ليست جائزته الأخيرة كما قد يتوهم البعض، فالباب الفرنسي الذي انفتح فجأة أمام النظام السوري ليخلع عنه ثوب العزلة، ليس إلا عربون تقدير يستطيع الإسرائيليون بانخراطهم في مفاوضات غير مباشرة معه، وقوى المعارضة اللبنانية بإخضاعها المؤسسات الدستورية اللبنانية جميعا لأجندته، أن يفاخرا بأنهما قدّما حركة سياسية متسقة، أفضت إلى انتزاع هذا المحفّز انتزاعا، ولأنّ هذا العربون ليس إلا فاتح شهية سياسيا، فإنّ القادة الإسرائيليين الذين يجلسون دوما على كراسي مهتزة، والعمال الصالحين في لبنان، يستطيعون بضبط أرهف وأدق لاتساق حركتيهم السياسيتين، وبانتهاز مدروس للفرص التي يسهل إيجادها وتثميرها على الأرض الفلسطينية واللبنانية، أن يجبرا الولاياتالمتحدة الأميركية وغيرها، على التقدم خطوات إضافية، باتجاه تقديم مكافآت ستبدو أكبر، وأخطر، بطبيعة الحال، على طريق تطبيع كاف، وملائم، وذي جدوى مع النظام السوريّ. في العمق، يدرك لبنانيو سورية أنّ مصيرهم مرتبط بسفينة هذا النظام السوري بالذات، وأنّ النقاط التي يسجلونها في الداخل اللبناني، تذهب طيّعة إليه قبل أن تصب في مصلحتهم الاستراتيجية، ودون أن تلامس بالتأكيد التصور الآخر لحقيقة المصالح الوطنية اللبنانية، كما يستقر في أفهام وعقول أغلب أو نصف اللبنانيين، والحقّ أنّ هيئة تدحرج النقاط هذه بالضبط، هي مرتجاهم الأمثل، وخيارهم الأوحد، فلم يفطنوا ? رغم فطنتهم المشهودة - بعد إلى حلول أخرى لمعضلة الإمساك برقاب ثنائية الأمن والهيمنة سواها، وهي معضلة تؤرقهم، وتقض مضاجعهم. وعلى الرغم من أنه لم يكن في حسبان رجال الثامن من آذار، عندما انقضّوا على بيروت في السابع من أيار الماضي، ولا بعد انتصارهم الساحق على سكانها ومؤسساتها، أنّ حجم المكافأة التي ستقدمها أوروبا ومن خلفها أميركا، نظير إشارة سورية-إيرانية بقبول بنود اتفاق الدوحة ومندرجاته جميعا، سيصل إلى مستوى دعوة الرئيس السوري إلى المشاركة في احتفالات فرنسا بدرّة أعيادها الوطنية، إلا أنهم هضموا معاني هذا النجاح المؤزر بتفوّق لافت، وتعاملوا بهيبة وثقة مع حقيقة أنّهم أكملوا لبنانيا، ما بدأته إسرائيل في تركيا، حتى غدا ممكنا فملموساً الوصول إلى هنا، ولعل التصريح الذي أدلى به السيد نبيه بري بعيد رفض رئيس الحكومة اللبنانية المكلف توزير الرئيس السابق للحزب القومي السوري علي قانصوه، والذي يقول فيه دولته أنّ من يرفض قانصوه اليوم قد يضطر إلى القبول بمن هو أصعب غدا، لا يعني فقط أن الأكثرية النيابية اللبنانية أضحت بعد السابع من أيار، واتفاق الدوحة، وتقدم المفاوضات السلمية السورية الإسرائيلية، ومؤشرات عودة الدفء إلى العلاقات الفرنسية السورية، محشورة في حتمية الموافقة على طروحات المعارضة مهما كانت، بل يعني أنّ القدرة على الرفض التي تمتعت بها قوى الرابع عشر من آذار لأشهر قليلة فقط من عمر تسيدها مجلس النواب، قد أضحت أثرا بعد عين