باتت مسألة الخلاف الذي دبّ داخل صفوف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بين جهاز الأمن العام [شاباك] وجهاز الپ"موساد"، من جهة، وبين هيئة الأركان العامة للجيش، من جهة أخرى، في شأن صفقتي تبادل الأسرى مع حزب الله وپ"حماس"، من"الأسرار المفضوحة". وعلى رغم أن القرار، في ما يتعلق بصفقة التبادل مع حزب الله، بقي، في الظاهر، في يد المؤسسة السياسية فقد رأى الكثير من المحللين الإسرائيليين أن هذه المؤسسة ما كانت لتُقدم على إقرار الصفقة، من دون حصولها على تأييد هيئة الأركان العامة ورئيسها. إنّ هذه الحالة تعكس جوهر العلاقة بين المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل، على مرّ الأعوام. وهو جوهر يحيل إلى خصوصية الحالة الإسرائيلية في هذا الصدد، بحسب ما يؤكد الباحث الجامعي د. كوبي ميخائيل. يؤكد ميخائيل، في كتاب بعنوان"بين العسكرية والسياسة في إسرائيل - تأثير الجيش على عمليات الانتقال من الحرب إلى السلام"، صدر أخيراً عن"المعهد الجامعي للديبلوماسية والتعاون الإقليمي"في جامعة تل أبيب، ويُعدّ أحدث دراسة إسرائيلية عن هذا الموضوع، أن أياً من الباحثين الذين سبقوه لم ينظر إلى الجيش الإسرائيلي باعتباره معزولاً عن التأثير السياسي والتدخلات السياسية. وقد تمحور اهتمام الجمهور والمؤسسة السياسية في إسرائيل، دائماً وأبداً، حول مسائل الأمن العسكري والأمن القومي، كما انصب دائماً اهتمام شديد على المؤسسة الأمنية في شكل عام وعلى المؤسسة العسكرية في شكل خاص، وأضحت هذه الأخيرة الجسم المنظم الأكبر والأشد أهمية في إسرائيل، واعتبرت في نظر المجتمع وقادته منظمة ذات قدرة تنفيذية عالية. وأضاف أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول، دافيد بن غوريون، حمل المؤسسة العسكرية منذ البداية مسؤولية رسمية واسعة النطاق تتجاوز حدود المهنية العسكرية المتعارف عليها في الدول الديموقراطية. فقد أخذ الجيش الإسرائيلي على عاتقه مهمات غير عسكرية مثل الاستيطان والتربية واستيعاب الهجرة اليهودية، بل واعتبر"بوتقة الصهر"لتشكيل وخلق"الإسرائيلي الجديد". وما زال الجيش يتولى لغاية هذه الأيام تنفيذ جزء من تلك المهمات وغيرها مثل الإسكان المعجل للجنود القادمين من دول الاتحاد السوفياتي سابقاً. وقد اهتم بن غوريون منذ البداية بتطوير قيادة الأركان العسكرية وعمل الفريق ورأى في ذلك وسيلة تخدمه أيضاً كرئيس حكومة. وسرعان ما أضحى الجيش المؤسسة شبه الوحيدة في دولة إسرائيل التي طورت بصورة منهجية ومستمرة مبادئ عمل الفريق الجماعي، ومن هنا وضعته مزاياه التنظيمية النوعية في منزلة قريبة من المؤسسة السياسية، وفي ظل غياب منافسين حقيقيين أصبحت المؤسسة العسكرية الجسم القيادي الأكثر تأثيراً على المؤسسة السياسية، التي طورت إلى حد كبير نوعاً من التبعية للمؤسسة الأولى. ولئن اتسمت العلاقات بين المؤسستين السياسية والعسكرية، خلال العقود الأولى من قيام إسرائيل، بالتكافل