اضطررت للخروج أخيراً بعد أن حل الليل. وكنت تمكنت من الصمود أمام إلحاح "ليلى" المتكرر منذ استيقظت من قيلولتي القصيرة المرهقة، والتي أصحو بعدها كأنني عائد من الموت. كانت لا تكف عن الإلحاح عليّ بضرورة انتهاز فرصة هدوء الأحوال، وقد طالت قليلاً، والذهاب إلى المغسلة حاملاً سترتها وبدلها، وهو حمل ثقيل. قالت إن الشتاء على الأبواب، كانت تردد هذه المقولة منذ ما يقرب من شهر، أما أنا فكنت خائفاً في الحقيقة، على رغم فترة الهدوء التي ننعم بها. وعلى مدى الأسبوع الماضي اشتد إلحاحها وبدت مصرة، يتصاعد عنفها، وحولت قيلولتي إلى عذاب دائم. في النهاية، خرجت غاضباً وحاملاً هدوم ليلى في حقيبة ضخمة من حقائب السفر. استوقفني حراس البوابة الخارجية وفتحوا الحقيبة ومضى أحدهم يعبث في الهدوم بأصابعه، ونصحني آخر بتأجيل ما أنا مقدم عليه، أو على الأقل أن أؤدي مهمتي مبكراً وأعود قبل أن يحل الليل. لم يضغطوا عليّ، وهو ما أدهشني لأنهم عادة يكونون حازمين وأوامرهم نافذة لا ترد. وتضاعفت دهشتي عندما تمكنت من إيقاف سيارة أجرة بسهولة، توقفت بي بعد كمائن ثابتة عدة أمام محل"دراي كلين السلام"، حيث سلمت ما أحمله، ووضعت الإيصال في جيبي، ثم حملت الحقيبة الفارغة واستدرت عائداً إلى الشارع. كانت الأنباء عن قرب وصول القوات الأجنبية الى البلاد تتردد منذ أسابيع عدة، لم نعرف ماذا حدث على وجه التحديد، إلا أن الإشاعات تناثرت حول وجود صراعات عنيفة بين الذين يحكموننا، وهو أمر كان يعرفه الجميع، والجديد هو انفجار هذه الصراعات وخروجها إلى العلن. عرفنا أيضاً أن ديبلوماسية البوارج التي مورست أيام عرابي عادت، فأساطيلهم اجتازت مياهنا الإقليمية وتقف قبالة شواطئنا. هكذا كنا نثرثر طوال اليوم في الدوام الرسمي الذي لم ينقطع في المصلحة الحكومية التي أعمل فيها، كما لم ينقطع دوام ليلى الرسمي في البنك. وفي بداية تلك الأحداث فرضوا حظر تجول صارم طوال ال24 ساعة، كان يخف أو يزداد تبعاً لما كان يدور في الخفاء. وما إن عاد الإرسال التلفزيوني حتى أمرونا بالعودة إلى دوامنا، وهرعنا أنا وليلى إلى أعمالنا بعد أن كدنا نجن، فلم يكن قد مضى على زواجنا إلا بضعة شهور عند اندلاع الاضطرابات، وعندما عدنا إلى دوامنا سمعنا الأهوال. لكنهم لم يلبثوا أن كرروا قطع الإرسال التلفزيوني ومنع الصحف. غير أننا كنا تعودنا تقريباً، وقبل زواجنا بفترة وجيزة بدأت تلك الاضطرابات والقلاقل ومللنا من تفسير أسباب صعود أو اختفاء طواقم الحكم بعد عقود عدة من الاستقرار. وبعد أن كنا مللنا من ثبات الوجوه القديمة، أمسينا ملولين أيضاً من التغيرات المفاجئة والمتواصلة. هكذا كنت أحدّث نفسي وأنا أعبر ممراً بين بنايتين عاليتين بالقرب من الشارع التجاري، شاعراً براحة شديدة لأن الحقيبة باتت فارغة خفيفة أهزها كما أشاء، كما أن عدداً لا بأس به من محلات الشارع التجاري، عادت تفتح أبوابها مما ضاعف من اطمئناني. صحيح أنها لم تكن في أبهى زينتها ولا يكاد أحد يدخلها، إلا أنها مفتوحة على أي حال ومضيئة أيضاً. مضيت أتطلع إلى"الفترينات"الزجاجية، أكاد أغازل تماثيل"المانيكانات"، بعد أن لاحظت أن معظمها كان لنسوة عاريات، ينتظرن استقرار الأمور، ويعقد أصحاب المحال العزم على كسوتهن بما يتناسب مع الموسم. لا أذكر أنني خرجت ليلاً منذ بدأت تلك الاضطرابات. ربما مرة عندما اندلعت التظاهرات. لم أكن عازماً على الاشتراك، وكل ما في الأمر أنني لم أكن قد تزوجت بعد، وكان لدي الوقت الكافي للفرجة. على أي حال في المرتين أعملت قوى الأمن الضرب في المتظاهرين