"كسر" الأميركي جيسي أوينز "العنصرية الألمانية" في دورة برلين 1936، ودقّ الإسفين الأول في نعشها، وكان"عملاقاً"خطف ذهبيات جري ال100 وال200م والبدل 4x100م والوثب الطويل رغماً عن الفوهرر أدولف هتلر. والدورة في حدّ ذاتها كانت تحدياً للمنظمين والمشاركين معاً، وسال حبر كثير حولها، ونشرت كتب عن أسرارها الخفية أو ما سمي ب"الألعاب النازية". كما شهدت الدورة أول طواف بالشعلة بلغت مسافته 3 آلاف كيلومتر انطلاقاً من بلدة أولمبيا اليونان الى بلغاريا ويوغوسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، مروراً بالنمسا وصولاً الى ألمانيا. وشاركت بعثات 49 بلداً في الألعاب، وضمّت 3738 رياضياً 328 رياضية تنافسوا في 21 لعبة 129 مسابقة. وكان"الظهور الأول"لكرة السلة وكرة اليد والكانوي، في حين أدرجت مباريات البولو للمرة الأخيرة. وبرزت فتاتان صغيرتان هما الأميركية مارجوري غسترينغ 13 سنة التي حلّت أولى في الغطس، وأضحت أصغر فائزة بميدالية ذهبية. ونالت الدنماركية أنجي سورنسن 12 سنة برونزية سباحة ال200م صدراً. أما الهنغاري أوليفر هالاس فأحرز ذهبيته الثالثة في كرة الماء، علماً أنه ينافس بساق مبتورة من تحت الركبة بسبب حادث قطار. وفي التجذيف، حقق البريطاني جاك بيريسفورد لقبه الأولمبي الثالث، وتغلّب وليسلي ساووثوود على المرشحين الألمان. وأعلن أنه خاض أفضل سباق في حياته شاكراً رولي سيمز الذي صنع القارب في غضون أسبوعين ونصف أسبوع، وفي مقابل 50 جنيهاً إسترلينياً. وكان بريسفورد حلّ ثانياً في فئة السكيف عام 1920 خلف الأميركي جاك كيلي، وتوّج بعد أربعة أعوام في باريس، ثم حلّ ثانياً في أمستردام 1928، وإستعاد اللقب في لوس أنجليس 1932. ووالده هو جوليوس ويزينوزسكي بولندي الأصل هاجر الى انكلترا، ومنح موطنه الأول المركز الثاني في"أولمبياد 1912". ومنح الرباعون المصريون بلادهم الميداليات من المعادن المختلفة، إذ فاز خضر التوني بذهبية وزن المتوسط، ومحمد مصباح بذهبية وزن الخفيف، وصالح سليمان بفضية وزن الريشة، وإبراهيم شمس ببرونزية، وإبراهيم واصف ببرونزية خفيف الثقيل. وكان العرب بدأوا حصد الميداليات في دورة أمستردام، فعرف المصري إبراهيم مصطفى التتويج بالذهب في وزن خفيف الثقيل للمصارعة اليونانية- الرومانية، وأضحى أول فائز في الدورات الأولمبية من خارج"النادي الأوروبي". ونال مواطنه سيد نُصير ذهبية الأثقال في وزن خفيف الثقيل. وحصد فريد سميكه الذي تدرّب في الولاياتالمتحدة فضية الغطس من المنصة الثابتة، وبرونزية المنصة المتحركة. ومن الوجوه المتألقة في برلين، الصبية الهولندية هندريكا ماستنبروك ري إبنة ال17 ربيعاً، التي طوقت عنقها ب4 ميداليات في السباحة منها 3 ذهبيات. وثابرت ري ذات النظرات الخجولة على التدريب منذ سن ال12، وكانت قبل عامين من الأولمبياد أحرزت 3 ذهبيات وفضية واحدة في بطولة أوروبا، التي أجريت في مدينة ماغدبورغ الألمانية. وحضرت الى برلين قبل أسبوع من موعد قدوم أفراد البعثة الهولندية، يرافقها مدربها ما براون الذي يُطلق عليه لقب"مكرّس المراهقات للألقاب الأولمبية". وعرفت ري بقوتها في الحوض وليس بأسلوبها الانسيابي. وهي ضربت ضربتها الأولى في ال100م حرة، أمام الارجنتينية جانيت كامبل والألمانية جيزيلا أرندت، مسجلة رقماً أولمبياً جديداً 1.05.9 د. لكنها حلّت ثانية في ال100 ظهراً، على رغم أن الرقم العالمي 1.15.82 د في حوزتها. فقد تغلّبت عليها مواطنتها دينا سنيف، إذ بدت ري منهكة بعد خوضها تصفيات ال400 م في اليوم ذاته، فسجلت 1.19.2 د. وتمكنت من سباق البدل 4 مرات 100 م من التقدم على أرندت بنحو 100م، والنتيجة سيطرة هولندية مطلقة ورقم أولمبي 4.36.00 د. وإنتقمت ري لسنوات مراهقتها في نهائي ال400 م وخصوصاً من الدنماركية"الجسورة"راغنهيلد هفغر، وتقدمت