الكتاب: مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس المؤلف: عبدالرحمن الجبرتي والشيخ حسن العطار تحقيق: احمد عبده علي الناشر: مكتبة الآداب - القاهرة 1998 هذا الكتاب يعدّ من أهم المصادر المعاصرة لفترة الحملة الفرنسية على مصر، لجهة كشفه عن وجهها الحقيقي الذي يحاول الفرانكفونيون اليوم إخفاءه بشتى الطرق، وهو بمثابة وثيقة تاريخية تسجل بأمانة وموضوعية يوميات تلك الحملة، وأدق تفاصيل أحداثها، وتوضح كيف أنها جاءت بالحديد والنار، وقتلت عشرات الألوف من المصريين، وأن الفرنسيين لم يكونوا رُسل حضارة وعلم ومدنية، بل كانوا غزاة عاثوا في الأرض فساداً وتخريباً، يسفكون الدماء و ينتهكون الحرمات والأعراض. غير أن أهم ما يؤكده هذا الكتاب هو أن المصريين لم تنطل عليهم الدعاوى التي ساقها نابليون لتبرير حملته، ولم تغب عن أذهانهم النيات الحقيقية وراءها. ويصف الكتاب الحملة الفرنسية بأنها "من أعظم الدلائل على ما رميت به مصر، وما حلّ بأهلها من تنوع البؤس والإحن، بحلول كفرة الفرنسيس ووقوع هذا العذاب البئيس". ويسرد الكثير من الوقائع الدالة على ذلك منذ نزول جنود الحملة غرب الاسكندرية وسيطرتهم على البلاد، وحتى انسحابهم بعد ثلاث سنوات. فخلال هذه المدة - حسب الكتاب- ارتكبت الحملة الكثير من الجرائم الوحشية من قمع ونهب وقتل لأتفه الأسباب لفرض سيطرتهم، وتوطيد حكمهم. ولهذا نجد الكتاب لا يذكر اسم قائد من الفرنسيين إلا مصحوباً بأقذع النعوت، فيقول "الكافر بونابرته" و"اللعين ديبوي" و"التعيس مينو". ويذكر أنهم كانوا "ينزلون على البلاد والقرى ويطلبون المال والكلف الشاقة بالعسف، ويضربون لهم أجلاً بالساعات، فإن مضت ولم يوفوهم بالمطلوب، حل بهم ما حلّ من الحرق والنهب والسلب والسب، وخصوصاً إذا فرّ مشايخ البلدة من خوفهم وعدم قدرتهم، وإلا قبضوا عليهم وضربوهم بالمقارع والكسّارات على مفاصلهم وركبهم، وسحبوهم معهم في الحبال، وإذا هدّهم العذاب والنكال، وخاف الباقون وأتباعهم من الأسافل بالبراطيل والرشوات". ومن جهة أخرى يصف الكتاب مدى الخراب الذي آلت إليه مدينة القاهرة وهدم معالمها ومنشآتها أثناء ثورتي القاهرة الأولى والثانية، حتى تحولت في فترة الحملة إلى انقاض وتلال خربة، بعد أن كانت حاضرة مزدهرة يُضرب بها المثل في الاتساع والازدهار. ويقول الجبرتي عن ذلك: "فتوالى الهدم والخراب وتغيير المعالم وتنويع المظالم، وعمّ الخراب خطة الحسينية خارج باب الفتوح والخروبي، فهدموا تلك الجهات والأخطاط والحارات والدروب، وما في ضمن ذلك من الحانات والوكالات والرباع والدور والحمامات والمساجد والمزارات والزوايا والتكايا، وبركة جنقاق وما بها من الدور والقصور المزخرفة، وجامع الجنبلاطية العظيم في باب النصر، وما كان به من القبب العظام المعقودة من الحجر المنحوت المربعة الأركان الشبيهة بالأهرام، والمنارة ذات الهلالين، واتصل الهدم خارج باب الناصر