أيضا. فغلواء القوة وعزم المنتصرين في كلمات السيد بري، تعبير تحذيري موفق قادر على لفت انتباه من لم يستوعب معاني الجائزة الفرنسية، إلى تبصّر الموقع السياسي الجديد، والمتقدم لقوى الثامن من آذار، والذي بات بفضل هذا الانفتاح الأوربي على النظام السوري، يسمح حاليا، بسيطرة مطلقة على خيوط اللعبة اللبنانية جميعا. لا مناص من الاعتراف بأنّ هذا الواقع الذي عبّر عنه رئيس مجلس النواب اللبناني بوضوح صارم، يعني أنّ الجهود التي بذلها الأكثريون في لبنان لبلورة ديموقراطية لبنانية على الأرض قد ذهبت سدى، وأنّ المرحلة القادمة تفرض على هذه الأكثرية الالتفات الجدي إلى الانتخابات النيابية القادمة فحسب. فإضاعة الوقت، بل هدره، في التباكي على ما تبخر، لن يعيد شيئا، وقد يفاقم الخسارة أيضا، وإذا كانت سياسة ضبط الخسائر واحدة من مجهولاتنا المعرفية عربيا وشرق أوسطيا، فإنّ الحاجة إليها لبنانيا اليوم، أكثر من وجودية، لأنّ الديموقراطية التي جرفها التشكيل الحكومي التوافقي، حملت معها قوى الرابع عشر من آذار إلى مساقط الهزيمة، وضبطُ الخسائر وحده، يستطيع صوغَ خطاب انتخابي جديد"يلائم تطلعات السنين الأربع التالية"ليكون بمقدوره أن يحمل معه أمل عودة هذه القوى بالذات إلى سدّة السلطة مجددا. والبيان الوزاري المرتقب، والذي تدور بصدده مماحكات عبثية اليوم، سيكون امتحانا قريبا ودقيقا لقدرات قوى الرابع عشر من آذار على تبصر مواقعها الجديدة، ومقياسا جيدا لمدى قدرتها على التلاؤم والانكفاء إلى خنادق حيوية، وإذا تعاملت هذه القوى بديناميكية من يضبط خسائره، فإنّ السحر الذي يبدو متقنا وفعّالا مرشح للانقلاب على أصحابه، لأنّ التمكن من التحكم بكيس الخيارات الذي ثقبته بلا رحمة غزوة بيروت المظفّرة، يعني الإمساك مجددا بدفّة الوقت، ولعله مدار الصراع المكظوم اليوم لبنانيا، وفلسطينيا، وعراقيا، من جهة، وأميركيا إيرانيا من جهة ثانية. وفي صلب هذا التحكم الذي ستقع كوارث أهلية في لبنان دونه، لا معنى للرفض القصير المدى الذي يتلوه الرضوخ، لأنّ سياسة القبول انصياعا، بعد تمنّع لا جدوى منه، ولا أفق أمامه، نزولا عند مصلحة لبنان، وصونا للسلم الأهلي، غير صالحة انتخابيا، وفاقدة المعنى وطنيا أيضا، فما معنى صون السلم الأهلي بعد السابع من أيار؟ وما هي مصلحة لبنان العليا في الموافقة اليوم على ما رفض بالأمس؟! الأجدى أن تعي هذه القوى، أنّ اللبنانيين لن يتعاملوا، وهم يتفرجون على المقاتلين الذين تتساقط أسلحتهم من جرابهم تباعا، بوصفهم منقذين، أو غيريّين، أو فرسانا شرفاء"تعاف نفوسهم غنائم الحرب، فيتنازلون عنها، وعن رأس مالهم الخاص طواعية لخصومهم عفةً ونبالةً، ولن ينظروا إليهم على هيئة الوطنيين المتسامحين الذين يقدمون تنازلات حيوية لبلادهم، بل سينظرون إلى فريق محضوه آمالهم وثقتهم، بوصفه أفرادا ينقلبون على أعقابهم عند أول امتحان، وعند هبوب أول عاصفة، وسيصفون الرضوخ كما هو، عاريا تماما، بأنه انهزام أمام....