الصراع حول طبيعة النظام السياسي في لبنان كان واحداً من الاسباب التي ادت الى انفجار الاوضاع في السابع من ايار (مايو) من العام الماضي. فريق الرابع عشر من آذار اعتبر ان الديموقراطية السليمة هي الديموقراطية الاكثرية اي تلك التي تسمح له ان يحكم وحده، على ان تقوم المعارضة بدورها كرقيب على الحكم والحكومة. فريق الثامن من آذار اعتبر ان الديموقراطية الصحيحة هي الديموقراطية التوافقية التي تقضي بتشكيل حكومة تضم ممثلين عن الاطراف الرئيسية كافة في المجلس وبخاصة كتلتي الوفاء للمقاومة والاصلاح والتغيير، وان حكم اللون الواحد مناف لروح الديموقراطية. هذا الصراع، مع ما يحمل من مخاطر، لا يزال قائما. انه يتجلى في نظرة الفريق الاول الى اتفاق الدوحة على انه اتفاق موقت ينتهي مفعوله مع انتهاء العملية الانتخابية. وبانتهاء مفعول اتفاق الدوحة، تكون الاكثرية، ايا كانت الاكثرية، في حل من فكرة التوافق والحكم الائتلافي. ويتجلى الصراع في تمسك الفريق الثاني - وقد يبدو هذا من المفارقات - بالديموقراطية التوافقية، قبل السابع من حزيران وبعده، وسواء فاز هذا الفريق بالاكثرية او لم يفز. اذا فاز فريق الرابع عشر من آذار بأكثرية المقاعد النيابية وتمسك بمفهومه للنظام السياسي اللبناني، فإنه سوف يعتبر ان من حقه تشكيل حكومة اكثرية. في هذه الحالة سوف يجد فريق الثامن من آذار ان بإمكانه الطعن بشرعية الحكومة وبشرعية ما يصدر عنها من سياسات ومقررات، وسوف يجد هذا الفريق الاخير مبررا لمعارضة الحكومة عبر اساليب استثنائية وخارج العمل البرلماني البحت. اذا فاز فريق الثامن من آذار بالاكثرية وحاول تشكيل حكومة ائتلافية فإنه سوف يواجه، على الارجح، بتمنع فريق الرابع عشر من آذار عن المشاركة في الحكومة. في هذه الحالة يدخل البلد في مأزق على طريقة «مقسوم لا تأكل، صحيح لا تقسم وكل حتى تشبع». اي فريق اكثري (معارض سابقا) لا يريد ان يحكم وحده، وفريق اقلي (اكثري سابقا) لا يريد ان يدخل الحكم. مع ذلك هناك اصرار على حكم ديموقراطي توافقي. قد يكون في هذه الصورة شيء من التبسيط، ولكنه تبسيط لا ينأى كليا عن المعطيات وعن التجارب وعن السعي الى تفسير مواقف طرفي السياسة اللبنانيين الرئيسيين. المعطيات تقول إن الطرفين لا يزالان حتى الآن عاجزين عن الوصول الى تفاهم حول طبيعة الحكم في لبنان، اي حول المبادئ التي تحدد مصادر شرعية الحكم والقوانين التي تنظم اصول «اللعبة» السياسية. تظهيرا لعبثية هذا الموقف فلنتخيل فريقين يستعدان للاشتراك في مباراة كرة قدم. أحد هذين الفريقين يتصرف على اساس ان من حقه ان يعد لاعبي الفريق المنافس بالجوائز المالية الكبرى اذا خسر هذا الفريق الاخير المباراة. بالمقابل يتصرف الفريق الثاني على ان من حق لاعبيه ان يستخدموا قوتهم العضلية المتفوقة في شل حركة المنافسين وحرمانهم من تسديد الاهداف وحماية مرماهم. في هذه الحالة ماذا يبقى من «اللعبة»؟ كيف تستقيم مع الروح والمبادئ الرياضية؟ ما الذي يمنع المباراة من التحول الى اقتتال دام يشترك فيه الجمهور المنقسم بين الفريقين والمعبأ بالمشاعر الصاخبة؟ هذه الصورة تدل على اننا مهددون فعلا بخسارة الديموقراطية اللبنانية، وهي خسارة تقود بالضرورة الى خسارة ما تبقى لنا من الاستقرار والازدهار والى تهديد الوحدة الترابية للدولة اللبنانية بالخطر. والجانب الاخطر في هذه الصورة ليس في تمسك كل من الفريقين بوجهة نظره. الجانب الاخطر في الصراع المفتوح والمستمر حول توصيف النظام السياسي اللبناني انه مطروح على نحو يسوغ لكل من الفريقين اتباع نهج احادي واقصائي. صحيح ان الفريقين يقبلان بالحوار الوطني ويساهمان به، ولكن الحوار الوطني لا يتطرق الى مسألة تحديد النظام السياسي اللبناني. فضلا عن ذلك فإنه لا يتقدم وفق برنامج زمني محدد. في ظل هذا الواقع يصبح مبررا ان يطرح المرء السؤال التالي: بانتظار ان يثمر الحوار الوطني اتفاقا على هذه المسألة، هذا اذا امكن التوصل الى هذه النتيجة، ما هي القوانين التي تحكم اللعبة السياسية اللبنانية؟ هل يحسم هذا الامر بالتصويت داخل المجلس النيابي اللبناني؟ هل يكون التصويت بالاكثرية العادية ام بأكثرية الثلثين كما هو الامر في القضايا المصيرية؟ هل يحسم عبر تغيير حاسم في ثقافة اللبنانيين السياسية فينحاز الرأي العام اللبناني بصورة جازمة غير قابلة للالتباس الى جانب واحد من الفريقين من دون سواه؟ الفريقان لا يطرحان الاحتكام الى الآليات الديموقراطية المناسبة عند البحث في الخيارات المصيرية، اما المسوغات التي يقدمها كل منهما لكسب جولات الجدل القائم حول طبيعة النظام السياسي اللبناني ففيها من النواقص والثغرات ما يدل على ضآلة الاكتراث بهذه المسألة الحساسة، وعلى التعامل مع قضايا الديموقراطية باستخفاف غير مبرر. فريق الثامن من آذار يشدد على الحاجة الى الديموقراطية التوافقية واستطرادا الى الحكومة الائتلافية انطلاقا من امرين: الاول التنوع المجتمعي الذي يسم لبنان. وثانيا، جسامة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه البلد. هذه الاوضاع، تؤكد كما يعتقد هذا الفريق وكما يعتقد عدد متزايد من علماء السياسة والاجتماع، حاجة بلد مثل لبنان الى الديموقراطية التوافقية، ومن ثم الى الحكم الائتلافي. ولكن بين الاقرار النظري بنجاعة الديموقراطية التوافقية والحكم الائتلافي، وبين تشكيل حكومة ائتلافية بالفعل، مسافة واسعة تجتازها الاحزاب والقوى المرشحة لدخول الائتلاف بعد ان تتفاهم على القضايا الكبرى وبعد ان تتفق على برنامج حكم موحد. هذا التفاهم يتم عادة اذا تمكن الائتلافيون، اي القوى الداعية الى الائتلاف، من اقناع الآخرين بمسوغاته التالية: اولا، ان اهداف الفرقاء متشابهة ومتكاملة. ثانيا، ان التعاون سوف يعزز من قدرة الفرقاء على تحقيق اهدافهم. ثالثا، ان فوائد التعاون سوف تكون اكبر من خسائره. السؤال هنا هل ان فريق الثامن من آذار يتحرك في هذا الاتجاه؟ رغم التفاهمات الانتخابية والمصالحات السياسية التي تحققت بين اطراف من الفريقين، فإنني اعتقد ان فريق الثامن من آذار لا يعطي مسألة خلق مناخ ملائم لإقناع فريق 14 آذار، او بعض قياداته، بمزايا الحكم الائتلافي الاولوية الكافية. هذا ما يستنتجه المرء، على الاقل، من المواقف التي واكبت حرب غزة واطلاق سراح الجنرالات الاربعة حيث بدت العديد من المواقف مغايرة للنهج الائتلافي، ولا تسير في طريق التمهيد لحكومة ائتلافية تعقب انتخابات السابع من حزيران. تقصير فريق الثامن من آذار في تهيئة المناخ لاستمرار وتطوير الحكم الائتلافي لا يضاهيه الا تقصير فريق 14 آذار في اقناع المواطنين بصواب الحكم الاكثري. الحجة المتكررة هنا هي ان هذا النهج هو من مقتضيات الحكم الديموقراطي، وان لبنان عرف مثل هذه الحكومات بخاصة عندما تناوبت على الحكم فيه الكتلتان الدستورية والوطنية. هذه الحجج لا تقدم مسوغات للحكم الاكثري بمقدار ما تدل على الثغرات الكثيرة في موقف فريق الاكثريين تجاه مسألة الحكم في لبنان. فالنظام الديموقراطي لا يتعارض مع الحكم الاكثري، ولكنه يعتبر استبداد الاكثرية خطرا لا يقل عن خطر استبداد الاقلية. لذلك قال اليكسيس دو توكفيل ان استئثار الاكثرية بالحكم يوازي استئثار الافراد به، وقال توماس جيفرسون ان الديموقراطية تتحول الى حكم الرعاع حينما تحرم اكثرية خمسين في المئة زائداً واحداً التسعين والأربعين الآخرين من حقوق المشاركة. واذا كان نموذج الحكم الاكثري هو النموذج الديموقراطي السليم، لوجب علينا ان نخرج الدول التي قادتها او تقودها حكومات ائتلافية مثل المانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والسويد والنرويج وسويسرا وايرلندا والهند من عداد الدول الديموقراطية. اما الاستنجاد بالسوابق التاريخية في لبنان فيقود الى عكس ما يرغب الاكثريون في تأكيده. فالكتلة الدستورية وانصار الرئيس اميل اده دخلوا الانتخابات النيابية عام 1937 مؤتلفين، وشكلوا من بعدها حكومة ائتلافية. وانتخابات عام 1943 جاءت بحكم ائتلافي ضم القوميين العرب والدستوريين وبالميثاق الوطني اللبناني. ان تشبث الفريقين بموقفهما تجاه مسألة طبيعة نظام الحكم في لبنان وبالتبريرات الهشة المشار اليها يضع على عاتق المعنيين بالحوار الوطني وبخاصة رئاسة الجمهورية اللبنانية ادراج هذه المسألة في مقدمة الموضوعات التي يشملها الحوار، وان تضع برنامجا زمنيا للتحاور حول هذه النقطة تحديدا حتى ينتهي المتحاورون الى نتائج تنعكس على تركيب الحكومة بعد السابع من حزيران. * كاتب لبناني