كان العالم بأسره ينتظر نتائج الانتخابات في زيمبابوي وكأن خروج روبرت موغابي من الحكم سيأتي برياح التغيير في بلاد أنهكتها الأزمات الداخلية والمقاطعة الدولية. لم نر مثيلاً للضغط الخارجي الذي مورس على النظام الزيمبابوي، على رغم أن هذا البلد الذي احتضن أعرق حضارة في أفريقيا السمراء، يخرج من دائرة اهتمام الغرب المتجهة أنظاره إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لم يكن عدد الصحافيين الذين أتوا إلى زيمبابوي لتغطية الانتخابات العامة التي أجريت في 29 أيار مايو يتعدى العشرة. كنا ثلاثة فرق ننتمي للإعلام المرئي. أما الإعلام المسموع والمقروء فقد اقتصر على دول"صديقة"لهراري منها روسيا وإيران وفنزويلا والصين وجنوب أفريقيا. لكن لم تسجل انتهاكات واضحة. وحتى الاعتقالات التي استهدفت صحافيين أجانب يعود في الأساس لتغطية هؤلاء للانتخابات من دون ترخيص السلطات المحلية. وبغض النظر عن رأينا في الاعتقال، فإن السلطات الزيمبابوية كان لها سند قانوني. وهو مؤسف في كل الحالات. پاختار نظام الرئيس موغابي شهوده لكنه أخفق في لي ذراعهم وتجنيدهم لمصلحة، وهو ما انعكس على عملنا حين اعتقلنا في ثلاث مناسبات. لكن الاعتقال في زيمبابوي يختلف كلياً عن الاعتقال في العالم العربي، إذ يمنعنا رجال الأمن من الاتصال بأرباب أعمالنا، بل سمحوا لنا بذلك من دون أدنى تردد. وقد ذهلت من تعاملهم معنا، في وقت أسمع فيه بخرافات - لكنها حقيقية للأسف - تعامل البوليس العربي مع الصحافيين: اعتداءات لفظية وجسدية، حرمان المسجونين منهم من محاكمة عادلة ? على رغم أن التهمة باطلة أصلاً - وحتى من لقاء ذويهم أو محاميهم. نددت منظمات أهلية مستقلة من ضيق الحيز الزمني والمكاني المخصص للمعارضة في الإعلام الحكومي في زيمبابوي. لكن، كانت صورتا مورغان تشانغراي، مرشح الحركة من أجل التغيير الديمقراطي، وسيمبا ماكوني، المرشح المستقل، توشحان الصفحة الأخيرة من صحيفة"الهيرالد"التي تملكها الحكومة وتعتبر البوق الأكثر إزعاجاً وغوغائية لموغابي وجماعته. تذكرت في حينه الصحف الحكومية في مصر التي حرمت مرشحي المعارضة في الانتخابات الرئاسية عام 2006 من ربع عمود وإن في صفحة الوفيات. تذكرت أيضاً ما حصل في جريدة"لابراس"التونسية التي منعت نشر نعي نور الدين بن خضر بسبب تاريخه النضالي. وعلى مدى أيام، اتخذت حركة التغيير من أجل الديموقراطية من فندق"ميكلس"، أفخم فنادق هراري، مركزاً للقاءاتها ومؤتمراتها الصحافية، تحت نظر أجهزة الاستخبارات ولكن من دون تدخلها. شعرت أحياناً بأني أعيش حلماً أرى فيه دولة من أفقر دول العالم تعيش على نسق ديموقراطي تنقصه بعض التفاصيل والضمانات لكنه نسق متزن ومتواصل. وازداد هذا الشعور حدة عندما كنا نتطلع بفارغ الصبر الى النتائج النهائية، إذ أفقنا ذات يوم على خبر بالبنط العريض لصحيفة"ذو زيمبابوييان"المستقلة:"مجلس عسكري يحكم البلاد". عنوان مثير في ظرف عصيب. اتصلنا برئيس تحرير الصحيفة والسفارات الغربية فأكدوا الخبر. لكن ما شد انتباهي هو العنوان ذاته. تكهنت بالأسوأ للصحيفة وصاحبها. مر في ذهني شريط من التعذيب بصاحب المقال، بيد أن لا شيء من تشاؤمي أصاب الزميل الزيمبابوي. تساءلت هنا: ماذا لو نشر عنوان كهذا في صحيفة عربية؟ أعود إلى مسألة المنظمات الأهلية. فقد كانت اللقاءات والمؤتمرات تعقد بغير حساب، تحت أعين الاستخبارات، وكانت تقاريرها يومية وتخلو من الشعارات، وكان لها مندوبون ميدانيون توزعوا في أرجاء زيمبابوي. وفعلاً كان هناك عمل أهلي وجمعياتي في أفضل مستوى، مهنياً وأخلاقياً. ما يؤكد أن المعارضة، بشقيها السياسي والمدني، ليست دمى تحركها السلطة بل هي ركن من المشهد السياسي. فمبنى"هارفست هاوس"، حيث مقر الحركة من أجل التغيير الديموقراطي، أضحى مقصد الصحافيين والديبلوماسيين وقطاعات واسعة من الزيمبابويين. والتنظيم المحكم داخل الحركة جعل لكل عضو في مكتبها التنفيذي هامشاً من التحرك، خصوصاً مع وسائل الإعلام. وعندما كنت أتصل بالناطق باسم الحركة، نيلسون تشاميسا، لأسأله عن موضوع معين، كان يرشح لي إسماً، مبرراً ذلك بأن فلاناً"أكثر اطلاعاً على هذا الموضوع أو ذاك. لم يكن أحد من أعضاء المكتب التنفيذي للحركة يفكر أن يسرق الأضواء أو أن يفرض نفسه على الصحافيين أو أن يدّعي بطولة. تذكرت ما حصل لي مع الأعضاء المؤسسين لحركة"كفاية"في مصر. ففي عام 2005، كنت قريباً من الحركة وأنا أواصل بحوثي في القاهرة. وقد تعرفت إلى أغلب رموزها. وكنت أصاب بالاشمئزاز حين ألتقي أحدهم رأساً لرأس، فيسرّ لي بأنه هو من أطلق على الحركة إسم"كفاية"، وبمرور السنوات، اتضح أن أكثر ما أزعج السلطات المصرية هو إسم الحركة. لكن مصر والعالم العربي، إجمالاً، في حاجة إلى أكثر وأعمق من مجرد إسم، لتغيير الواقع المتردي. رفضت اللجنة الزيمبابوية للانتخابات الإعلان عن النتائج النهائية لانتخابات الرئاسة. فتحركت الآلة الديبلوماسية في المنطقة، ولم يتم تغييب المرشحين المعارضين. بل حضر مورغان تشانغراي قمة لوساكا لدول مجموعة التنمية في جنوب أفريقيا! كان ذلك اعترافاً ضمنياً من قادة المنطقة بوزن تشانغراي السياسي، وإن لم تتمخض القمة عن نتائج ملموسة. والحراك السياسي في زيمبابوي لم يكن ليحدث من دون وعي شعبي. كنا نعاني الأمرين عندما نعد تقاريرنا لاصطياد مواطن يعبر عن مساندته لروبرت موغابي. فالكل يطالب بالتغيير ولا شيء غير التغيير. * إعلامي تونسي.