المؤرخ الجبرتي احتفلت مصر سنة 2005 بمناسبة مرور 250 سنة على مولد المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي لأهميته في توثيق التاريخ أثناء المرحلة التي عاصرها، وحصل أثناءها التآمر الداخلي والخارجي على الخلافة الإسلامية العثمانية، وتمخضت عن الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام بقيادة نابليون بونابرت. وتضمنت الاحتفالات بذكرى الجبرتي نشر أعماله التاريخية وعلى رأسها كتابه"عجائب الآثار في التراجم والأخبار"الذي طُبع طبعةً شعبية لتوفيرها للفقراء المهتمين بالتاريخ. وواكبت الاحتفالات ندوات عدة عن الجبرتي تناولت كتاباته والعادات والتقاليد التي سادت عصره، وتطرق كُتاب البحوث إلى عصر المؤرخ الجبرتي الراحل وأعماله التي تشكل مرآة لعصره، والعلاقات بين الحكام والمحكومين. أصول الجبرتي والد عبدالرحمن الجبرتي هو الشيخ حسن الجبرتي أحد كبار علماء الجامع الأزهر الضليعين بالفقه والنحو والبلاغة والتفسير والرياضيات، والمسائل الفلكية، إضافة إلى العلم كان حسن الجبرتي تاجراً غنياً، ولَقبُ الجبرتي نسبة إلى"جبرت"إحدى مدن المسلمين في الحبشة"أثيوبيا"وقد رحل أجداد الجبرتي من جبرت إلى مصر في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، وعاش حسن الجبرتي حياة العلماء والتجار حتى توفي سنة 1188ه/ 1774م، وبوفاته فقد ابنه عبدالرحمن سنداً قوياً، وآلت إليه مسؤولية الإشراف على أملاك والده، مما أتاح له فرصة التنقل بين المناطق المصرية، ومشاهدة الأحوال الاجتماعية التي رصدها ودوّنها في كتبه التي شكلت مرآة لعصره. نسب الجبرتي وتعود نسبة الجبرتي إلى بلدة جبرت موطن أجداده الأوائل، وهي تقع في إقليم ساحلي إلى الغرب من ميناء زيلع على البحر الأحمر في الحبشة، وقد كتب الجبرتي عن موطن أجداده فقال:"وبلاد الجبرت، بلاد معروفة تسكنها هذه الطائفة، وهم المسلمون بذلك الإقليم، ويتمذهبون بالمذهب الحنفي والمذهب الشافعي. ويُنسبون إلى سيدنا أسلم بن عقيل بن أبي طالب، وهم قوم يغلب عليهم التقشف والصلاح، ويأتون من بلادهم بقصد الحجّ والمُجاورة وطلب العلم، ويحجّون مُشاة، ولهم رِواق في المدينةالمنورة، ورِواق في الجامع الأزهر بمصر، ويستدلُّ أن جدَّ الجبرتي السابع، هو سَمِيُّه عبدالرحمن، وهو أول مَن هاجر من أجداده في بدايات القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، وكانت هجرته من جبرت إلى مدينة جدة في شبه الجزيرة العربية، ثم رحل إلى مكةالمكرمة حيث جاور البيت الحرام، وحج مراراً. ثم جاور بالمدينة سنتين قضاهما في الدراسة على مَن لقيهم بالحرمين من كبار الشيوخ، ثم غادر المدينةالمنورة، وقصَدَ مصر لتلقي العلم في الجامع الأزهر، وطاب له المقام فاستقر بها، وتزوّج ووُلد له، وعلا شأنه، واختير شيخاً لرواق جبرت. وتوارث أحفاده مشيخة ذلك الرواق مدة ثلاثة قرون متوالية حتى آلت إلى المؤرخ الشيخ عبدالرحمن بن حسن الجبرتي، وبوفاته انتقلت مشيخة الرواق من أسرتهم". أولاد حسن الجبرتي وُلدَ لحسن الجبرتي الكثير من الأطفال الذين ماتوا صغاراً، ولم يُعمّروا مما أورثه الحزن ردحاً من الزمن، وفي سنة 1167ه/1754م، وُلد عبدالرحمن بن حسن الجبرتي، فاستقبله أبوه استقبالاً حزيناً خشية أن يفقده صغيراً مثلما فقد الكثير من البنين والبنات قبله، ولكن العناية الإلهية حفظت عبدالرحمن، ولم تمتدّ إليه يدُ الموت، وقدرتْ له الحياة. سنوات الدراسة نشأ عبدالرحمن في رعاية أبيه، فحفظ القرآن الكريم كغيره من أولاد العلماء، وقد حفّظه القرآن الكريم الشيخ المُقرئ محمد موسى الجناجي، وبعدما حفظ القرآن الكريم ذهب إلى الكتاتيب ثم المدارس، فتعلم العلوم الدينية والدنيوية، ونشأ في بيت علمٍ ودين، ورأى العلماء والأدباء في مجلس أبيه"وكانوا يتحدثون في العلوم والآداب، وكان يجلس معهم ويستمع إليهم، ويأخذ من علمهم، كما كان يجالس كبار رجال الدولة وأمراء المماليك وأغنياء مصر الذين