من حق سورية أن تسترد الجولان بكل الطرق، ومن حقها أن توظف كل ورقة في أيديها، كما أن من حقها علينا أن نساندها ضد إسرائيل فالوضع الطبيعي أن تسترد سورية أراضيها المحتلة دون حاجة إلى مماحكات إسرائيلية لأن إسرائيل احتلت الجولان بعمل عدواني لم يسبقه أي استفزاز سوري عام 1967، بل يقال إنها احتلت الجولان بالصدفة ولم يكن ذلك في حسبانها وهي تتلفت في كل اتجاه لزيادة حصيلتها من الأراضي المحتلة بعد أن أذاقت مصر هوان الهزيمة واحتلت كل سيناء عقاباً على تحرش مصر بالقول بإسرائيل من دون قدرة على الفعل أو نية فيه. ولا تستطيع إسرائيل أن تدعي، كما فعلت مع مصر، أنها احتلت الجولان في إطار الدفاع الشرعي عن النفس بعد أن هددت القيادات المصرية صراحة بالهجوم على إسرائيل وحشدت قواتها في سيناء بصرف النظر عن جوانب العبث وانعدام القصد والمسؤولية في هذا العمل، لكنه أعطى إسرائيل ذريعة للحديث عن نظرية الدفاع الشرعي الوقائي. المفاوضات السورية مع إسرائيل تختلف تماماً عن المفاوضات المصرية مع إسرائيل، ذلك أن مفاوضات مصر مع إسرائيل جرت في إطار إستراتيجية مصرية شاملة بتسليم قيادها للولايات المتحدة وأن الاتفاق مع إسرائيل هو القربان لهذه القربى، بل ذهب بعض القادة العسكريين إلى أن حرب تشرين الأول أكتوبر نفسها كانت خطوة للفت نظر واشنطن إلى مشتاق إلى أعتابها، وهو في سبيل ذلك قامر بحرب وضحى بالآلاف، ولكن ذلك كله لا يقلل عندي مما لحرب تشرين الأول أكتوبر من مكانة وإعزاز وقداسة وهي أول مناسبة ينتقم فيها جيشنا لنفسه ممن زجوا به في مذبحة، وأول مناسبة يرغم فيها جيش متغطرس يحرس كياناً غاصباً على تذوق مرارة القتال البطولي حتى قال شارون في مذكراته إنه لم يقلل يوماً من شأن مصر إذا توفرت لديها الإرادة بأية إمكانيات. فالمفاوضات المصرية مع إسرائيل بدأت في إطار برنامج شامل وتصور أشمل جسدته زيارة السادات للقدس وهو يحلم في أن يكسر الثوابت وينافس إسرائيل على قلب واشنطن وهذا يحمد له، ولكنه يكشف عن سطحية تصوره وسذاجته فكان الخط المصري خروجاً عن الخط العربي الذي جاهدت مصر نفسها لوضعه وعاقبت ونددت بكل من فكر في كسره، وكان الهدف من الخط ألا تبدد طاقات العالم العربي وألا يتشرذم أمام إسرائيل. وتفاوضت مصر مع إسرائيل نيابة عن العرب من دون تفويض منهم، واتجهت صوب إسرائيل وهي في ظلال الولاياتالمتحدة ظناً منها بعد القطيعة مع موسكو أنها تزيد في رصيدها لدي واشنطن، وكان القاضي هو كيسنجر على رأس عتاة الصهاينة، وظن السادات أنه مفكر إستراتيجي مثل كيسنجر بل هو فاق زميله الإستراتيجي وحصل على ما لم يدركه، ولم يدرك السادات أنه منح إسرائيل أكبر جائزة لازدهار المشروع الصهيوني ووضع مصر على طريق التدهور والانكماش في الداخل والخارج، فأصبحت إسرائيل بعد ربع قرن هي القوة المسيطرة في المنطقة واضمحلت مكانة مصر في إقليمها، وأدى ذلك إلى تآكل الجسد العربي، فظهر صدام حسين واحتل الكويت، وأخيراً احتلت واشنطن وإسرائيل العراق بمباركة عربية بما في ذلك مصر الحديثة، بل دخلت مصر في علاقات ثلاثية غامضة مع إسرائيل وواشنطن تثير علامات استفهام مخيفة لدى المصريين وغيرهم. هكذا أدى خروج مصر من الساحة العربية إلى استسلام القلاع العربية الأخرى بما في ذلك الفلسطينية، ثم اختفى الاتحاد السوفياتي وأصبحت سورية وحدها، فتعرضت لضغوط إضافية بعد غزو العراق ولم تعد لدى دمشق أوراق عربية، وبقى لها ورقة التحالف مع إيران ودعم المقاومة العربية في العراقولبنانوفلسطين، فدخلت في مواجهة مباشرة مع الطرف الآخر وهو إسرائيل والولاياتالمتحدة، بينما سيطرت واشنطن على الفريق الفاعل في الساحة العربية، فظهرت سورية معزولة في هذا المناخ القاسي، وبدا أن أمامها خيارين: إما الاستسلام والدخول إلى معسكر الاعتدال العربي الموالي للولايات المتحدة المتفاهم مع إسرائيل، أو مقاومة المشروع الصهيوني بكل جوانبه: الإسرائيلي، والعالمي، والأميركي، والعربي. ولما كانت المفاوضات المصرية الإسرائيلية مدخلاً إلى تفكيك الموقف العربي وانتهاكا للقرار العربي الموحد، فإن ذرائع مصر كلها لم تفلح في أن يقاطع العالم العربي مصر عشر سنوات لعلها تعود عما بدأته مع إسرائيل، فكانت تلك التطورات مفيدة لأميركا وإسرائيل لأن خروج مصر أكبر مكسب لإسرائيل والصراع السياسي العربي المصري استثمرته أميركا وإسرائيل أيضاً: فالمعارضة العربية رغم ما لابسها من مؤامرات أميركية، ولم تكن معارضة خالصة للمصلحة العربية العليا، كانت تستهدف خط السلام المنفرد المدمر على مصر والعالم العربي، لأن آثاره تجاوزت مجرد تسوية صراع سياسي وعسكري إلى الإقرار بفشل العالم العربي عن المواجهة وتسليمه بتسيد إسرائيل في المنطقة تحت الهيمنة الأميركية الشاملة. وهكذا أوصلت إسرائيل وأميركا سورية إلى الحائط بعد انسحابها من لبنان وفصم المسارين اللبناني السوري، ولكن سورية قد تضطر في البداية إلى تحديد الأراضي المطلوب الانسحاب منها وهل يشمل الجولان مزارع شبعا كلها أم يبقى جزء منها لبنانياً، كما أعلنت سورية ذات يوم! ويجب أن تلتزم سورية الحذر في هذه النقطة وفي غيرها. ومع ذلك سيتسابق بعض الإعلام العربي في اتهام سورية بالتفاوض السري مع إسرائيل وفي التضحية بالمقاومة وإغفال المسار الفلسطيني. وكأن إسرائيل مستعدة تماماً أن تقدم شيئاً في المسارين، وستتهم سورية بأنها تجاهلت مع إسرائيل الملف اللبناني علماً بأن ثمن الصفقة الإسرائيلية هو التخلي تماماً عن المقاومة في الساحات كافة، رغم أن هذه المقاومة هي التي كفلت لها كل هذه الجاذبية من جانب إسرائيل. والملاحظ أن بعض الإعلام العربي لم يجد نقداً لسورية الآن في لبنان والذي أحزنه أن الحل في لبنان كما قلنا وقالت سورية في يد اللبنانيين، وكان المطلوب فقط أن يتركوا لشأنهم حتى يتفقوا بعد أن أدركوا أنهم وحدهم وقود الفتنة الداخلية. سيقول بعض الإعلام العربي ما تخجل سورية من الرد عليه، وهو أن سورية تربي أبناء غيرها وتستخدمهم ورقة في يدها، فهي ترعي المقاومة العربية في المشرق العربي وهي الواسطة بين هذه المقاومة أو بعضها وبين إيران وأن سورية نفسها ليس لها مقاومة ضد إسرائيل في الجولان، وليسمح لي الأخوة السوريون والناقدون أن أقل إن