كان الشاعر غيوم آبولينير، من أوائل الذين شجعوا فن بابلو بيكاسو حين كان هذا لا يزال في سنوات بداياته وقد وصل الى باريس لتوه من اسبانيا. في ذلك الحين كان آبولينير ناقداً فنياً مرموقاً بمقدار ما كان شاعراً، وكانت كتاباته تصنع فنانين وتهبط بآخرين. من هنا أحس بيكاسو أن لآبولينير عليه ديناً كبيراً، وهكذا حين حل عام 1927، وأرادت"جمعية أصدقاء آبولينير"أن تخلد الذكرى العاشرة لوفاة هذا الأخير، كان من الطبيعي لها أن تطلب من بيكاسو تحقيق عمل فني يليق بالمناسبة. وكان من المفروض أن يوضع هذا العمل فوق قبر آبولينير في مقبرة الأب لاشيز الباريسية. من فوره قبل بيكاسو القيام بالمهمة وقدم مشروعاً مستوحى من منحوتة لبرانكوزي كان قد تأملها ملياً، منذ عام 1910، فوق قبر في مقبرة مونبارناس. كانت هذه المنحوتة، لسبب ما تصور عاشقين منخرطين في قبلة، ومن هنا حملت المنحوتة، ولا تزال، اسم"القبلة". غير ان ما كان رومانسياً عفيفاً يليق بالمقبرة وقداستها، لدى برانكوزي، صار لدى بيكاسو قبلة عنيفة وإباحية. كان من الواضح ان بيكاسو يتعمد أن يكون عمله الفني استفزازياً استفزازية فنه في شكل عام، ولكن أيضاً استفزازية شعر غيوم آبولينير وحياته. غير ان لجنة تخليد ذكرى هذا الأخير رفضت المشروع الأول ثم الثاني فالثالث، وكانت كلها مشاريع، تنطلق من الرغبة الاستفزازية نفسها، ولكن مع تخفيف في كل مرة عن المرة السابقة. ولكن في نهاية الأمر وعلى رغم تعدد الاقتراحات التي قدمها بيكاسو من حول الموضوع نفسه، رفضت فكرة القبلة من أساسها. ولما كان بيكاسو مصرّاً، في الأحوال كافة على أن يحقق العمل بنفسه، لم يسأم الرفض المتكرر ولم ييأس، بل قرر ان يبدل كلياً من جوهر المشروع، وهكذا انطلق في فكرة جديدة، ضمن تيار فني مختلف، يسير بخاصة على خطى مشروع كان النحات طاطلين، قد وضعه لتمجيد ذكرى مؤتمر الأممية الثالثة. وهكذا ولد هذا العمل الذي أنجز عام 1928 ويحمل عنوان:"تشكيل مشروع نصب من أجل آبولينير". يتألف هذا العمل - المشروع - المعروض الآن في متحف الفن الحديث في مركز جورج بومبيدو الباريسي، من جسم معدني يبلغ ارتفاعه 37.5 سم، وعرضه 10سم، وسماكته 19.6 سم. وهو، إذ يراه المشاهد للمرة الأولى، لن يبدو أبداً عملاً منتمياً الى فن بيكاسو، بقضبانه المعدنية... غير أن تأملاً عميقاً له، سيربط بينه وبين الكثير من لوحات بيكاسو ومنحوتاته الأخرى. إذ مهما كانت"بنائية"التوجه العام للمنحوتة، سيتبدى بسرعة ارتباطها عن كثب بالفن التكعيبي، إن جاز لنا القول، وفي هذا الإطار الازدواجي أيضاً، يبدو عمل بيكاسو قريباً جداً من أعمال طاطلين، وربما أيضاً من لوحات ماليفتش، مع اطلالة على نزعة"آرديكو"التي كانت تعيش ارهاصاتها في ذلك الحين. لم يحقق بيكاسو"المشروع"بنفسه طبعاً، بل هو رسمه ثم عهد الى الكاتالوني خوليو غونزاليس بتنفيذه، وكان هذا معروفاً في ذلك الحين بكونه واحداً من أشهر الحدادين الفنانين في أوروبا. ولقد نفذ غونزاليس من فوره، نموذجين استخدم في تحقيقهما قضباناً حديدية رفيعة، انطلاقاً من التصميم الأول الذي وضعه بيكاسو. وكان من الواضح أن بيكاسو انما يرمي من خلال هذا العمل الى ان يحقق في الحيز المكاني، ما كان يقترحه في لوحاته التكعيبية نظرياً: أي تحقيق رسم يرى في أبعاد ثلاثة. نعرف ان هذا هو المبدأ الأساس للفن التكعيبي الذي كان جوهره تصوير الشكل طولاً وعرضاً وعمقاً على سطح اللوحة الواحد، ما يشي بإلغاء الفوارق بين المكان والزمان، بحيث تشاهد الأمكنة جميعاً، في زمن واحد. طبعاً، من