ثلاثة شعراء عرب معاصرين هم: بدر شاكر السياب وأمل دنقل ومحمود درويش يرد الموت بكثرة في شعرهم وكانت لكل منهم علاقة خاصة أو حميمة معه، إن جاز التعبير، مردّ هذه العلاقة هو معايشتهم له وانتظارهم إياه بسبب ما كان يعانيه كل منهم من متاعب صحية كان يعرف مسبقاً أنها لابد أن تنتهي بالموت. ومن أجل ذلك شكل الموت هاجساً شخصياً عبّر عنه الشاعر بالشعر، إن لم نقل إن شعر الموت شكل كماً لا بأس به من انتاجه، نلحظ ذلك في ديوان «منزل الأقنان» للسياب الذي يضم أغلب القصائد التي تتمحور حول موضوع الموت. كما نلحظ ذلك أيضاً في ديوان محمود درويش «الجدارية» حيث هيمنة الموت بارتباطاته الدلالية المتصلة بأجواء المرض. وتشكل القصيدة بمجملها تأملاً مطولاً في الموت، واستحضاراً لطقوسه، فضلاً عن إيحاءاته وتداعياته في الذاكرة والجسد معاً. ونعثر على شعر الموت في مظان مختلفة من شعر أمل دنقل، منها «أوراق الغرفة رقم 8» وهو ينطوي على أوراق أمل الأخيرة، والغرفة رقم 8 هي آخر الغرف التي قاوم فيها أمل مرضه. محمود درويش عن فكرة الموت لدى هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين عانوا الموت قبل أوانه، ووهبهم حديثهم عنه ألقاً شعرياً خاصاً، يتحدث الباحث حميد الشابي في كتاب جديد له صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بعنوان: «الكائن والممكن في قراءة الشعر العربي المعاصر» يعرض فيه لجوانب مختلفة، في هذا الشعر منها فكرة الموت التي عالجها عدد وافر من الشعراء، ولكن ثلاثة منهم على الخصوص كان لهذه الفكرة شأن خاص عندهم لم يتوفر لدى سواهم هم السياب وأمل دنقل ومحمود درويش والثلاثة قضى عليهم الموت قبل أوانهم ولذلك حق لكل منهم أن يصفّي حسابه معه. وسنرى في ضوء دراسة الشابي الطريقة التي تعامل بها هؤلاء الشعراء معه. بدر السياب على مستوى الموقف العام من موضوع الموت، يبدو السيّاب أقرب إلى الاختيار الفني التقليدي في التعامل مع التجربة، بحيث ان الموت يمثل قدراً لا مفر منه إلا بمشيئة وتدبير من الله. كما أن الموت هو هادم اللذات ومفرّق الجماعات، ومن ثم فإن الشاعر يحصر تفكيره في محيطه الاجتماعي والحياتي الشخصي، ممثلاً في الزوجة والأبناء ومراتع الصبا في قريته جيكور. بذلك فهو يقدم لنا صورة عن التصور البسيط والانطباعي عن الموت، في رؤية الناس عموماً. أما أمل دنقل فهو يبدو متأثراً بفن الأقصوصة التي تعتمد أسلوب المفارقة، أو القلب في الأدوار المفضي إلى إبراز مقاصد مغايرة لظواهر الأشياء البسيطة المحيطة بنا، والتي لا نلقي لها في العادة بالاً فقد آثر الشاعر، في قمة مصارعته المرض، أن يتأمل في الأشياء البسيطة من حوله. بذلك ركز على ابراز شعرية الموت، في مستوى الموقف الذي تعبّر عنه القصيدة، معتمداً في ذلك على المفارقة في الألوان والأفعال والأدوار. فهل يمكن القول إن أمل دنقل، استطاع تجاوز الرؤية التقليدية إلى الموت والتي عبّر عنها السياب في قصائده؟ أما محمود درويش فقد خلق مسافة بينه وبين الموت. بل يمكن القول إنه اختار موته بنفسه، وأقام قيامته وحيداً، ورتب جنازته، وحاور موته الذي وصفه بالقسوة الناشئة عن افتقاده للدفء العاطفي. لكنه مع ذلك أسبغ عليه عدة تسميات بصيغة تمجيدية. وإن كان في الأخير يعبّر عن أن الموت الذي يستحق الخشية فعلاً هو موت اللغة. الكائن والممكن في قراءة الشعر العربي المعاصر يستشهد الباحث بصور من شعر الموت عند الشعراء الثلاثة. تجربة الموت في شعر السياب معاناة شخصية مريرة مع المرض والغربة والفقر والحاجة إلى الدفء العاطفي الذي يصبح مطلباً يتجاوز الرغبة في الحياة ليتحول إلى رغبة في الفناء والموت في حضن الوطن والأم المقهورة. في حين تصبح الزوجة والأطفال أطرافاً في صف المواجهة مع الموت ولوازمه. فهم يقاسون تماماً مثلما يقاسي الشاعر، وهو من الله عين ما يرجون. أما قارئوه فلا يتوقع الشاعر منهم غير الملل والهزء، فلا شيء في حديث الموت يثير سامراً أو يخلد شاعراً ومن أين للروح هذا البقاء؟ فناء، فناء سوى قصة قد تثير السأم! ويجد أمل دنقل نفسه أقدر على السخرية من الموت في صيغة المفارقة التي يراها الشاعر في الألوان. فاللون الأبيض الذي يراه الشاعر في غرف العمليات ونقاب الأطباء والمعاطف وتاج الحكيمات وأردية الراهبات، وفي الملاءات، وفي أغطية الأسرة، وفي أربطة الشاش والقطن، وفي قرص المنوّم، وأنبوبة المصل، «كل هذا البياض يذكرني بالكفن».. ولكنه يتساءل بعد ذلك عن سبب ارتداء المعزّين للسواد: «هل لأن السواد/ هو لون النجاة من الموت، لون التميمة ضد الزمن»؟ ثم يسخر من هذا الجواب سخرية حزينة تستبطن اعترافاً بسطوة الموت، بوصفه حقيقة لا مراء فيها: ضد من؟ ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟ مفارقات كثيرة يتوقف عندها أمل دنقل بإحساس نابع من رؤية شعرية محكومة بايقاع الموت الذي يزحف على جسد يستعد للرحيل وتطغى على القصائد حالات إحساس بقيمة الحياة في ضوء الموت، حياته هو في مقابل حيوات أشياء من حولنا، تبدو لنا بسيطة. في جدارية محمود درويش بناء مغاير لموضوع الموت، وعالم رمزي يسافر فيه الشاعر ليجد نفسه باحثاً عن اسمه، سائلاً عن مدينة الموتى، هناك حيث لا زمان ولا مكان ولا وجود. وكأنه عالم خيالي يسافر فيه الشاعر، بدءاً من تعيين اسمه من طرف امرأة "سرعان ماغابت في الممر اللولبي" ليجد نفسه في عالم سماوي أبيض تحمله حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى: كنت أحلم. كل شيء واقعي. كنت أعلم أنني ألقي بنفسي جانبا وأطير: سوف أكون ما سأصير في الفلك الأخير. وكل شيء أبيض ولأن الموت متعجل، ولأن الشاعر يستشعر خبب الليالي وراءه، فهو يستدير ليحاور الموت، يستبطنه، يدعوه إلى التمهل والانتظار. وحين يرغب في الحياة يكون ذلك برغبة في المشاهدة، مشاهدة الطوفان، كما يقول. هي رغبة يغذيها فضول فطري يتملك كل إنسان يستشعر أن في جنبه قلباً يتحرق شوقاً إلى مشاهدة ذلك الطوفان المشتهى: وأريد أن أحيا فلي عمل على ظهر السفينة. لا لأنقذ طائراً من جوعنا أو من دوار البحر، بل لأشاهد الطوفان عن كثب.. ويا موت انتظر، يا موت حتى استعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي، لتكون صياداً شريفاً لا يصيد الظبي قرب النبع. فلتكن العلاقة بيننا ودية وصريحة.. ويطول الحوار مع الموت الذي يتحول إلى نقطة تنتهي عندها الأحلام والرغبات والانتظارات. كأن الشاعر لا يريد أن يغادر، وفي القلب أشياء من هذه الحياة الصاخبة، أو كأن الموت لا يعنيه إلا من جهة ما قد يمنعه عن حياة أخرى في اللغة والقصيدة. فالحياة لا تعني له شيئاً إلا إذا كانت حياة اللغة: أخاف على لغتي فاتركوا كل شيء على حاله وأعيدوا الحياة إلى لغتي.. هذا هو موضوع الموت في «الجدارية» الذي يعد بحق تأبيناً من الشاعر لذاته قبل وفاته بما يقارب ثماني سنوات. وإن كان من الصعب التفكير في أن ما يتحدث عنه محمود درويش في هذا الديوان هو موته المباشر. ذلك بأن اللغة الشعرية تصرُّ على الانفلات من الانضباط الذي تفرضه القراءة. تفر القصيدة بدلالاتها الرمزية إلى حيث لا تتوقع القراءة، حين يتحدث الشاعر عن موت اللغة في نهايات القصيدة!