هذه حقيقة لكنها لا تنال من سورية لأن هناك فرقا بين المقاومة في الساحات الثلاث الأخرى وساحة الجولان. ففي لبنان من المصلحة أن تكون الدولة مقاومة وألا تكون السلطة في جانب والمقاومة في جانب آخر، وفي فلسطين التي تتعرض لمشروع إحلالي استعماري انقسمت السلطة عن المقاومة فتشتت الساحة الفلسطينية. وفي العراق انقسم العراق بين مقاوم للاحتلال الأميركي والهيمنة الإيرانية معاً، وبين مقاوم للاحتلال الأميركي ومهادن للهيمنة الإيرانية وأخيرا بين مرحب بالاثنين معاً إيران وأميركا. أما سورية التي سقطت كل أوراقها الإقليمية بسبب تخلي الساحة العربية أصلاً عن المقاومة لم تعد هذه الساحة جزءا من الحسابات السورية في أي مواجهة وأن إشعال المقاومة من جانب الدولة السورية في الجولان سيضع الدولة في مواجهة مباشرة مع أميركا وإسرائيل في ميزان بالغ الاختلال بين الجانبين وانسحاب الإطار العربي، ولذلك فإن تفهمي كبير لهذا الموقف السوري، يضاف إلى ذلك أن المقاومة العربية في الساحات الثلاث تتم عن طريق حرب العصابات وليس الجيوش المنظمة. سيقول بعض الإعلام العربي إن سورية بمفاوضاتها مع إسرائيل تتخلي عن المقاومة العربية والتزامها اتجاه القضية الفلسطينية، والأقلام نفسها التي تباكت على لبنان من الانقلاب العسكري ل"حزب الله"وتباكت على القضية من"انقلاب حماس"على الشرعية الفلسطينية، وهي تدرك مضمون هذه الشرعيات العربية، سيتباكى هذا التيار العربي على تخلي سورية عن المقاومة رغم أن هذا التيار هو ضد المقاومة ومع إسرائيل وأميركا. ويرى هذا التيار أن المقاومة أخطر من أميركا على المصالح العربية، والرد على ذلك نوجزه في نقاط ثلاث: الأولى أن سورية عظمت أوراقها بالمقاومة ليس فقط كموقف مبدئي، ولكن أيضاً كموقف سياسي وهذا ليس عيباً في وقت جفت فيه أوراق سورية الخارجية. والنقطة الثانية هي أنه لا يتصور أن تتحمل سورية كل العبء عن المقاومة وكل هذه الضغوط إلى الأبد، وهذا يدعو إلى دراسة مستقبل المقاومة ودخلت على خط التسوية أو على الأقل التناول السياسي. النقطة الثالثة هي أن المقاومة العربية جميعاً هي ضد مشروع واحد"المشروع الصهيوني الأميركي"في ساحاته الأربع بمساندة إيرانية، وأن هذا المشروع مستمر، ولذلك أرجو أن تستمر المقاومة وأن تظل سورية متماسكة في دعمها حتى تتغير صورة المنطقة. في ضوء ما تقدم أرجو أن يتقدم الإطار العربي لمساندة سورية وألا يستمر في التخلي عن المقاومة، وألا يدفعه قصر نظره إلى نقد سورية ودعم المطالب الإسرائيلية في تفكيك جبهة المقاومة التي تناهض العدو وليس العالم العربي، وألا تتمسك بعض الدول- بعد ما حدث في الكنيست والوضوح الأميركي في دعم إسرائيل وامتهان العرب- بالمواقف الأميركية المهددة بكل وضوح لكل المصالح العربية وألا يخدعنا بعضهم بأن عداءه لإيران يدفعه إلى دعم الموقف الإسرائيلي في قطع صلة سورية بإيران و"حزب الله"بدعاوى صهيونية واعتقاد زائف منهم بأنهم يدافعون عن العروبة ضد الفرس الشيعة وهم يطعنون العروبة كل يوم في مقتلها رغم أعلامهم العربية والإسلامية الخفاقة. پ * كاتب مصري