الناحية العملية، لا تنطبق هذه الرغبة على المنحوتة التي هي تنفيذ لحلول الأبعاد المكانية الثلاثة في الحيز الذي يشغله العمل. غير ان ما أصرّ عليه بيكاسو هنا انما كان، جعل العمل الفني يتخذ شكل الرسم لا شكل المنحوتة - التمثال أو المجسم - حين يشاهد للمرة الأولى. وهذا ما حققه بالفعل هذا المجسم النموذجي الذي صاغه غونزاليس من قضبان الحديد، في شكل بدا متلائماً، كل التلاؤم مع مصدر الإلهام الجديد، الذي توصل اليه بيكاسو منذ ذلك الحين، وسيواصل العمل ضمن إطاره طوال سنوات تالية، في عشرات المنحوتات والمجسمات التي حققها، جاعلاً منها مصدراً لضياع المشاهد بين ان يحس نفسه متفرجاً على لوحة أو متفرجاً على منحوتة. هذا من ناحية الشكل، غير ان هذا العمل الفني لم يكن شكلاً فقط، بل كان موضوعاً أيضاً، ذلك ان بيكاسو استند في تصميمه للعمل الى مقطع من نص لآبولينير، هو"الشاعر القتيل اغتيالاً"... وهو نص نثري، حتى وان كان موضوعه شاعرياً، كتبه آبولينير عام 1916، ليروي فيه حياة"كرونيامانتال"الذي انتهى ضائعاً وسط زحام جماهير قتلته بالدوس عليه. طبعاً لا وجود حقيقياً لهذا الشاعر، لكن آبولينير اخترعه كي يحكي من خلاله مصير نوع معين من الشعراء الملعونين. ولقد ذكر آبولينير، في نصه وتحديداً في الفصل الثامن عشر منه ان نصباً يجب أن يقام لذكرى ذلك الشاعر القتيل. وبيكاسو، تبنى بالتالي، ذلك المطلب، إذ وجد انه ينطبق أيضاً، وبخاصة، على آبولينير نفسه. ومن هنا حين وجد نفسه أمام ضرورة اتخاذ القرار بالشكل الذي يتعين أن يتخذه المشروع راح يتساءل:"أجل يجب أن ينصب تمثال للشاعر. ولكن أي نوع من التماثيل؟ مم سنصنعه؟ من الرخام؟ من البرونز؟ أبداً... كل هذا سيبدو عتيقاً جداً". في النهاية جاء قرار بيكاسو: أجل يجب أن أنحت تمثالاً له... وسيكون تمثالاً عميقاً من لا شيء. تمثالاً للاشيء، تماماً كما هي حال الشعر، كما هي حال المجد... أما الجواب فكان: تمثال من لا شيء... من الفراغ؟ عظيم، ولكن متى سننحته؟ نحته بيكاسو، إذاً، عام 1928... معطياً اياه سمة الاستجابة الوفية لما كان آبولينير نفسه طلبه وهو قال دائماً انه، إذ فعل، جسّد وأحيا هذا العمل اللامادي، الذي كان آبولينير هو الذي تخيله. ولكن بيكاسو، انطلاقاً من هذا العمل الذي عزاه الى آبولينير، أوجد أسلوباً جديداً لإبداعه الفني سيعود اليه مرات ومرات خلال حياته ومساره المهني، جاعلاً منه علامة نشاط جديد له...". والحقيقة ان هذا كله لم يكن لا غريباً ولا مفاجئاً من بابلو بيكاسو 1881 - 1973، الذي لم يفوّت طوال حياته، جديداً إلا وتبناه، ولم يكتشف أسلوباً خفياً إلا واتبعه، الى درجة ان التجديد الدائم كان سمة أساسية، ليس من سمات فنه فقط، بل من سمات حياته وارتباطه بالعالم أيضاً. وبيكاسو كان تجديدياً منذ نعومة أظفاره، لا يستقر على شيء إلا ليسعى لاحقاً وبسرعة الى تجاوزه. وهو بهذا تمكن من أن يجعل من نفسه فنان القرن العشرين من دون منازع، جاعلاً طيفه العريض، يخيم على الحياة الفنية لعصره، متبنياً ومطوراً كل الأساليب الفنية، بل حتى الفكرية، التي ما ان يجدها طازجة لدى زملائه أو أساتذته، أو حتى تلاميذه، حتى يستحوذ عليها محدثاً فيها، في غالبية الأحيان ثورة تبدلها تماماً مدخلة إياها العصر من بابه العريض، بعد أن تكون قد دخلت العصر، أولاً، بشيء من الخجل على يد الآخرين. وما حكاية هذا النصب المكرس لذكرى آبولينير، سوى المثال الأسطع على هذه الممارسة التي كان تلذّ بيكاسو، أكثر من أي ممارسة فنية أخرى. [email protected]