السياسي، فقد اتسمت في العقود التالية بنوع من الشراكة ذات الخصوصية البنيوية والوظيفية. ولم تقدم الأطر والنماذج النظرية، التي طُوِّرت في العالم الديموقراطي الغربي، تفسيراً مقنعاً وملائماً لهذه الخصوصية في منظومة العلاقات بين المؤسستين السياسية والعسكرية في إسرائيل، واعتبرت الحالة الإسرائيلية حالة محلية خاصة تقع في المنطقة الفاصلة بين العالم الديموقراطي والعالم الآخر. وبناء على ذلك أصبحت الحالة الإسرائيلية هذه، في رأيه، أحد التحديات البارزة بالنسبة الى الكثيرين من الباحثين المهتمين بشبكة العلاقات المتبادلة بين المؤسستين. ويشير باحث جامعي آخر، هو البروفسور غابي شيفر، إلى أنّ الاعتبارات الأمنية تسيطر، في معظم الحالات، على اعتبارات السياسة الخارجية الإسرائيلية. وهو يرى أن مجرّد ذلك ينطوي على مشكلة شديدة الخطورة، لا تنحصر في مجال إقرار السياسة الإسرائيلية في ما يتعلق بمكانة إسرائيل في الشرق الأوسط، وإنما تتعداه لتهدّد أسس"النظام الديموقراطي الإسرائيلي"، الذي قال إنه مقلقل أصلاً. يذكر أنه بالتزامن مع بدء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان 12 تموز/ يوليو- 14 آب/ أغسطس 2006 عاد موضوع العلاقة بين المؤسستين السياسية والعسكرية في إسرائيل إلى صدارة الاهتمام، على خلفية المواجهات العسكرية. وبعد انتهاء الحرب أخذ الموضوع أبعاداً مضاعفة، في ضوء حقيقة أخرى فحواها أن تلك الحرب كانت الأولى، على الأقل منذ ربع قرن، التي تولى فيها سياسيان يفتقران إلى ماضٍ عسكري أو أمني منصبي رئيس الحكومة ووزير الدفاع إيهود أولمرت وعمير بيرتس، وبالتالي فقد اعتبرت بمثابة"اختبار صعب"لكل منهما. ومهما تكن تفصيلات هذا الاختبار الصعب، فإن زعامة أولمرت العمومية بالذات هي التي وضعت أولاً على المحك، باعتبار"اقتضاب القيمة الحقيقية لوظيفة وزير الدفاع في هذه المواقف"- وهي مسألة سيتم توضيحها في سياق لاحق - وذلك من زاوية مقدرته كرئيس للحكومة على الوقوف بحزم وتصميم في وجه جنرالات الجيش، بحسب ما يقول الخبير الجامعي في الشؤون الاستراتيجية، د. رؤوبين بدهتسور. إن هؤلاء الجنرالات - يضيف هذا الخبير - يتأملون العالم عبر فوهة البندقية، وقد حاولوا بمجرّد اندلاع الحرب تصعيد العمليات العسكرية أكثر فأكثر، من منطلق الفرضية التي تمسك بتلابيبهم ومؤداها أن"المشكلات في لبنان يمكن حلّها فقط بواسطة القوة العسكرية". ووفق ما ارتسمت تطورات الأمور في تلك الحرب فإن المؤسسة العسكرية هي التي قرّرت مجريات الأحداث ميدانياً. ويوماً بعد آخر حصلت هذه المؤسسة على ضوء أخضر من المؤسسة السياسية يفوّضها توسيع نطاق العمليات. "الكلب والذيل" هنا يثار السؤال المجازي التقليدي: من الذي يهزّ الآخر؟ هل الكلب هو الذي يهزّ ذيله، أم أن الذيل هو الذي يهزّ الكلب؟. على خلفية تعدّد"حروب إسرائيل"وثمة من يعتقد بپ"منهجية"دوريتها أيضاً، وعلى خلفية واقع عيشها على أسنة الحراب، تطوّر في الآونة الأخيرة في إسرائيل أيضاً مجال البحث، الذي يتناول مسألة العلاقة بين المؤسستين السياسية والعسكرية. ولا يتسع المجال لعرض كل النماذج التي طاولها هذا البحث، وفيها ما يحدّد بالتفصيل الدقيق جوهر هذه العلاقة، الذي جاء عليه بعض الخائضين في هذا المجال. ولذا سنتوقف، كخلفية عامة لما حصل في هذه الحرب، عند بعض النماذج المستقرضة من فترة ما بعد عام 2000، وتنطوي على ما يسعف الراغبين في فهم إشكالية الحالة الراهنة المرتبطة بهذه العلاقة. وذلك لكون ذلك العام قد شهد حدثين مفصليين: الأول الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من جنوبلبنان في أيار مايو. والثاني انتفاضة القدس والأقصى في أيلول سبتمبر. وسنبدأ بالانسحاب الإسرائيلي من جنوبلبنان، علماً أن هناك تداخلاً بين الحدثين يخص الموضوع المراد تناوله. تقول الرواية شبه الرسمية الإسرائيلية إن رئيس الحكومة الإسرائيلية آنئذ، إيهود باراك، لم يفرض على الجيش الإسرائيلي الانسحاب الأحادي الجانب من جنوبلبنان فحسب، وإنما منع الجيش كذلك من"ترميم السياج الإلكتروني للحدود الدولية". وكان تبريره لذلك هو أن الانسحاب سيتم وفقاً لاتفاق. وقد كان قائد هيئة أركان الجيش في ذلك الوقت، شاؤول موفاز، من أشدّ المعارضين لهذا الانسحاب. وعلى خلفية وقائع الإعداد للانسحاب من لبنان، الذي لم يتم في نهاية المطاف بحسب اتفاق كما وعد باراك، وما أبرزته تلك الوقائع من خلل في العلاقة بين المؤسستين السياسية والعسكرية، صرف موفاز جلّ اهتمامه لتحضير الجيش الإسرائيلي لپ"المواجهة القادمة"، التي كان هو نفسه يتوقع اندلاعها مع الفلسطينيين، وذلك قبل نحو عام من تفجّر الانتفاضة الثانية، على رغم أن طلبه بزيادة الموازنات المخصصة لهذا التحضير جوبه بالرفض من باراك. غير أن الانتفاضة الثانية أبرزت، بصورة جوهرية، ما يسميه المعلق العسكري الإسرائيلي عوفر شيلح"الاقتضاب القائم في وظيفة وزير الدفاع". فإن هذه الوظيفة تكاد تكون معدومة عملياً، برأيه. صحيح أنه كان هناك في تاريخ إسرائيل وزراء دفاع أقوياء، مثل إسحق رابين، لكن عموماً فإن وزراء الدفاع فيها ضعفاء جداً. وهذا الضعف يبرز لدى حصول"مواجهة منخفضة الكثافة"تكون فيها خطوط اتصال مباشرة ليس فقط بين رئيس الحكومة وقائد هيئة أركان الجيش، وإنما أيضاً بين رئيس الحكومة وقائد سلاح الجو ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أمان ورئيس وحدة الأبحاث وحتى آخر القادة الميدانيين. ويشير شيلح إلى أن شاؤول موفاز مرّ بپ"تجربة انعدام أهمية وظيفة وزير الدفاع"، عندما انتقل إلى هذه الوظيفة من رئاسة هيئة أركان الجيش العامة وخاض مواجهة مع خليفته في الوظيفة الأخيرة الذي كان نائبه عندما شغلها، الجنرال موشيه بوغي يعالون، على خلفية خطة فك الارتباط عن قطاع غزة في 2005. وهي المواجهة التي انتهت بعدم تمديد ولاية يعالون في رئاسة هيئة الأركان، خلافاً لما هو متبع. وتؤكد مجلة"برلمانت"برلمان الصادرة عن"المعهد الإسرائيلي