موت الغرب ليس تنبؤاً بما سيحدث وإنما هو تصوير لما يحدث بالفعل، إذ أن أمم العالم الأول تموت لا بسبب ما يحدث في العالم الثالث بل بسبب ما لا يحدث في العالم الأول... هكذا قال باتريك بوكانن ? الذي كان مستشاراً لثلاثة رؤساء أميركيين - في كتابه"موت الغرب"الصادرة ترجمته عن دار"العبيكان"للنشر وهو كتاب يثير قضايا ذات الخطورة على علاقة الشرق بالغرب مستقبلاً ويطرح تساؤلات عدة نجملها في الآتي: هل تتآكل القوى الغربية الداخلة في أطوار الشيخوخة السياسية؟ أم ترتد نحو عنفوانها وشموخها بما يحجب أو يؤخر شيوع مصطلح انهيار الغرب وأفوله؟ وهل تمثل الأبعاد الديموغرافية إحدى هذه الأطوار؟ وهل يمكن أن ينسف هذا الغرب كل الأسباب والدواعي التي تعلن نهايته وبروز قوى أخرى تمتلك المقدرات الكونية كافة؟ أم أن سنة التاريخ وحركته لا بد أن تبلغ منتهاها؟ وحول شيء من هذا يتعرض بوكانن لأخطار تهدد بقاء الحضارة الغربية واستمرارها، ويتوجها خطر غزوات المهاجرين من العالم الثالث، انقراض الشعوب الأوروبية، وكذلك خطر التعددية الثقافية ونشوء دولة عالمية اشتراكية. وإذا كان أعظم إبداع سياسي للغرب - كما يقال - هو"الدولة"أو"الأمة"، فكيف يباد هذا الإنجاز تحت وطأة عوامل خارجية وداخلية... تلك هي القضية والتي صاغها من قبل ول ديورانت قائلاً إن روما لم يقهرها غزو البرابرة من الخارج فقط ولكن قهرها نسل البرابرة من الداخل، ومحور هذه وتلك هي ظاهرة الهجرة المنذرة بتفكك الدول الغربية إلى شعوب ململمة تفتقد أي مشترك بينها كالتاريخ والثقافة، وكل ذلك يقود نحو الانفصالية، إذ أن هذه الهجرات الجماعية لشعوب ذات ألوان ومعتقدات وثقافات مختلفة جديرة بإحداث تغيرات ملحوظة في شخصية الغرب. ففي الوقت الذي تضاعف عدد سكان العالم إلى ستة بلايين نسمة في غضون أربعين عاماً توقفت الشعوب الأوروبية عن التكاثر وفي العديد من البلدان بدأ عدد السكان بالهبوط، ومن بين الأمم الأوروبية هناك أمة واحدة فقط هي ألبانيا المسلمة التي كانت وما زالت تحتفظ بمعدل مواليد كاف ليبقيها حية والسكان المتحدرون من أصول أوروبية الذين يشكلون ربع سكان العالم أصبحوا يشكلون السدس، ومستقبلاً سيشكلون عشر سكان العالم، إضافة إلى ان سدس الشعوب الأوروبية سيكون فوق سن الستين وفي بريطانياوألمانيا وفرنسا وأسبانيا سيكون واحد من كل عشرة فوق سن الثمانين وسيكون العمر المتوسط للأوروبي خمسين عاماً، أي أعلى بتسع سنوات من العمر المتوسط لأسن أمة على الأرض اليوم وهي اليابان. وبلغ طوفان الهجرة مداه حين استوعبت بريطانيا ومنذ عشر سنوات أكثر من 200 ألف مهاجر كما تسلل نحو 500 ألف مهاجر وبصورة غير شرعية إلى دول الاتحاد الأوروبي وهي زيادة فائقة للمعدلات المتوقعة اعتمدت عليها رؤية العلماء في تأكيد أن الشعب الإنكليزي سيكون أقلية في وطنه في نهاية هذا القرن، إذ أن الإنكليز لا ينجبون ما يكفي من الأطفال لإعادة إنتاج أنفسهم، وإذا لم يرتفع معدل خصوبة أوروبا فإن عدد الأوروبيين تحت سن الخامسة عشرة سيهبط بنسبة أربعين في المئة بعد اقل من نصف قرن، في الوقت الذي يرتفع عدد المسنين بنسبة خمسين في المئة، وإنه مع انخفاض سكان الدول الأوروبية فليست لأوروبا مصلحة حيوية لتبرير إرسال عشرات الآلاف من شبابها إلى الحرب. وسجلت التقارير السياسية انزعاج ألمانيا من أن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي ستمنح الأتراك حق التحرك بحرية عبر أوروبا، مشيرة إلى أن نحو سبعين في المئة من الأتراك في العالم ممن يعيشون خارج تركيا موجودون في ألمانيا. وفي الوقت الذي تتجلى مظاهر الانكماش السكاني في دول مثل البرتغال وأسبانيا وفرنسا وإيطاليا فعلى الصعيد الشرقي هناك دول يتضاعف تعدادها السكاني مثل المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر التي ينتظر أن يبلغ تعدادها نحو مئة مليون بعد خمسة عشر عاماً. لا يستثنى المجتمع الأميركي من أن تخترقه ظاهرة الهجرة التي عملت على"تلويث"الثقافة ومهاجمة القيم وتشويه الانتماء، وقد اتسمت خصائص المهاجرين إليه بأن ثلثهم لم ينهوا دراسة المرحلة الثانوية وأن ثلثهم الآخر يقل دخلهم عن عشرين ألف دولار في السنة وشريحة كبرى منهم تقع تحت خط الفقر، كما ارتفعت في أميركا نسبة المجرمين والسجناء، وقد شقت هذه الظاهرة المجتمع إلى دولتين هما أميركا قديمة تموت وأميركا جديدة تنال ما تستحق، الأميركيون الجدد الذين نشأوا في الستينات لم يحبوا أميركا القديمة واعتبروها بلداً رجعياً قمعياً متعصباً. وفي تصور باتريك بوكانن أن يوم أوروبا انتهى وأن الهجرات الضخمة الآتية من العالم الإسلامي ستغير التركيب العرقي للقارة القديمة بحيث تعجز عن التدخل في شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط أو الخليج، وعلى ذلك يطرح فكرة أنه إذا كانت أوروبا غزت إفريقيا واستعمرتها في القرن التاسع عشر ففي هذا القرن ستغزو إفريقيا أوروبا وتستعمرها، وسيظل الغرب الذي لا تعوزه القدرة على صد المخاطر يفتقد الرغبة العارمة والإرادة الحديد لاستدامة نفسه. * كاتب مصري