بخارج باب الفتوح، وباب القوس الى باب الحديد، حتى بقي ذلك كله خراباً متصلاً واحداً". وحمل الجبرتي على الحكم الفرنسي لكونه حكما يختلف في دينه وعاداته وتقاليده عن تقاليد الشعب المصري، وانتقد بشدة أفعال الفرنسيين اللا أخلاقية وإشاعتهم الرذيلة والجهر بالمنكرات والفواحش، وتحويلهم بعض الدور الى بيوت للدعارة والخلاعة والمجون، الأمر الذي تأذى منه المصريون وجرح مشاعرهم. وعلى الرغم من كل هذه الوقائع التي يسردها الجبرتي في الكتاب، والتي توضح موقفه الحقيقي من الحملة، إلا أن البعض يزعم وجود تناقض بين كتابيه "مظهر التقديس" و"عجائب الآثار" الذي يُفهم من بعض فقراته اعجابه الشديد وانبهاره بعلومهم المتقدمة، وبعض شؤونهم الإدارية. ويتهم هؤلاء الجبرتي بأنه كتب "مظهر التقديس" تزلفاً ونفاقاً للعثمانيين لكي يأمن شرهم، وينفي عنه تهمة التعاون مع الحملة. ولتوضيح هذه النقطة ينبغي أن نفرق بين الكتابين والمادة التاريخية التي يعالجها كل منهما، ف"عجائب الآثار في التراجم والأخبار" كتاب في التاريخ العام لمصر، ويؤرخ لما قبل الحملة وما بعدها، أما "مظهر التقديس" فهو كتاب مقصور على فترة الحملة فقط، فضلاً عن أن هذا الكتاب الأخير اشترك في كتابته الشيخ حسن العطار المتوفي سنة 1250 ه. وعن ذلك يقول الجبرتي في مقدمة الكتاب: "وكان ممن اعتنى بجمع تلك الأخبار ... صاحبنا العلامة حسن بن محمد الشهير بالعطار ... فضمت ما نمقه مع بعض من منظومه ومأثوره بحسب المناسبة، الى هذا السفر، لينتظم معنا في سلك حسن الذكر، وسميناه مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس". أما الكتاب الخاص بالجبرتي وحده قبل أن يضم إليه اضافات العطار، فهو كتاب "تاريخ مدة الفرنسيس بمصر" الذي يختلف عن نص "مظهر التقديس" في اكثر من موضع بالنقص أو الزيادة. والأمر الآخر الذي يجب أن نلتفت اليه، والذي يؤكد عدم وجود تناقض في موقف الجبرتي من الحملة، أنه عندما يذكر إعجابه ببعض جوانب الحملة، فهو يثبت بذلك أنه مؤرخ منصف وذو رؤية موضوعية، فلم تمنعه كراهيته للفرنسيين من ذكر تقدمهم العلمي، أما اتصاله بهم وجلوسه مع علمائهم، فكان للافادة منهم والاطلاع على علومهم، وحسبه في ذلك أنه لم يفدهم أو يساعدهم في شيء من أهدافهم. أما إسرافه في مدح العثمانيين في كتابه "مظهر التقديس"، فكان تعبيراً عن الفرح الشعبي الذي غمر مصر كلها لخروج الفرنسيين ومجئ العثمانيين المشتركين معهم في العقيدة والثقافة. فقد كانت العاطفة الدينية والوطنية في ذلك الوقت تتجسد في الانتماء الى الدولة العثمانية والسلطان العثماني الذي كان بمثابة خليفة المسلمين، وتمجيد الجبرتي للدولة العثمانية في الكتاب يأتي تجاوباً مع هذه الروح الشعبية والمفاهيم السائدة وقتذاك. فرغم كل السلبيات التي يرصدها البعض للعثمانيين، إلا أن فظاعة الحكم الفرنسي جعلت المصريين يترحمون على أيام الحكم العثماني الأخف وطأة والأقرب رحماً