للديموقراطية"أن الحاجة إلى خبرة عسكرية مطلوبة من وزير الدفاع تعود إلى أهمية الموضوع الأمني وتعقيد القضايا الأمنية في إسرائيل، في حين يذهب البعض إلى أنه من غير المفترض بوزير الدفاع أن يقوم بدور القائد الأعلى لهيئة الأركان العامة، وإنما تُلقى على كاهله مهمات ووظائف لا تختلف من حيث الجوهر عن مهمات وزارات أخرى. والنقاش بين الجهتين يعكس، عملياً، الخلاف حول وظيفة وزير الدفاع: هل وظيفته أن يكون مسؤولاً عن الهيئة المدنية التي تراقب الجيش أم أن وظيفته محدّدة في إدارة الجيش؟. إذا كانت وظيفته هي الأولى فمن المفضل أن يكون وزيراً ذا خلفية مدنية، لأن إنساناً ذا ماض عسكري سيجد صعوبة في مراقبة الجهاز الذي خدم فيه في الماضي غير البعيد. في مقابل ذلك إذا كانت وظيفته هي إدارة الجيش فمن الأفضل أن يكون إنساناً يعرف الجهاز في أدق تفصيلاته. تجدر الإشارة إلى أنه لدى إقامة إسرائيل في 1948 قرر رئيس الحكومة الأول، دافيد بن غوريون، نمطاً يكون رئيس الحكومة بموجبه محتفظاً بحقيبة وزارة الدفاع. واستمر هذا النمط 19 عاماً متواصلة. غير أن تعيين موشيه ديان في منصب وزير الدفاع، عشية حرب حزيران يونيو 1967، شكل نقطة انعطاف في هذا النمط من ناحيتين: الأولى، ناحية الفصل بين وظيفة رئيس الحكومة ووزير الدفاع. والثانية، ناحية تعيين شخص ذي ماض عسكري كبير لوظيفة وزير الدفاع. ومنذ هذا التعيين أصبحت"سابقة ديان"هي النمط السائد. ومن الناحية الإحصائية انعكس الأمر في أن قادة سابقين كباراً في الجيش الإسرائيلي شغلوا وظيفة وزير الدفاع خلال ثلاثة أرباع الفترة التي انقضت منذ 1967، في موازاة ظاهرة دخول العسكر معترك العمل السياسي بعد اعتزالهم نشاطهم العسكري. عند هذا الحدّ لا بد من استعادة بعض التساؤلات الرئيسة، التي طفت على سطح الجدل الإسرائيلي في شأن هذه المسألة، وذلك على النحو التالي، مع مراعاة أن الصياغة هي في الأصل لباحثين إسرائيليين، بصورة قد تبدو معها بعض المفردات غير مستساغة للأذن العربية: 1- تعيش إسرائيل، كدولة تقبع في صراع مستمر، حالة خاصة. فمن جهة، ينتخب المواطنون فيها ممثليهم للكنيست البرلمان الذي يشكل سلطة سيادية تخضع لها الحكومة، فيما يخضع الجيش لهذه الأخيرة. ومن جهة أخرى، فإن واقع الصراع المستمر بل والعنيف أحياناً، يتطلب إعطاء الجيش حرية العمل حتى يتمكن من توفير"السلعة"أو النتيجة التي ينشدها الجميع ألا وهي الأمن القومي والشخصي. لذلك فإن مسألة الأمن تحظى غالباً بأولوية على المسائل الأخرى. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: كيف يمكن الإبقاء والحفاظ فترة طويلة على مجتمع ديموقراطي في ظل وضع يتمتع فيه الجيش، الذي يعتبر بطبيعته وبحسب تعريفه جهازاً غير ديموقراطي، بمثل هذه المكانة الرفيعة؟. 2- ثمة سؤال آخر يتعلق بإمكان الفصل بين المؤسستين، المدنية والعسكرية: أين يمرّ ذلك الخط الرفيع، المتعرّج، الذي يفصل بين المؤسسة المدنية والمؤسسة العسكرية؟ هذا السؤال يكتسب، خصوصاً في إسرائيل التي يجرى الانتقال فيها بين المؤسستين في شكل سريع ومتواتر، أهمية استثنائية. وتطرح أسئلة من قبيل: كيف يجب التعامل مع شخص انتقل من المؤسسة العسكرية إلى المؤسسة المدنية؟ هناك توجه يقول بأن التجربة هي التي تصنع الإنسان وتصوغه، ومن هنا فإن الإنسان العسكري يبقى حتى بعد انتقاله إلى المؤسسة المدنية، عسكرياً في توجهه، أو كما يقال"العسكري يبقى عسكرياً طوال حياته". إذا ما أخذ بهذا الرأي أو التوجه، فلا شك في أن له مغزى بعيد الأثر في ما يتعلق بإسرائيل، وذلك لأن الانتقال المستمر والواسع النطاق لكبار ضباط الجيش إلى مواقع القيادة السياسية إنما يدل على عملية عسكرة السياسة في إسرائيل. 3- يتعلق سؤال ثالث في ما إذا كان الجيش هو الذي"يتسلل"إلى مجالات ليست من اختصاصه، سعياً إلى زيادة نفوذه، وما إذا كانت المشكلة ليست نابعة من القوة النسبية للجيش، وإنما بالذات من الضعف النسبي للمؤسسات المدنية في إسرائيل. وهو ضعف يترك فراغاً في الساحة يشجّع المؤسسة العسكرية على التحرك لملئه. في الظاهر يبدو برأي البعض أن الإمكانية الثانية - والسؤال يبقى مفتوحاً - تفسّر الواقع في إسرائيل بصورة أفضل. إذا كانت الأمور على هذا النحو بالفعل، فهذا يعني أن مفتاح تصحيح نظام العلاقات بين المؤسستين المدنية والعسكرية في إسرائيل لا يتمثل في فرض قيود على المؤسسة العسكرية فقط، وإنما أيضاً في تقوية وتعزيز المؤسسات والهيئات المدنية. يمكن القول إن هناك حاجة إلى نوع من"التمييز التصحيحي"بغية دعم وتقوية هيئات التقويم المدنية، المتمثلة في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي، لأن ضعف هذه الهيئات، وعدم وجود هيئة مدنية قادرة على تنفيذ المهمات تحليل الواقع وبلورة وتنفيذ السياسة، يجعل المهمة ملقاة على عاتق الجيش. وبالإمكان أن نجد مثالاً بارزاً على ذلك في مداولات المجلس الوزاري المصغّر للشؤون الأمنية والسياسية الكابينيت التي سبقت انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان في أيار مايو 2000. ففي أعقاب إحدى هذه المناقشات تردّد حديث بين جزء من أعضاء المجلس الوزاري، والذي سرعان ما سرّب بطبيعة الحال إلى وسائل الإعلام، مفاده أن"الجيش يسعى إلى بث الخوف والرعب بيننا". والمقصود بذلك أن الجيش مارس التخويف والترهيب على المجلس الوزاري المصغّر في تحليل الواقع، وتقدير النتائج التي ستترتب على الانسحاب الإسرائيلي من لبنان. ويمكن بطبيعة الحال التساؤل في شأن ما الذي جعل الجيش يتصرّف على هذا النحو، بيد أن السؤال الأهم هنا هو: لماذا لم يتلق المجلس الوزاري المصغّر تقويماً آخر للوضع من طرف جهة أو هيئة أخرى، مدنية؟ أين كانت وزارة الخارجية؟ وأين كان مجلس الأمن القومي الإسرائيلي؟ وهل توجد لدى وزارة الدفاع التي تعتبر في الواقع، خلافاً للجيش، جزءاً من المؤسسة المدنية، هيئة تفكير قادرة على تقديم تقديرات أخرى مختلفة عن تقديرات الجيش؟ في ظل عجز وزارة الخارجية عن تقديم بديل، واستمرار مراوحة"مجلس الأمن القومي"في ضعفه، وفي ظل عدم وجود هيئة للتفكير وإعداد التقديرات في وزارة الدفاع منذ حلّ"وحدة الأمن القومي"عقب حرب لبنان الأولى في 1982، فإنه لا عجب إذن في وجود عسكريين ضمن أطقم رسم السياسة وتنفيذها. 4- إن إثارة هذه التساؤلات يمكن أن تشكل قاعدة وأساساً لنقاش ضروري مؤجّل حول موازين القوى القائمة والمرغوبة بين المؤسسة المدنية والمؤسسة العسكرية في إسرائيل. إنّ أحد الأسئلة الصعبة وربما الأكثر حساسية هو: هل في إمكان المؤسسة المدنية في إسرائيل ممارسة رقابة ناجعة على المؤسسة العسكرية؟. "الساسة أسرى الجنرالات" يرى رؤوبين بدهتسور أنه إذا كان في الإمكان أن نتعثر في الدول الديمقراطية كافة"بوجود تبعية ما من جانب السياسيين للجنرالات ووجود محاولات لتخفيف وطأتها، ففي إسرائيل لا يقتصر الأمر على التبعية فحسب، ذلك أن السياسيين مأسورون من جانب الجنرالات". ويتابع: إن عملية بلورة سياسة الأمن القومي خاضعة عملياً للجيش وجهاز الأمن. وفي ظل انعدام منظمات التخطيط في مجال الأمن القومي خارج الجيش فإن أساس عمليات التخطيط، على المستوى الإستراتيجي- السياسي، لا على المستوى الفاعل والتكتيكي فقط، يدور في أروقة الجيش. والنتيجة هي أن الاعتبارات العسكرية أصبحت مركزية، وأحياناً حتى أكثر من الاعتبارات السياسية."وهكذا أضحت منظومة علاقات إسرائيل الخارجية مستندة في الأساس إلى مفهوم القوة، الذي يمنح أولوية للاعتبارات العسكرية على الاعتبارات الدبلوماسية. وهذا الأمر، وحده، يمنح رئيس هيئة الأركان العامة نفوذاً سياسياً كبيراً". إن الحكومة والكنيست لا يتدخلان عادة في عمل جهاز الأمن، الذي يحظى باستقلالية شبه مطلقة في بلورة السياسة بدءاً بموضوعات مثل حجم وتركيبة موازنة الأمن وانتهاء حتى بتخطيط الحروب. ويوضح بدهتسور أن هذا الأمر بدأ في أيام دافيد بن غوريون، الذي عارض بناء منظومة ممأسسة من المراقبة المدنية على الجهاز الأمني. كما عارض بن غوريون إنشاء لجنة وزارية لشؤون الأمن. ووافق على إنشائها فقط عام 1953 ولكنه لم يشركها في عملية إقرار السياسة الأمنية. وفعلياً فإن جهاز الأمن هو الذي بلور سياسة إسرائيل ولم يعرضها دائماً على الحكومة من أجل المصادقة عليها. وعن ذلك قال رئيس الحكومة الثاني موشيه شاريت:"تحصل أشياء في مجال الأمن لا تصل إلى علمي. أسمع بيانات في إذاعة إسرائيل وأقرأ بعد ذلك في الصحف من دون أن أعرف عن خلفيتها الحقيقية". وقد عنى شاريت تحديداً"عمليات الانتقام"التي نفذها الجيش الإسرائيلي في خمسينات القرن الماضي، والتي لم يتم إحاطة رئيس الحكومة علماً ببعضها. وإسرائيل، خلافاً لكل الديموقراطيات الأخرى، تتميز بالغياب المطلق تقريباً للرقابة البرلمانية على جهاز الأمن. لا توجد دولة ديموقراطية أخرى في العالم تعمل فيها المؤسسة العسكرية - الأمنية بصورة ذاتية كاملة من دون أن تكون هناك محاولة، ولو شكلية، لمراقبة ما يحدث فيها. هذا الشيء