انطلق نص مسرحية "الجدارية" من قصيدة محمود درويش التي تحمل الاسم نفسه، وأعد حواراتها الشعرية خليفة ناطور, وقُدمت ضمن فعاليات مهرجان دمشق في دورته الأخيرة، ثم استضافها مهرجان قرطاج المسرحي في دورته الثالثة عشرة التي حملت شعار"المسرح إرادة الحياة... من الشابي إلى محمود درويش". وذهب معظم النقاد العرب والأجانب ممن حضروا هاتين التظاهرتين، إلى فرادة هذه المسرحية وتميزها، على رغم المستويات الرفيعة التي تحلت بها معظم العروض المسرحية الأخرى، وذلك بفعل جاذبية الحوار الشاعري لپ"الجدارية"، خصوصاً وهي ترصد مأساة الشعب الفلسطيني في التاريخ بصفتها تراجيدية ملحمية. نجحت"جدارية"محمود درويش بفضائها التراجيدي أو المأسوي، في الاقتراب كثيراً ممّا فعله هوميروس، من خلال رصدها الإبداعي لأحداث كبرى، وإعادة صوغها ضمن معمار رمزي مستمد من عوالم القصيدة المليئة بالاستعارات المجازية والصور الباهرة والتفاصيل الثرية التي تتأسس عليها"الملاحم الأسطورية". ولا بد من التنويه في أن شأن المسرح قد تعاظم في المجتمعات البشرية مع ظهور المسرح الإغريقي القديم، وارتكازه على شاعرية النصوص التي تناولت مأساة الإنسان وأظهرت"روح التخطي"التي تتمتع بها شخوص هذه الأحداث التراجيدية. ولا تزال عظمة المسرح التراجيدي هذه تحضر في الراهن، على رغم تراجع حضور المسرح بفعل شيوع النمط الاستهلاكي وثقافته ومنظومة الميديا العولمية المستندة إلى نمطية"الصورة المؤدلجة"، واتساع رقعة الرواية على حساب حيز الشعر الذي بدأ بالتراجع. فپ"الجدارية"، التي قدمها المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، وعُرضت قبل ذلك في إسبانيا وسويسرا والسويد والدنمارك، وعلى مسرح بيتر بروك في باريس أيضاً، وستواصل جولة أخرى تكشف أهمية حضور التجربة الشعرية العربية الحديثة التي تتجسد هنا بنتاج درويش، وتحيلنا في الوقت نفسه إلى أهمية استقلالية الرؤية الإخراجية في مظهرة مقترحاتها البصرية وصيغتها السمعية، من دون عبثٍ في بنية النص الأدبي، بصفته الهيكل الأساس للمسرحية، وأهمية حضور سطوة الممثل كعلامة مركزية. تطرح المسرحية مأساة الشعب الفلسطيني في التاريخ، وصراع ذات الشاعر كشخصية أرضية إنسانية جسّدَها على خشبة المسرح الفنان مكرم خوري مع الموت كشخصية أسطورية علوية تسعى لاجتثاث هذه الحياة. ويظهر فضاء المسرحية من حيث الشكل تراجيدياً، مصوِّراً الأحداث الملحمية ورسائلها المأسوية، ومُظهراً جماليات المسرح الإغريقي القديم، والذي من أبرز صانعيه العظامُ الثلاثة: اسخيليوس، ويوربيدس، وسوفكليس. ومن جهة، انطرحت الشخوص الرئيسة الثلاثة، الشاعر محمود درويش كجسد أثناء استشفائه السريري ودخوله مرحلة الغيبوبة في أحد مستشفيات فرنسا، وذاتُ الشاعر الشعرية الحية في هذه المرحلة وجسدها خليفة ناطور، وشخصيةُ الموت، ومن جهة ثانية كان أداء الشخوص الأخرى بمثابة الجوقة التي تعزز وتؤكد محمولات الشخوص الرئيسة. وقد ظهرت الرسائلُ مأسويةً بامتياز مُبرزةً عظمة قيم روح التخطي وجلالها في الصراع التراجيدي بين الذات الشعرية شخصية أرضية إنسانية والموت شخصية علوية. هكذا كان يندفع الحدث، بالمستوى الواقعي، إلى الأمام، بفعل الصراع بين شخصية محمود درويش الإنسان، وجسده، ليفوز بالحياة وهو على سرير المرض، إذ سعى الأطباء والممرضون لاستعادة مريضهم من براثن الموت. أما