كانوا يزورون أبيه حسن الجبرتي، وهكذا عرف الجبرتي الكثير عن أحوال مصر وأسرارها، وأكمل عبدالرحمن الجبرتي تحصيله العلمي بارتياد حلقات العلوم في الجامع الأزهر بمصر. الجبرتي والزبيدي أُعجب المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي بعالم اليمن محمد مرتضى الزبيدي مؤلف"تاج العروس"وغيره من الكتب القيّمة، ولازم الجبرتي مجلس الزبيدي، حتى صار من خاصّة تلاميذه المخلصين، وتوثّقت العلاقة بين الشيخ الزبيدي وتلميذه الجبرتي، واشتركا في تأريخٍ لعُلماء القرن الثامن عشر الهجري وأمرائه ومشاهيره، وطلب الزبيدي من الجبرتي أن يساعده في جمع كل ما يمكن عن حياة السابقين. وراح الجبرتي يقرأ الكتابات التي نُقشت على القبور وعلى جدران المساجد وأوابد الآثار، فأعجب عبدالرحمن الجبرتي بالفكرة، وأصبح باحثاً ميدانياً ينقل المعلومات من مواقع الأحداث، وقبل الانتهاء من كتابة الكتاب المشترك مات الزبيدي سنة 1205ه/ 1790م، فحزن عليه الجبرتي حزناً شديداً، وجسّد وفاءَه لأستاذه بمواصلة ذلك العمل المشترك، ولم يتوقف عن الكتابة بل راح يكتب كل ما يراه ويشاهده، ويسجل كلَّ صغيرة وكبيرة. ولما اجتاحت الحملة الفرنسية مصر كتب عنها الجبرتي بحياد تام، وسجل يومياته أولاً بأول في كتابه"مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس"، وكتب الجبرتي عن المماليك بتجرُّد، فلم يكن كتابه مجاملة لأمير أو طاعة لوزير، وكتب الجبرتي عن المصائب التي جلبها حُكم"الباش بوزوق"محمد علي، ما قام به من مصادرة الأموال، وانتهاك الحرمات، والسطو على المتاجر والمصانع، ووثق معلومات تلك المرحلة المظلمة في كتاب"عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، ولكن أجهزة الأمن السري تربصت بالجبرتي، ونجحت في اغتيال ابنه خليل سنة 1237ه/ 1822م، ففهم الجبرتي الرسالة، وتوقف بعد تلك الجريمة عن الكتابة، وحزن على ابنه حزناً شديداً، حتى فقد بصره ومات حزيناً مقهوراً سنة 1241ه/1825م، ولكن كُتب الجبرتي ما زالت حيّة تروي قصص الوصوليين والمرتزقة والظلمة والفُجّار، وقد نُشِرت أعمالُه الكاملة ما بين سنتي 1296 ه/ 1879م، وسنتي 1307 ه/ 1890م. عجائب الآثار من كُتب التاريخ الاجتماعي التي كتبها المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي كتاب"عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، وقد قال الجبرتي في مقدمة الكتاب:"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله القديم الأول الذي لا يزول ملكه ولا يتحول، خالق الخلائق وعالم الذرات بالحقائق، مُفني الأمم، ومحيي الرمم، ومعيد النعم، ومبيد النقم، وكاشف الغمم، وصاحب الجود والكرم، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم، وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله تعالى عما يشركون، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله إلى الخلق أجمعين، المنزل عليه نبأ القرون الأولين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ما تعاقبت الليالي والأيام، وتداولت السنين والأعوام.". وبعد فيقول الفقير عبدالرحمن بن حسن الجبرتي الحنفي، غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه.:."إني كنتُ سوّدتُ أوراقاً في حوادث آخر القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي وما يليه من أوائل الثالث عشر الذي نحن فيه، وجمعتُ فيها بعض الوقائع الإجمالية، وأخرى محقّقة تفصيلية، وغالبها مِحَنٌ أدركناها، وأمورٌ شاهدناها، واستطردت في ضمن ذلك إلى سوابقَ سمعتها ومن أفواه الشيوخ تلقيتها، وبعضِ تراجم الأعيان المشهورين من العلماء والأمراء المعتبرين، وذِكْرِ لُمَعٍ من أخبارهم وأحوالهم، وبعضِ تواريخ مواليدهم ووفياتهم، فأحببتُ جَمْعَ شملها، وتقييد شواردها في أوراق مُتَّسِقة النظام، مرتبة على السنين والأعوام لتسهل على الطالب النبيه المراجعة، ويستفيد ما يرومه من المنفعة".