لم يعش غيوم ابولينير سوى ثمانية وثلاثين عاماً، ومع ذلك عرف ذلك "الطفل النابغة" حسب تعبير ماري لورنسين، و"ذلك الملك غير المتوج للثقافة وللنقد الفني"، حسب تعبير بابلو بيكاسو، عرف كيف يحدث رجة عميقة في دوائر الفن والأدب في فرنسا. ربما لا يكون ابولينير بالنسبة الى الشرطة الفرنسية سوى فرنسي من أصل أجنبي اتهم ذات يوم بمحاولة سرقة لوحة الموناليزا، وربما لم يكن بالنسبة الى المهاجرين الروس سوى العشيق المفترض لسيدة روسية الأصل والأب غير الشرعي لابنتها اليزابيث ايرهاردت، التي ستصبح عاشقة الصحراء وتموت في الجزائر لاحقاً، وربما لم يكن بالنسبة الى المجتمع المخملي الفرنسي سوى مغامر أفاق ذي شخصية غريبة ساحرة، لكن ابولينير، بالنسبة الى عالم الفن والأدب هو أكثر من هذا بكثير: انه المؤسس الحقيقي للحداثة الشعرية القصصية، والمساند الأول للحداثة الفنية. فلئن كان الهواة اكتشفوا عند بدايات هذا القرن، لوحات بيكاسو وبراك وخوان غري فاندهشوا بها، فإن جزءاً أساسياً من الفضل في هذا يعود الى ابولينير الذي لعب دوره كناقد فني، بشكل كامل وساهم بذلك في خلق تيار بأسره. أما السورياليون فانهم، بعد رحيل ابولينير بسنوات سيظلون يعتبرونه الأب الشرعي لهم. مهما يكن في الأمر فإن أبولينير كان ابن عصره. كان من أوائل الذين اكتشفوا ان العصر الجديد هو عصر السيارة والتكنولوجيا والسينما والراديو، فكانت دعوته لأن تبذل الكتابة، والفن، كل ما في وسعهما من جهود لمواكبة هذا العصر ومستجداته. ولد أبولينير في العام 1880، وتلقى دراسة عادية، واتجه أول ما اتجه لكتابة الشعر متأثراً بغلاة رمزيي نهاية القرن التاسع عشر من أمثال فرلين وريمبو ومالارميه، وكان من شأنه ان يصبح على غرارهم شاعراً رمزياً مطبعاً رمزيته بشيء من الرومانسية، لولا أن بداية القرن العشرين فاجأته بجديدها. ولولا انه اكتشف ابتداء من العام 1903، تلك الحلقة الفنية المؤلفة من رسامين، معظمهم أجانب مقيمون في فرنسا، كانوا هم في طريقهم لأن يصبحوا طليعة الحياة الفنية الفرنسية. وإذ جاء تعرف ابولينير على هؤلاء، وفي مقدمتهم بيكاسو وبراك، بالتواكب مع ارتباطه بالكاتب المسرحي العبثي الفريد جاري صاحب "اوبو ملكا"، انقلبت حياة صاحبنا بأسرها، وأدرك ان الرمزية انتهت، وكذلك انتهى الفصل بين الفن والكتابة. فالرسم الجديد، التكعيبي خصوصاً، هو شعر أيضاً وشعر مميز. ومن هنا تمازجت لديه ضروب الابداع تلك وبدأ يكتب النقد ويتابع الحياة الفنية الجديدة بالنقد والتحليل. وفي الوقت نفسه راح يمارس، ويدعو الى، نوع من الشعر والكتابة التكعيبيين، وفيهما تتجاور الأفكار والتعابير في دعوة للقارئ لكي يقيم توليفا يشارك عبره الشاعر والكاتب ابداعه. بالنسبة الى ابولينير كانت تلك هي لغة العصور الجديدة. ومن هنا ما يقال دائماً من أن هذا الكاتب والشاعر والمغامر الافاق قد رجّ الحياة الثقافية بأفكاره الرديكالية حول "دور الأدب" وحول تفوق الحقيقة على الجمال. بالنسبة اليه - وعلى عكس الرمزيين، معلّميه القدامى، لا معنى للفن ان لم يكن حقيقياً. وهذا الشعار هو الذي جعل الكثيرين يعتبرونه على الرغم من صغر سنه، الوالد الشرعي للجماليات الجديدة، تلك الجماليات التي راحت - على لسان ابولينير - تطالب الشعر بأن يسبر اغوار كافة سمات الحياة والحقيقة، ويعبر عنها بلغة معاصرة، حديثة ومفهومة. كان ابولينير مؤمناً بأن على الشعر أن يستغل الأفكار الجديدة لكي يتماشى مع العالم الحديث. والعالم الحديث كان بالنسبة اليه عالماً تواكب فيه الفنون. وكان يرى خصوصاً ان فن السينما الذي يجمع الفنون كافة، سيكون له شأن كبير مع مرور الزمن. لقد عرف غيوم ابولينير كشاعر وكاتب قصص وكاتب مسرحيات أيضاً واحدة من مسرحياته وعنوانها "حلمات ترزياس" لا تزال تعتبر حتى الآن أول مسرحية سوريالية، لكنه اضافة الى ذلك كله، كتب ايضاً المئات من المقالات النقدية وفي كافة الفنون، ولا سيما في الفن التشكيلي حيث تدين له الحياة الثقافية، حتى اليوم، بأفضل ما كتب عن التكعيبيين. واضافة الى ذلك، أيضاً، ترجم ابولينير العديد من النصوص وكتب مقدمات كتب. كان يكتب كثيراً وبكثافة وسهولة، وفي كل مكان، بما في ذلك خنادق الحرب العالمية الأولى التي خاضها مجندا واصيب خلالها بجرح في رأسه ما أن شفي منه حتى اصابته انفلوانزا اسبانية عنيفة سرعان ما قضت عليه يوم التاسع من تشرين الثاني نوفمبر 1918.