في المستوى الرمزي، فيتم رصد الصراع القيمي الشديد بين شخصية الذات الشعرية حاملة صيرورة الحياة، وبين شخصية الموت حاملة شؤم النهايات والخراب. وقد كشف تصميم الشخوص عن هواجسها بطريقة حيّة جذّابة، وذلك من خلال التداعيات الحوارية الشعرية، وحضور مستويات عالية من التوتر. وقد عمّقت جمالياتُ المفردات السينوغرافية المعنى والرسائل"ففي المستوى الواقعي حضرت الألوان بصرياً متخذةً منحى أيقونياً طبيعياً: لون السرير، وملاءات أسرّة المستشفى، وأزياء الأطباء والممرضين، وكذلك مشاهد المرتحلين أو النازحين التي أشارت إليها حقائب السفر، بينما غلب لونُ البياض الحليبي على الفضاء الرمزي، الذي شكّل بدوره مكان الصراع بين الذات الشعرية والموت الذي تجسد في شخوص ترتدي أقنعة بيضاً، وكأنها كائنات غير إنسانية، وهي تمثل الحالة التي كان درويش يصارع فيها الموت أثناء غيبوبته. كما ظهرت في هذا المستوى الرمزي الإلهةُ عناة، التي تقمصت الفنانة ريم تلحمي دورها ببراعة، إذ كان ثوبها بذيله الطويل يملأ طرفَي المسرح بأشتال القمح الأصفر الريّان، ليحصده المزارعون في أرض كنعان. وما يميز هذه التجربة أيضاً، قدرة الرؤية الإخراجية على التماهي مع تجسيد الحالات الزمنية بتداعياتها الدلالية، إذ لم تركن المسرحية إلى زمن إنشاء النص الأدبي متمثلاً في تأليف القصيدة، أو إلى زمن تلقي العرض، اللذين يشكّلان الزمن الخارجي للذات، وإنما اعتمدت على تعاقب الأزمنة الداخلية للفضاء الدلالي، خصوصاً زمن ما بعد خروج الروح وإطلالتها إلى الجهة الأخرى من الحياة المبهمة الصامتة بالنسبة إلينا. فالزمان يصيب من الجسد ما يصيب، لكنه يقف أمام الروح ذاهلاً عاجزاً عن الإضرار بها، على حد تعبير عبد السلام المساوي. وقد حدث الصراع في السياق البصري والسمعي للعرض بين الحياة متمثلةً بشخصية الذات من خلال روح الشاعر، من جهة، والموت الذي جسدته شخوص مقنّعة، من جهة أخرى، ما قاد إلى خلخلة البنية التعاقبية للزمن، وتأسيس بنية زمنية واحدة جديدة تنصهر فيها كل الأزمنة ابتداء من الماضي منذ الوجود الأول للكنعانيين، مروراً بمختلف حقب التاريخ، وانتهاء بالعصر الراهن، إذ يتواصل الصراع في تخوم لون البياض التي شكّلت خلفيات مشاهد ولوحات الصراع الضاري المستمر، وأسست لمعادل فلسفي وفني. وبعد تفكيك هذه الأبنية الزمنية المتعارف عليها الماضي والحاضر والمستقبل التي تشكل بمجملها حقيقة الوجود الإنساني في دهاليز أو ممرات الذاكرة التاريخية، يجد المتلقي أنه ينتشي بالوصول إلى زمن آخر مغاير، إنها الأبدية، حيث تواصل الروح مسارها نحو المطلق، مختزلةً شعباً ووطناً في جغرافيا شكلتها عوالم البنى العميقة لشعر درويش، حيث لا وجود للثنائيات والصراع، نحو حياة أخرى، ينشئها درويش من أبنية قصيدته التي تضج بصدى الأصوات والصور، وبعيداً عن الأزمنة التي تحضر فيها تداعيات التاريخ المدجج بالكره والأعداء، والأقنعة والأصدقاء. وتحيلنا الرسالة المحمّلة بالإشارات الدلالية إلى رحم زمني ليس خارج الواقع وحسب، وإنما أيضاً خارج الخيال المثقَل برؤى فكرية ومعرفية بشرية، ليحقق ولادة جديدة بعد التحرر الموقت لروح الشاعر من جسده خصوصاً، ومن التاريخ عموماً، وهذا هو الزمن الذي استطاعت الرؤية الإخراجية ابتكاره من وحي النداءات العميقة للقصيدة، والتي استطاعت المقترحات الإخراجية توظيفها داخل السياق.