ما تنبَّه المصريون الى متغيرات مجتمعهم بين المماليك والعثمانيين إلا عندما احتل الفرنسيون مع نابليون مصر، وأرادوا"تغيير العوائد". فقد طلبوا من"العلماء"الدخول في"الديوان"وترؤسه. والديوان صيغة تشبه صيغة المجلس البلدي أو ما يزيد قليلاً. لكن العلماء أعرضوا عن ذلك بدايةً، وبخاصةٍ السيد عمر مكرم. وكان الظن أن هذا الرفضَ يعود الى أن العلماء لا يريدون العمل مع الأجانب الكفَرة. وهذا سببٌ من الأسباب. لكن كان هناك السبب الآخر والأعمق. فمنذ مطلع العصر العثماني في مصر والشام، كان هناك فصلٌ تامٌ بين الجهاز الديني، والجهاز الإداري. ورمز ذلك لدى العثمانيين مشيخة الإسلام التي تتولى الشأن الديني، والصدارة العظمى التي تتولى الشأنين الإداري والعسكري، مع إشراف السلطان على الجهازين. ويستدلُّ المؤلف الدكتور خالد زيادة "العلماء والفرنسيس في تاريخ الجبرتي"، رياض الريّس للكتب والنشر، حزيران يونيو 2008على ذلك بأحداثٍ وقعت قبل أيام الفرنسيين في دمشق عندما أراد أسعد باشا العظم والي دمشق السفر وإنابة العلماء عنه في إدارة المدينة الى حين عودته. إذ قالوا له:"نحن أناسٌ منا علماء، ومنا فقراء، ومنا مدرّسون، وصنعتنا مطالعة الكتب وقراءتها"!. وفي عهد محمد أبي الذهب، الذي استولى على دمشق آتياً من مصر عام 1185ه/ 1771م، برز لدى العلماء الجانب الآخر المتعلق بالشرعية، إذ رفضوا حتى تولّي المناصب الدينية من المتغلّب، وقالوا له:"إن هذه البلدة بلدة حضرة مولانا السلطان مصطفى خان، وتوجيه هذه المناصب له، ولا يصح من غيره". وبالفعل أيام نابليون قال له العلماء أولاً إن سُوقة مصر لا يخافون إلاّ من الأتراك، ولا يحكمهم سواهم. وقبِلَ بعضهم في النهاية المشاركة في الديوان دون البعض الآخر. لكن هؤلاء، وعندما تطورت الأمور الى ثورةٍ على الفرنسيين، اضطروا الى التواري لاتهام العامة لهم بالتعاون مع الفرنسيين وقبض المال منهم! والى متغيرات الفصل شبه الكامل بين الجهازين الديني والإداري للدولة، حدث اندماجٌ بين الفقهاء والصوفية وأرباب الحرَف والمِهن. ذلك ان قضاة القُضاة والمفتين الكبار كانوا يأتون من اسطنبول، وهم من الأتراك ? فصارت الوظائف الصغرى في الجهاز الديني للعلماء، وداخَلَها العنصر الصوفي، الذي جعلها جزءاً من مجتمع العامة. وبخاصةٍ أن الأتراك الفاتحين أنفسهم كانوا يحبون التصوف، ويشجعون أهله. وينقل المؤلف عن الجبرتي اهتمامه الكبير بمجيء القطب وجيه الدين العيدروسي الحضرمي الى القاهرة والأزهر، وكيف هرع اليه أرباب الطرق والمريدون وأنصار الولاية. وحدث الشيء نفسه مع محمد مرتضى الزبيدي، اليمني هو الآخر، والذي كان فقيهاً كبيراً، وصوفياً كبيراً شرح إحياء علوم الدين للغزالي، وكاتب تراجم وسِير، ومحدّثاً، ولُغوياً شرح القاموس المحيط للفيروز أبادي وسماه"تاج العروس"، ونُشر في بولاق، ثم في الكويت في أربعين مجلداً، ويعمل على آثاره منذ سنوات الدكتور محمد عدنان البخيت. وهكذا فقد كانت للعلماء منزلةٌ اجتماعيةٌ كبيرةٌ، وانضم التصوف الى الفقه منهم القضاة في التعظيم، لكن انفصلت شؤون الجهاز الديني عن شؤون الجهاز الإداري والسياسي انفصالاً تاماً. بيد أنّ محمد علي باشا ? كما يلاحظ الجبرتي ? ما قبل بهذه الاستقلالية للعلماء، وشرّدهم وأنهى نفوذهم باستثناء الذين مدحوه، ودعموا إجراءاته التحديثية مثل الشيخ حسن العطّار ? زميل الجبرتي ? والذي صار شيخاً للأزهر لكن بعد وفاة الجبرتي 1820ه بمدة. وهناك المتغير الآخر والأهمّ من الناحيتين العمرانية والاجتماعية. فقد درس أندريه ريمون في كتابه الشهير عن القاهرة في القرن الثامن عشر، أحوال التجارة والحرفة هناك في ذلك القرن. وقد عانت الأوضاعُ الاقتصاديةُ من تحول طرق التجارة كما هو معروف، لكن ظلت هناك آلياتٌ داخلية