يحدث في قضايا الموازنة الأمنية والدفاعية وهيكلية الجيش وتطوير الأجهزة القتالية وشراء المعدات العسكرية والنظرية القتالية ورواتب الجنود النظاميين وتعيين الضباط الكبار وغيرها من القضايا ذات التأثير الحاسم على مستقبل الدولة وهيكلية الاقتصاد وشخصية المجتمع. وفي غياب الرقابة الخارجية من غير الممكن منع حدوث أخطاء تؤدي إلى اخفاقات وإنفاقات مالية على تطوير أجهزة قتالية غير ضرورية، ومن غير الممكن مراقبة الموازنة الأمنية التي تقضم جزءاً كبيراً من الموازنة العامة بنسبة تفوق مثيلاتها في كل الدول الغربية ببضعة أضعاف. ومن الأمثلة على ذلك قول رئيس الكنيست السابق دان تيخون، في تحليل جيّد للمعضلة، عندما كان عضواً في لجنة الخارجية والأمن:"أنا أسأل نفسي دائماً هل توجد رقابة مدنية ملائمة على الجيش وجهاز الدفاع، فأستنتج بأنها غير قائمة... إنّ هذا الأمر يتحمل مسؤوليته أعضاء الكنيست الذين اعتادوا التغطية على كل حادثة تُلم بهذا الجهاز". وذات مرّة أوضح عضو الكنيست يسرائيل كرغمان، الذي كان رئيساً للجنة المالية البرلمانية:"نحن مضطرون للاعتماد على هيئة الأركان العامة طبعاً". وأردف"إنّ هذا يتم بالأساس عندما تقول لنا هيئة الأركان إن هناك حاجة الى إضافة صواريخ أو دبابات... لأننا لا نفهم في هذه المسألة أصلاً". ومع أن بضعة عقود قد مرّت منذ فترة تولي كرغمان منصبه المذكور، إلا أن كل خلفائه في المنصب ما زالوا يسيرون على النهج نفسه. * باحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - مدار حالات لم يستجب فيها رئيس الحكومة تعليمات الجيش منذ إقامة إسرائيل يمكن الإشارة إلى أربع حالات فقط صاغ فيها رئيس الحكومة سياسة لم يقترحها الجيش، بل لم يكن هذا الأخير موافقاً عليها. هذه الحالات هي: 1- في عام 1977 قرّر مناحيم بيغن توقيع اتفاق سلام مع مصر، ثمنه الانسحاب من سيناء. وقد عارض ذلك قادة الجيش. لكن بيغن حظي بدعم وتأييد وزير الدفاع، عيزر وايزمن ووزير الخارجية، موشيه ديان، وكلاهما جنرال سابق. 2- في عام 1993 قرر إسحق رابين، وهو رئيس هيئة أركان عامة سابق، أن يتبنى اتفاقات أوسلو خلافاً لموقف الجيش. 3- في عام 2000 سحب إيهود باراك، وهو رئيس هيئة أركان عامة سابق أيضاً، الجيش الإسرائيلي من لبنان على رغم المعارضة الصارخة والعلنية من قبل قيادة الجيش وعلى رأسها رئيس هيئة الأركان العامة، شاؤول موفاز. 4- في عام 2005 قرر آرييل شارون، وهو جنرال سابق، تنفيذ خطة الانفصال والخروج من غزة على رغم أن رئيس هيئة الأركان العامة، موشيه يعالون، وكبار ضباط الجيش، عارضوا الخطة. باستثناء هذه الحالات فإن قرارات الحكومة المتعلقة بمجال الأمن كانت مستندة إلى الاقتراحات التي عرضها الجيش الإسرائيلي على طاولة رئيس الحكومة. وهذا هو ما حصل أيضاً بالنسبة الى حرب صيف 2006 على لبنان. ويقتبس بدهتسور عن يغئال ألون، الذي يصفه بأنه أحد السياسيين الإسرائيليين القلائل الذين"حاولوا أن يؤثروا على صوغ سياسة الأمن القومي وأن يواجه مشكلات الأمن لا بوسائل عسكرية فقط"، أقوالاً نطق بها في ستينات القرن العشرين وجاء فيها:"إنّ ضرورة الدفاع عن البلاد أمام العدوان والمصادمات العسكرية على الحدود والمنجزات العسكرية والتدريبات الجماهيرية"الاستعراضات في ساحات المدن، إنّ كل هذه الأمور توجد جواً يحمل في أحشائه أخطاراً اجتماعية وأخلاقية شديدة. إنّ خطر تفشي العسكرة الشوفينية والفظّة هو خطر عيني في إسرائيل... إنه خطر تمدّن من مدني المغامرات تجاه الخارج، وسيطرة الاتجاهات المعادية للديموقراطية تجاه الداخل. إنّ كينونة السلاح تحمل معها خطر فقدان قيم اجتماعية وأخلاقية وثقافية إلى درجة طمس شخصية الشعب كمجتمع متنوّر... هذه الأشياء تناسب جميع المواطنين والشبان، مثلهم مثل أفراد الجيش الذين من شأنهم أن يتعطروا لمجرّد سحر لمس السلاح". قانون الجيش في إسرائيل كانت"لجنة أغرانات"، التي حققت في نتائج حرب أكتوبر تشرين الأول 1973، قد توصلت إلى خلاصة مفادها أن جزءاً من الاخفاقات، التي أدت إلى النتائج الكئيبة للحرب، ناجم عن انعدام تعريف واضح لوظيفة وزير الدفاع ومكانته بالنسبة الى رئيس الحكومة ورئيس هيئة الأركان العامة. وفي ضوء توصيات اللجنة الداعية إلى إرساء مكانة وزير الدفاع بالنسبة الى رئيس هيئة الأركان العامة ورئيس الحكومة أقرّ عام 1976"قانون أساس: الجيش"، والذي تمّت صياغته على الوجه التالي: المضمون: 1- جيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش الدولة. خضوع للسلطة المدنية: 2- أ الجيش يخضع لسلطة الحكومة. ب الوزير المسؤول من طرف الحكومة عن الجيش هو وزير الدفاع. رئيس هيئة الأركان العامة: 3- أ المستوى القيادي الأعلى في الجيش هو رئيس هيئة الأركان العامة. ب يخضع رئيس هيئة الأركان العامة لسلطة الحكومة ويتبع وزير الدفاع. ج يعيّن رئيس هيئة الأركان من جانب الحكومة بحسب توصية وزير الدفاع. واجب الخدمة والتجنيد: 4- يكون واجب الخدمة في الجيش والتجنيد بموجب ما نصّ عليه القانون أو بحكمه. التعليمات والأوامر في الجيش: 5- تتحدّد الصلاحية بإصدار تعليمات وأوامر ملزمة في الجيش في القانون أو وفق ما ينصّ عليه. قوات مسلحة أخرى: 6- لا يجوز إقامة أو الاحتفاظ بقوة مسلحة خارج إطار جيش الدفاع الإسرائيلي إلاّ في نطاق قانوني. بحسب أحكام هذا القانون فإن وزير الدفاع يتحمل مسؤولية وزارية عما يجري في الجيش ويحق له أن يصدر أوامر إلى أفراد الجيش عبر رئيس هيئة الأركان العامة فقط. غير أنّ القانون أبقى هالة من الغموض تحيط بمكانة وزير الدفاع الدقيقة وصلاحياته. وعلى هذه الخلفية أصبحت وظيفة وزير الدفاع في إسرائيل تحدّد كنتيجة لتوازن القوى بين رئيس الحكومة وبين وزير الدفاع. عندما يحوّل الأول صلاحيات للثاني تتسع وظيفة هذا الأخير. لكن عندما يكون رئيس الحكومة معنياً بأن يكون متدخلاً في كل ما يحصل في الجيش، فإنه يلتف على وزير الدفاع بواسطة تفعيل الجيش عبر رئيس هيئة الأركان العامة.