عليها بأكثر من ثانية 5.26.4 د. وكان أحد المشجعين قدّم لهفغر علبة شوكولا متجاهلاً وجود ري قربها!! وبعد الفوز صرّحت بعفوية"بالطبع طعم الفوز الآن ألذّ من الشوكولا"! ريفنشتال"تسخّر الصورة" أوينز وتسعة أميركيون سود آخرون"لونوا"فيلم ليني ريفنشتال"الوثائقي"، عن دورة إهتم منظموها بالصورة كثيراً، إذ ان وقائع المسابقات بُثت على 25 شاشة عملاقة في برلين. وبدا التطور التلفزيوني والنقل المباشر من خلال موجات هرتزية مبثوثة عبر الكابلات. وكانت أيضاً بداية إعتماد الكاميرات السائرة على سكة خاصة الى جانب مضمار الجري. أرادت ريفنشتال 36 سنة المعجبة بهتلر، فيلماً من دون تعليق يثير اهتمام الجميع وليس عشاق الرياضة ومزاولي ألعابها فقط. لكن بعضهم اعتبره دعاية لهتلر، خصوصاً أن المخرجة مقرّبة منه وتعمل بإيحائه. وهي حصلت على إذن تصويره من اللجنة الأولمبية الدولية. ونجح كما تقول:"لأنه تعاطى باستقلالية تامة مع الأفكار والاتجاهات"، علماً أن وزير الدعاية والإعلام في حكومة الفوهرر جوزف بول غوبلز تمنّى ألا تركز مشاهد الفيلم كثيراً على الأبطال من الأعراق الملونة. وظّفت ريفنشتال 300 شخص لإنتاج الفيلم بينهم 40 مصوراً، وتميّزت المشاهد بتقنية خاصة وابتكار في اختيار اللقطات، وبعضها من مختلف أنحاء ألمانيا. والنتيجة فيلم"أولمبيا"الذي حمل جزؤه الأول عنوان"فستدر فولكر"أي"عيد الشعب"ومدته 111 دقيقة. وجزؤه الثاني عنوانه"فستدر شونهيت"أي"عيد الجمال"ومدته 90 دقيقة. ذكريات ساعة الحقيقة هكذا كرّست السباحة ماستنبروك وألعاب القوى أوينز، الذي إستعاد محطة ذكرياته في برلين بعد أربعة عقود من انتصاره المدوي. وهو اعتبر أنس باق ال100م كان"ساعة الحقيقة التي دقت. هذا النهار انتظرته تسع سنوات، تسع سنوات من التدريب المضني والسباقات التي لا تحصى... وقفت في الحارة الأولى عند خط الانطلاق وتلاطمت في رأسي أفكار كثيرة تزاحمت وتداخلت. تذكرت مدربي ونصائحهم، مدينتي وزوجتي وعائلتي، المدرسة والأصدقاء وأوقات الطفولة، وبحركة لا شعورية مسدت بيدي العلم الأميركي على قميصي، فأنا هنا من أجل بلادي. شعرت حينئذ أن قدمي لا تقويان على الوقوف، ارتختا تحت ثقل جسدي الغارق بوزن الأفكار، بدأت يداي ترتجفان وجفّ حلقي، كيف لا وخلاصة السنوات التسع ستمر في شريط مدته 10 ثوان. انتفضت وكأني أصحو من غيبوبة طويلة. عليّ التركيز والانعزال للحظات أمام هذا الحشد الكبير، الى جانبي سبعة عدائين كل منهم قادر على الفوز وليُعلن أسرع رجل في العالم... قررت ألا أتطلّع يميناً أو يساراً، صرت متلهفاً لسماع طلقة البداية والجري. أخذت وضع التحفز للانطلاق وصوبت عيني على أرض المضمار وخط النهاية فيه... وانطلقت في السباق الأكبر في حياتي". واستقبل اوينز العجوز من قبل حشد من المعجبين والصحافيين، انتظروه وسروا بلقائه ومصافحته والتقاط الصور معه ومحادثته والحصول على توقيعه... وكان سروره عظيماً"انه أجمل تقدير لي ولم أتوقعه، حين شاركت في الألعاب كانت رسالتنا واضحة للنازيين... لا دخل للسياسة في الرياضة، وبرهنا أن الولاياتالمتحدة هي وطن المساواة والعدالة والفرص المتاحة للجميع". وحضرت في بال أوينز خاطرة رواها مبتسماً"طلبت لجنتنا الأولمبية أن أكرّم بالجلوس في المقصورة في ستاد برلين فرفض النازيون طلبها، وأنا كنت سعيداً جداً بردّهم السلبي صدقوني...". وفرادة أوينز أنه كان يركض مسافة ال100 أو ال200م بالإيقاع عينه من البداية الى النهاية. ينطلق سريعاً ويجتاز خط النهاية بالسرعة ذاتها. وكان يمتاز في الوثب الطويل بتصاعد طول المسافة التي يجتازها من محاولة الى أخرى. علماً أن تقنيته كانت جد تقليدية، فلا يحسب حساباً للحد الأقصى لبدء التحفّز وحافة الارتقاء وإلا لزادت كثيراً المسافة التي يجتازها. كان فقط يحفّز... يسرع في الجري... ويثب.