معهودة ومقبولةٌ، يترحّم عليها الجبرتي، مع نهايات القرن الثامن عشر. فقد بدأ الفرنسيون بتحديث القاهرة لسببين: اختراق الأحياء الداخلية الثائرة عليهم، وصنع مدينة على مثالهم بالشوارع العريضة، وبالنظافة والتنظيم والإضاءة، وإزالة الحِرَف والأعمال غير المُجدية من وجهة نظرهم. وتابع محمد علي الأمر نفسه، باتجاه اكتمال سيطرة السلطة على المجتمع وعلى السوق، والدخول في شكلٍ واعٍ في السوق العالمية المتكوّنة. كيف واجه الجبرتي، المؤرّخ الشهير، وصاحب"عجائب الآثار في التراجم والأخبار"هذه المتغيرات، وماذا كان وعيه؟ يعتبر الدكتور زيادة، أن الرجل كان يملك وعياً مختلطاً. فقد كان ساخطاً على المستعمرين الفرنسيين، لكنه أُعجب بتقدمهم العلمي والتنظيمي، حتى في مجال القضاء. لكنه ما كان مرحباً بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسلطوية. فما سرَّ بإزالة عصبية المماليك من جانب الفرنسيين ومحمد علي. وما سُرَّ بالضغط الشديد الذي مارسه الطرفان على عامة الناس، وعلى العلماء والوجهاء. ويلاحظ المؤلف بشيءٍ من الاستغراب هذا الخلطَ لديه أي لدى الجبرتي بين تراجم العلماء والتاريخ أو الأحداث. والواقع ان هذا تقليدٌ اسلاميٌ علميٌ قديم. فقد كانت هناك كتبٌ تاريخيةٌ بحتةٌ تذكرُ فيها تواريخ وفيات كبار العلماء على السنين آخرَ كل سنة. لكن كان هناك أيضاً تقليد وضع كتب في تراجم العلماء في شكلٍ عامٍ أو على الفئات، مثل الفقهاء والمحدثين والأُصوليين والصوفية والمتكلمين... الخ. وبعد القرن الخامس، نشأ هذا الجنس الثقافي المختلط، أي الكتب التي فيها أحداث وتراجم. واستتب هذا الجنسُ في العصرين الأيوبي والمملوكي. وفي نطاق هذا الجنس كتب الجبرتي أو أنه طوَّر كتابه باتجاهه. فقد ذكر أن المرتضى الزبيدي هو الذي طلب منه جمع تراجم للمصريين ليضيفها الى أحد مؤلفاته في تراجم العلماء. ثم كلّفه بذلك المُرادي كاتب التراجم للقرن الثاني عشر الهجري أيضاً. وعندما اعتزم هو في النهاية أن يستفيد مما جمعه، دخل في ذاك التقليد الممتزج أو الجامع بين التراجم والتاريخ. بيد أن التاريخ غلب عنده على التراجم، فأوجد بذلك إطاراً سياقياً خدم الهدفين. ولذا فقد كان الجبرتي - على جدّة العمل الذي أنجزه في النهاية - تقليدياً في وعيه، وعثمانياً في منازعه. فهو يُشيد من جهة بخبرة والده في الرياضيات والعلوم والفلك بالمعنى التقليدي، لكن الفقهاء والصوفية يحتلون المساحة الأكبر في وعيه. وهو عميق الإيمان بكرامات الأولياء. ويلاحظ أن العامة والعلماء رفضوا الأخذ بتوجه أحد القضاة العثمانيين لمنع زيارات القبور والأولياء. ولا يرى زيادة في الأمر تأثيراً وهابياً على التركي الحنفي، وانما هو الوعي العام بالعلائق بين الدين والفقه والعرفان. وقد كانت هناك بحوث جمَّة عن نهوضٍ وتجددٍ فقهي وصوفي واجتماعي في القرن الثامن عشر. وكُتبت في ذلك عشرات الكتب، ومئات البحوث. لكن الدكتور زيادة لا يعرضُ لهذه الإشكالية، والتي تجلّت على خير وجهٍ في اليمن والقاهرة والحجاز والهند. والعالمان اليمنيان الكبيران: العيدروسي والزبيدي، تجولا في هذه الأصقاع جميعها ? ولذا فقد كان يحسنُ مراقبة مستجدات الوعي والتصرف لهذه الناحية أيضاً. وبخاصةٍ ان الجبرتي عاش على ناصيةٍ مطلةٍ بقوة على كل ذلك: الخروج من السطوة المملوكية الى انفرادية محمد علي. والتجربة مع الاستعمار الفرنسي. ومتغيرات علاقة العلماء وأرباب الحِرَف والفلاحين بالدولة. ويبقى أن كتاب الدكتور زيادة، يشكّل مدخلاً جيداً لفهم المتغيرات من المجتمع التقليدي كما سمّاه في كتابه عن وثائق المحكمة الشرعية بطرابلس الشام والى مجتمع الدولة المحدَّثة في القرن التاسع عشر. وهو يقوم بهذه العملية من خلال المصادر المكتوبة في تلك الحقبة، وعلى رأسها تاريخ الجبرتي.