، وانحدار نحو...، وسيتجرعون حنقا لبنانيا يعرف الجميع أشكال زفراته، ولا يعرف واحد في الأرض إلى أين يمكن أن يصل حريقه. إنّ أفضل ما يمكن أن تظفر به الأكثرية النيابية في البيان الوزاري المرتقب للحكومة المؤقتة والوعرة بامتياز، أن تنجح في التوافق مع فريق الثامن من آذار، على صياغات مبهمة، لا ضرر أن تكون مساكن للشياطين القابلة للاستخدام على جبهتي التنازع اللبنانيتين، فمحاولةُ تضمين البيان الانتخابي المزمع، الذي تلوح بوادره: دولة سيدة حرة ديموقراطية مستقلة تحتكر مؤسساتها الأمنية السلاح، وتفرض سلطانها على امتداد الأرض اللبنانية، في سطور البيان الوزاري، فكرةٌ عبثيةٌ محكومٌ عليها بالخسران المبين، ولا جدوى من استهلاك أوقات ثمينة، يمكن أن تستثمر في إعداد الخطاب الانتخابي"لأنّ إنفاقها في محاولة وضع اليد على بيان وزاري قصير النفس محدود الوقت، أمر مضحك ومبك ويدعو إلى السخط أيضا. فلنكن صرحاء، لا إسناد إقليميا ودوليا اليوم لمثل هذا الطموح العارم، ولابد من اعتماد صيغ تسووية، لأنّ حصول المعارضة على ثلث الحكومة المعطل، لم يعطل المبدأ الديموقراطي فقط، بل أنهى معنى الأكثرية النيابية تماما، وضيّق خياراتها وحددها. والاعتراف بدور مشروط لحزب الله، خير من الرهان الخائب على إمكانية الهيمنة الحكومية على أجندته بضربة بيان وزاري، فالمسألة لم تعد ماذا تقبل؟ وماذا ترفض؟ بعد أن وضع تشكيل الحكومة الحالي الفريقين اللبنانيين أمام خيارات محدودة، وأضحى المعقول هو الناتج الممكن في ضوء مناورات صغيرة للغاية، حول خيارات أصغر، وطموحات أدنى تماما. وترحيلُ المتطلبات الاستراتيجية القاسية لقوى الثامن من آذار إلى مؤتمر الحوار المزمع عقده في بعبدا، يعدّ إحدى الممكنات، التي يفترض بقوى الأكثرية أن تناور للظفر بها، على صعد: قرار الحرب والسلم، سلاح حزب الله، والعلاقات اللبنانية السورية، واعتمادُ بيان وزاري ضبابيّ قابلٍ لأكثرَ من تفسير، أفضل ما تستطيعه قوى الرابع عشر من آذار اليوم، فلا يتوهمنّ أحد أنّ أكثرية نيابية أُغلق مجلس النواب في وجوهها، يمكنها أن تفرض واحدا من خياراتها. إدارة الوقت، وضبط الخسائر، ومراقبة السجال الأميركي الإيراني الذي ينجح مؤتمر الاتحاد من أجل المتوسط في تنحيته عن مسرح الهمّ والاهتمام اليوم لغاية فرنسية أميركية ودولية، أجدى سياسيا من الغرق في أوهام فظة"لأنه يفاقم الخسائر"ويقود البلاد والعباد إلى هيمنة أوسع لفريق لا دأب له إلا فرض تصور أوحد للديموقراطية على اللبنانيين جميعا، لا يشبه في غربته وغرابته إلا تغييبها التام. إنّ التمكّن من الإمساك بزمام الوقت، إنجاز إذا حققته قوى الرابع عشر من آذار الآن، فلن يكون درّة إنجازاتها فحسب، بل سيكون أفعلها وأمضاها، ومن يتيه كبرا بنصره اليوم، قد تتوه أقدامه بهزيمته النكراء غدا، والغد أفق لا أسطع من شموسه. * كاتب سوري