أخيراً معرضٌ استعادي للنحات الإسباني الكبير خوليو غونزاليس 1876-1942. ونقول أخيراً لأنه، على رغم تزايُد الاهتمام بهذا الفنان في السنوات العشر الأخيرة، لا تزال انجازاته الفنية المهمة غير معروفة بالقدر الذي تستحقّه. أبو المنحوتة الحديد بلا منازع وأحد أبرز وجوه الفن الحديث في مطلع القرن العشرين، خلّفت أعماله أثراً عميقاً في المنحوتة المعاصرة، وفي شكلٍ خاص في أولئك الذين برعوا في ممارسة فن النحت على الحديد وفي مقدمهم بيكاسو. المعرض الحالي الذي ينظّمه مركز بومبيدو باريس يتألف من مئتي عملٍ فني تتوزع بين لوحة ومنحوتة ورسم إعدادي، وتستحضر المراحل الرئيسة في مسار غونزاليس العمودي: اللوحات التصويرية الأولى التي حققها في أسلوبٍ كلاسيكي تحت تأثير الفنان الفرنسي بوفي دو شافان، مجموعة من المنحوتات الحديد الضخمة من فترة الثلاثينات، الرؤوس المأسوية والوجوه المجازية التي أنجزها خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، إلى جانب وثائق وصور فوتوغرافية تسمح بإعادة تشكيل مسار حياته. ولعل الانجاز الأول والأهم في عمل غونزاليس النحتي هو إدخاله مفهوم"الرسم داخل الفضاء". ومصادر هذا المفهوم كثيرة ومختلفة، أولها تأثّر غونزاليس بأسلوب رسم بيكاسو، ثم تعاون هذا العملاق معه لتحقيق منحوتات كثيرة أبرزها الصرح الذي خُصِّص للشاعر أبولينير 1928. لكن الخطوط الحديد التي تتشكّل منها منحوتات غونزاليس تندرج ضمن سياقٍ دادائي وسرّيالي أوسع من نطاق تعاونه مع بيكاسو، سياقٌ يتوق إلى تحرير طريقة خط الأشياء وإلى خلق فضاءٍ خيالي لا يمكن قياسه، ويتوق أيضاً إلى إدخال أشكالٍ ميكانيكية موجودة أو مُبتكَرة على الرسم الآلي، وإلى تقليص العلامات وشحنها بمعانٍ جديدة، مثل رسوم كورت شفيترز الميكانيكية 1913 ومطبوعات ماكس أرنست 1919 وتفجُّر الفضاء التشكيلي مع خوان ميرو 1925 ورسوم أندريه ماسون الآلية 1926. ووراء تحرير هذه"الكتابات"تقف بلا شك قصائد أبولينير التصويرية calligrammes. أصرّ بعض النقّاد أيضاً على العلاقات التي تربط غونزاليس بالنزعة الصفائية purisme، وعلى اتصاله الأكيد، من خلال صديقه القديم تورّيس غارسيا، بتلك المجموعة المُلفّقة ولكن المهمة لنشر الأفكار التي حملت اسم"التجريد الإبداعي". فهذه التبادلات هي التي سمحت له من غير شك باستيعاب الحركة التكعيبية وتخطّيها من دون المرور بها. وفعلاً، ومن خلال بعض نواحيها، كالطابع العمودي والتشديد على العناصر الدالّة والبنائية، تشكّل أعماله امتداداً للمنحوتات التكعيبية الأكثر إثارة، وتبلغ أحياناً حدّة هندسية عالية. ولا عجب في ذلك طالما أن غونزاليس كان يحب استخدام الرقم الذهبي كقاعدة. وفي بداهة بساطتها وكمال روابطها المتناغمة ودقة تشييدها المتجانسة، تظهر بعض أعماله، مثل"الرأس"1932 و"القناع"1934 و"الرجل الغوطي"1937، كأفضل ما أُنجِز حتى اليوم في مجال المنحوتة الحديثة. والمتأمّل فيها يفهم بسرعة لماذا، وإلى أي حد، طبعت هذه الأعمال جيل النحاتين التجريديين الذي ظهر خلال الحرب العالمية الثانية، مثل إيتوري كولا وإدواردو باولوزّي وروبرت مولر وتانغولي وسيزار وجاكوبسِن في أوروبا، وريشارد شتانكيفيتش ودايفيد سميث في الولاياتالمتحدة. وإذا أضفنا الروابط المتينة التي جمعت غونزاليس بهانز هارتونغ وهنري غوتز، يتجلى أمامنا أيضاً دوره المهم في بلورة حركة التجريد الغنائي التي فرضت ذاتها بعد الحرب مباشرة. صرّح بيكاسو أكثر من مرة عن إعجابه بمهارة صديقه غونزاليس في تطويع الحديد وعما تعلّمه منه خلال فترة تعاونهما. دايفيد سميث أشار إلى وقع أعمال غونزاليس وبيكاسو الأولى على عملية تطورّه وأقرّ بتعلّقه الخاص بمنحوتات الأول. فإلى جانب ذلك"الذكاء الحسي للمواد المستخدمة وللنِسَب والأحجام"الذي استكشفه بنفسه في شكلٍ رائع، اكتشف سميث داخل منحوتات غونزاليس مقدرة النحات على السمو بالمهارة الحِرَفية ولكن أيضاً بالمواد العادية المستخدمة، وبالتالي على التحرر من مفهوم الفن الذي يجسّده فن الرسم la peinture في شكلٍ طاغٍ . نعرف اليوم القيمة التي كان غونزاليس يمنحها لدقة تحقيق منحوتاته وكمالها على المستوى التقني. وهكذا بقي حتى نهاية حياته كحِرَفي مولع بعمله لدرجة لامه البعض أحياناً على هاجس إخفاء فظاظة مواده الأولية بواسطة تحضيرٍ جد متّقَن لمنحوتاته. وفي الحقيقة، سعى الفنان دائماً خلف نُبل المنحوتة ووحدتها وقامتها الشكلية والروحية، بعيداً جداً من افتتان الواقعيين الجدد الذين أتوا بعده بالنفايات ومواد الخردة، أو من توظيف الأشياء المعثور عليها على شكل استعارات، كما فعل بيكاسو وكثيرون سواه. وتشهد على ذلك رسومه الغزيرة والدراسات والتصاميم التي وضعها لمنحوتات لم يُنفّذ إلا جزء قليل منها. فداخل هذه الأعمال التحضيرية، لا نعثر على أي تلميحٍ، بواسطة ملصقٍ أو رسمٍ تمثيلي، لعملية استعادة أشياء ما وإعادة توظيفها. الأمر الثابت الوحيد الذي نلاحظه فيها هو متابعة التقليص الراديكالي للواقع إلى عناصره الأساسية أو إلى علاماته المميّزة. أما الشيء المعثور عليه فلا يُستخدم إلا إذا كان يتناسب مع الشكل الذي يحتاج إليه غونزاليس في عملية تشييده لمنحوتته.