بالهراوات وأطلقت خراطيم المياه وقنابل الغاز سواء غاز الأعصاب أو المسيل للدموع، كما كانت تلقي القبض على الآلاف وتملأ بهم أرتال العربات الغامقة المصفحة... كانوا يهتفون ضد الظلم والجوع والاستبداد والبطالة والتعذيب والمرض، وكلها أمور كنا نتعايش معها منذ سنوات، لذلك تعجبت مما يجري. وإذا صادفت أي تظاهرة بعد ذلك كنت أتفرج قليلاً من بعيد، ثم أمضي في طريقي، لأنني كنت أعلم أن قوات الأمن سرعان ما تظهر وتفعل ما كانت تفعله كل مرة، ولم يكن ممكناً لي أن أنسى ما فعله غاز الأعصاب بي في المرة التي تعرضت فيها له، ففقدت السيطرة على نفسي تماماً وأمسيت مثل حيوان لا يستطيع التحكم في جسمه. ما إن هممت بعبور الشارع، حتى تلفتُّ حولي، وتبينت أن كثراً يتناثرون حولي هم من رجال الأمن السريين والعلنيين. الآخرون كانوا يرتدون زي القتال الأسود والمزوّد بالواقي ضد الرصاص الذي يغطي النصف الأعلى من الجسم والخوذ الزيتية الضخمة تكاد تخفي كامل الوجه. كان رجال الأمن العلنيون المدنيون، والنساء أيضاً، قد انتشر استخدامهم والاعتماد عليهم في الفترة الأخيرة، وبات من السهل التعرف إليهم في الأسواق وعربات الأجرة والسعاة وصالونات الحلاقة وورش إصلاح السيارات والبوابين وبالطبع دواوين الحكومة والمدارس والجامعات والمستشفيات. هذا إلى جانب رجال الأمن العلنيين النظاميين، والآخرين التابعين لشركات الأمن الخاصة بزيهم الأنيق المميز والمكون عادة من قميص"لبني"وبنطلون وربطة عنق كحليين، والطبنجة تترنح على الخصر في إهمال يزيد من أناقة الرجل أو المرأة... كانت تلك الشركات بدأت في استعمال النساء على نطاق واسع في شهور الاضطرابات الأخيرة، وخصوصاً في المحال التجارية والكافيتريات والشركات الصغيرة الأخرى. فكرت في العودة، بل وشرعت في البحث عن سيارة أجرة، ثم قلت لنفسي: أمشي قليلاً، ولو وجدت"حلواني"مفتوحة أبوابه، اشتري لليلى أي شيء مما تحبه وأمضي إلى البيت. شجعني قليلاً أن كثيراً من السيارات المدنية، سواء كانت"ملاكي"أو أجرة ازدادت في الشوارع، والأكثر غرابة أنها كانت تتوقف في تجمعات أمام إشارات المرور، وهو ما كنا قد توقفنا عن مشاهدة مثيله، لن تصدقني ليلى عندما أحكي لها: تصوري... إشارات المرور تضيء لمباتها الحمر فتتوقف السيارات أمامها تنتظر الضوء الأخضر الذي يسمح لها بالعبور. أما المحال فقد تقاطرت أمامي، وكان بعض"المانيكانات"يعرض ملابس داخلية غطاها التراب، بينما كان البعض الآخر من الرجال يعرض ملابس كاجوال شبابية غطتها كميات أكبر من التراب. شعرت بما يشبه الخدر بعد أن تنسمت تلك الرائحة التي طالما افتقدتها الحياة... كانت تتسرب مترددة. تركت نفسي لشوارع تقودني الى شوارع أخرى، أهز الحقيبة الفارغة، وأتوقف لإشعال سيجارة، لكنني لم أجد حلوانياً بعد، كما أن المقاهي كانت مغلقة، وهنا في هذا الشارع بالتحديد قهوة كنت أتردد عليها قبل الاضطرابات. ومع ذلك، فإن تجاسر بعض المحال والكافيتريات على فتح أبوابها، وإن كان ذلك على استحياء، يعد على أي حال علامة طيبة على قرب انفراج الأمور، كنت أكاد أتوقف أمامها، فكانت رائحتها لا تُقاوم، خصوصاً الكافيتريات التي تستضيف قليلاً من الشبان والشابات، وكانت غالبيتهن من المحجبات، وقليل منهن مخمرات تبعث هدومهن على الكآبة. تمنيت لو كانت ليلى معي الآن، وتمنيت أيضاً لو كان أحد المحال التي شهدت لقاءاتنا الغرامية الأولى مثل"سيلانترو"أو"ومبي"أو"بيتزا هات"تتلقى الأوامر بإعادة فتح الأبواب، هل نستطيع إذاً استعادة تلك المساءات أنا وليلى؟ الآن فقط أدركت معنى العبارة التي درج الصحافيون على تكرارها قبل منع الصحف، وهي"الزمن الجميل"تعبيراً عن الفترة التي عشناها قبل الاضطرابات. لم يكن الشارع الذي انتشرت على جانبيه محال الملابس والأحذية والمفروشات خالياً من أفراد الأمن، وخصوصاً العلنيين الواقفين على نحو ظاهر للعيان، وفي واحدة من نوبات جنوني التي أجبرتني القلاقل الأخيرة على التوقف عن ممارستها فكرت في الذهاب إلى شاطئ النيل. شجعني في الحقيقة ذلك الضجيج الخفيف في الشوارع للسيارات والناس، كما أننا كنا نعيش في هدوء يستمر طوال اليوم في الفترة الأخيرة، بل وأعادوا الإرسال التلفزيوني، وإن كان لا يزال مقصوراً على المحطات الرسمية وحدها، اخترقت الشارع التالي في اتجاه النيل وفي الوقت نفسه صوّبت أجهزة استشعاري نحو نواصي الشوارع، لكن كل شيء كان هادئاً، كدت أطير من الفرح، وتذكرت ليلى، فكانت عاشقة النيل مثلي، بل إن إحدى عباراتها المأثورة أيام السلام كانت:"تعال نطمئن على النيل...". كان ذلك في أوائل أيام حبنا، حيث شهدت الكازينوات والكافيتريات الملاصقة للنيل بدايات غرامنا. مددت بصري. كان هذا الشارع الذي أقطعه يصب في ميدان يتوسطه تمثال أحد الجنرالات ويفضي إلى الشاطئ. ولو صدق حدسي، ووجدت الطريق مفتوحاً نحو النيل، فإن هذا معناه أن درجة الاستقرار بلغت ذروة لم تصل إليها منذ بدء الاضطرابات. وصلت أول الميدان، وتضاعفت دهشتي، فقد كان الميدان هادئاً، والسيارات تتوقف هنا أيضاً أمام الإشارة الحمراء، وقليلون يعبرون، فعبرت معهم حتى الدائرة التي يتوسطها تمثال الجنرال. تفضي هذه الدائرة إلى ما كان موقفاً للباصات العامة، وتوقف عن العمل تقريباً منذ بدء الاضطرابات، بسبب وجوده بالقرب من حزب الدولة. واصلت طريقي، وعبرت الشارع، وسرعان ما اضطررت للتوقف، لأن هناك عدداً كبيراً من الرجال والنساء كانوا يحملون ما بدا أنه نعش. دقّقت النظر وتأكدت من أنه نعش بالفعل. بدا وكأن الأرض انشقت عن تلك الجموع المتقدمة. لم أعرف ما إذا كانوا جاؤوا من ناحية الكورنيش، أم من ناحية"المول"المواجه، لكنهم كانوا صامتين يخترقون الليل والشارع الذي يقع فيه حزب الدولة. توقفت مرة أخرى، كان النعش الذي يحملونه بلا علم أو زينة، بل مجرد صندوق خشبي بدا غائماً في العتمة الخفيفة. قدرت أن عددهم لا يتجاوز الأربعين يمرقون صامتين ويتبادلون حمل النعش في فوضى، حتى أن النعش كان يتأرجح بقوة وأنا أحدق واقفاً على أطراف أصابع قدمي تقريباً، رحت أهز الحقيبة الفارغة التي أحملها عازماً على الفرار. لم يكن الأمر يحتاج إلى ذكاء، فرجال ونساء الأمن العلنيون والسريون وفرق مكافحة الإرهاب ومقاومة التظاهرات تحيط دائماً كما يعرف الجميع بالمنطقة التي يشغلها مقر حزب الأمة، وفي لحظات كانت القوات تعمل الضرب في الجميع بلا تمييز، فألقيت بالحقيبة التي أحملها وانطلقت أجري بأقصى سرعتي. لكنني اضطررت للتوقف مرة أخرى لأن الناس توقفوا أيضاً، وعندما مددت بصري إلى بعيد، شاهدت الجنازات تتوالى، وعشرات ثم مئات الناس الذين يحملون نعوشاً تكاد تطير، وفي الوقت نفسه كانت القوات تواصل الضرب في الناس من دون جدوى وهم يتزايدون، كان كل همي الآن، بعد أن تخلصت من الحقيبة، أن أفتح ثغرة لنفسي وأنجو من هذه المذبحة المنصوبة، ثم اختلط كل شيء: خراطيم مياه مفتوحة ينهمر الماء منها على المتظاهرين، رائحة الغازات، وأصوات طلقات الرصاص وصيحات غضب حاملي النعوش، والقوات المشتبكة بالهراوات والدروع، وما لبثت رائحة الغازات أن غلبتني وبدأت أفقد السيطرة على نفسي وأنا أبحث عن ثغرة، أي ثغرة.