى سنوات، بالتهدئة العتيدة؟ وهل يعني ذلك، واقعيا، منح قوات الاحتلال شرعية القيام بأي نشاط عسكري أو قمعي ضد المواطنين الفلسطينيين هناك تمهيدا لفرض الرؤية الإسرائيلية عليها؟ وما هو مستقبل العلاقة بين"حماس"التي تهدد بقمع واعتقال من يعكَر صفو التهدئة، وبين الفصائل الفلسطينية التي باتت تشعر بالتهميش، ولا سيما تلك كان لها دور تاريخي في مسار النضال الفلسطيني كالجبهتين الشعبية والديموقراطية لتحرير فلسطين؟ وأخيرا، ما هي"الإنجازات"التي يمكن أن تتحقق لأبناء القطاع، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي الذي شكل عامل الضغط الأبرز على حركة"حماس"، وتلك التي ستحققها الحركة الإسلامية، من جهة، وإسرائيل، من جهة ثانية، من التهدئة في غزة، وهل ستسهم هذه الخطوة في مد الجسور أمام الوحدة السياسية والجغرافية والديمغرافية بين القطاع والضفة الغربية، أم ستكرس واقع الانفصال وتضخ في شرايينه دماء جديدة؟ ربما لا توجد إجابات مباشرة على بعض هذه التساؤلات التي تشكل مادة للسجال والصراع في الساحة السياسية الفلسطينية المثقلة بأحمال الواقع الوطني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي المأزوم، بيد أن التطورات التي أعقبت إبرام التهدئة بدأت تتبرع بتقديم بعض المؤشرات التي من شأنها وضع هذا الاتفاق في سياقه الفعلي، وطنيا وسياسيا واجتماعيا، وإسقاط العديد من الذرائع والحجج والمبررات التي استخدمت لتسويقه في بازار المزايدات الفلسطيني المفتوح على مصراعيه. ولو بدأنا بالأرضية التي نثرت فوقها المزاعم المتعلقة بضرورة وأهمية إنجاز هذه الخطوة، فسنجد أن الحديث عن استغلال الواقع الصعب لحكومة أولمرت التي اتسمت بالتردد، والتي لم يكن أمامها سوى خيار القبول بالتهدئة بسبب الشرك الذي وجدت فيه نفسها نتيجة العجز عن وضع حد حاسم ونهائي للصواريخ والقذائف التي كانت تطلق على مستوطنات النقب الغربي، وعدم امتلاكها، وفق تقديرات إسرائيلية، صلاحية أخلاقية وقدرة وظيفية لاتخاذ قرار الحرب أو السلام جراء قضايا الفساد، وإصابة قدرتها الوظيفية بالشلل بسبب صدمة حرب لبنان الثانية والخشية من لجنة فينوغراد، فسنكون أمام كلام حق يراد به باطل. إذ أن"حماس"المأزومة نتيجة عدم قدرتها على مواجهة الحصار والأوضاع الاقتصادية الصعبة، والتي كانت تهدد بانفجارت اجتماعية يصعب التكهن بنتائجها، هي التي قدمت التنازلات وليس إسرائيل، ويكفي أن نشير إلى عدم شمول الضفة الغربية بالتهدئة، وقضية معبر رفح الذي يقال أن هناك تعهدا مصريا لإسرائيل بعدم تشغيله إلى حين إنجاز"صفقة شاليط"وذلك على رغم تأثيره الحيوي في استمرار اية تهدئة، وتهديد أولمرت باجتياح القطاع ما لم يتم وقف تهريب الأسلحة والمواد الأخرى، في مقابل توقف الإسرائيليين عن وقف النار والتعاطي مع المعابر وفق التقديرات الأمنية الإسرائيلية، حتى نكتشف مقدار التضليل في هذه"البروباغندا"الإعلامية. أما بخصوص القضايا الأخرى المندرجة في سياق التساؤلات السابقة، فيمكن القول إن إحدا من قيادات"حماس"لم يقدم تصورا واضحا لكيفية توظيف التهدئة في قطاع غزة في إطار"استراتيجية المواجهة والتحرير"التي لا يعرف أحد، على وجه اليقين، طبيعتها وجوهرها الحقيقيين اللذين يفترض أن يتجاوزا الجمل الإنشائية والشعارات، ناهيك عن الالتباس المتعلق بقبول"حماس"ببرنامج العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية على أراضي ال 1967 في مقابل هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، في الوقت الذي يتم فيه تكريس فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية والقدس على المستويات كافة. والأمر ذاته ينطبق على مسألة الوحدة الوطنية و المصالحة المنشودة بين حركتي"فتح"و"حماس"، وإعادة وصل ما انقطع بين"شطري الوطن"، حيث شهدت الفجوة بين مواقف الطرفين الفلسطينيين المتصارعين اتساعا جديدا، في الآونة الأخيرة. وكشف عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صالح رأفت، ان"حماس"وجهت أخيرا رسائل، من دون وسيط، الى الرئيس الفلسطيني بيّنت فيها انها"تريد تقاسم منظمة التحرير أولا، والسلطة الفلسطينية ثانيا، مع حركة فتح". وأوضح أن إحدى أبرز هذه الرسائل هي تدشين رئيس الحكومة المقالة في قطاع غزة اسماعيل هنية تحويل مقر الرئاسة في غزة الى مقر لأحد فروع الشرطة، وهو ما اعتبره مكتب عباس"انقلابا آخر"، ورأى فيه الامين العام للرئاسة الطيب عبدالرحيم الذي يقود اللجنة التي شكلها عباس للحوار مع"حماس، كناية عن السير قدما في تنفيذ"حماس"لمخططها الهادف إلى"تقطيع أوصال الوطن، وإقامة إمارتها القمعية في القطاع". وتبقى قضية المكاسب التي يمكن أن يحققها أبناء غزة من التهدئة العتيدة، والتي شكلت حجر الزاوية في محاولات التسويق التي اعتمدت نسقا إعلاميا ديماغوجيا حاول قلب الأمور على رأسها، ولا سيما حين أصر على ضرورة وضع العربة قبل الحصان، أي إنجاز اتفاق أمني مع إسرائيل تأمل"حماس"أن يتحول إلى"اتفاق سياسي"قبل ترتيب البيت الفلسطيني الذي يبدو أنه سيدخل في حال من الغيبوبة حتى إشعار آخر، إذ أن السائد الملموس هو تلاعب إسرائيل بآليات التهدئة، وبالأخص حيال قضية المعابر، وفق مصالحها وذرائعها الأمنية، فيما يتواصل العدوان، المتعدد الأشكال، على مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، تاركا ل"حماس"حرية مناشدة الوسيط المصري والأطراف الدولية المختلفة التدخل والضغط على الإسرائيليين للالتزام بالتهدئة واستحقاقاتها التي تفضي، عمليا، إلى جانب تواصل الانقسام الفلسطيني وتعمقه، إلى تكريس الانفصال بين شطري الوطن، والتحكم بمفاتيح مواصلة حصار قطاع غزة، والاستمرار في ارتكاب الجرائم والاعتداءات والاغتيالات والاعتقالات ضد أبناء الشعب الفلسطيني. * كاتب فلسطيني