عرف ديوان الشاعر أنسي الحاج "ماضي الأيام الآتية" حالاً من "العزلة" أو "الانكفاء" على خلاف الدواوين الأخرى التي توالى صدورها منذ العام 1960 تاريخ نشر"لن"الديوان الأول الذي لم يحمل سمات ما يُسمى الأعمال الأولى. ربما وقع"ماضي الأيام الآتية"ضحية"لن"ومقدمته الباهرة التي قد لا يصدق القارئ أن واضعها شاب في مقتبل العشرين، شاب سيكون شاعر القصيدة العربية الجديدة التي افتتحت عصراً لم يكن مألوفاً من قبل. ووقع هذا الديوان الصادر عام 1965 ضحية شعر الحب أيضاً الذي استطاع أنسي الحاج أن يتجلى به في ديوانيه"ماذا صنعت بالذهب، ماذا صنعت بالوردة؟"وپ"الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"، منتقلاً بالقصيدة العربية من عالم الغزل الى فضاء العشق الذي يمتزج فيه البعد الحسّي والروحي امتزاج الحبر بالماء. غير أن هذا الديوان الذي حلّ في مرتبة"البين بين"زمنياً وليس شعرياً، يستحق أن يُقرأ على حدة بصفته تجربة بذاتها كما بجماليتها وحداثتها. وقد بدا هذا الديوان أشبه بپ"المرحلة الوسيطة"التي تلتقي فيها شعرية اللعنة وشعرية الخلاص أو النعمة في المعنى الصوفي والكينوني. في هذا الديوان تصبّ هواجس"لن"وپ"الرأس المقطوع"ومنه تنطلق ملامح القصيدة الآتية، قصيدة الحب التي اكتسبت الصفة الملحمية في"الرسولة...". وقد تكمن هنا خصال هذا الديوان الفريد الذي لا يقلّ حدة وتشنجاً عن سابقيه "لن"وپ"الرأس المقطوع" ولا فتنة وسحراً عن لاحقيه "ماذا صنعت..."وپ"الرسولة...". ولعل قارئ أنسي الحاج يدرك هذا السر منذ أن تخطفه قصيدة"العاصفة"البديعة التي يستهل بها الشاعر ديوانه، وهي حتماً لا تقل جمالية عن قصائده الطويلة الأخرى. قصيدة تبلغ ذروتها في جمعها بين لحظتين متناقضتين ومنصهرتين في آن واحد: لحظة التدمير الذاتي ولحظة الانفتاح على العالم، لحظة التشنج ولحظة الصفاء، لحظة المستحيل ولحظة الممكن. في هذه القصيدة أطلق الشاعر صرخته التي ما زالت تتردد في سماء الشعر الراهن:"الأوجاع الأوجاع الشخصية لا أحد يعرف كيف". وفي قصيدة أخرى يعلن جهاراً يأسه من العالم والأوهام التي طالما أحاطت به منتصراً لتلك"الأوجاع":"غيّرنا العالم، نحن الشعراء، نحونا". إنها الخلاصة باختصار شديد: حلم رامبو ومشروع كارل ماركس ينتهيان هنا، في ضمير الجماعة الذي يعود الى"الشعراء". تغيير العالم لا يتمّ إلا داخل الشعر نفسه بل في سريرة الشعراء أنفسهم. حتى الحب في ديوان"ماضي الأيام الآتية"يتأرجح على حافة تطل من ناحية على هاوية عتمة الذات ومن ناحية على هاوية الضوء المنبثق من الروح:"خرجت تصيحين كقديسة وتصمتين كعاهرة". على هذا"الشفير"الذي تتداخل هاويتاه يدرك الشاعر ذاك"الجسد الذي لا يتجسّد"، ذاك الجسد الذي لا يصح مثل القصيدة التي لا تصح أيضاً كما يعبر. إنها حال الاكتمال التي تبلغ أوجها عبر الاستحالة أو حال الاستحالة التي تتحقق في اكتمالها المستحيل. لم ينتبه معظم النقاد الذين تناولوا شعر أنسي الحاج الى هذا الديوان الذي بدا منذ صدوره سابقاً الشعر السائد مثله مثل"لن"وپ"الرأس المقطوع". توقف هؤلاء كثيراً عند"لن"وعند مقدمته الصارخة المكتوبة بعصب متوتر توتر القصائد نفسها، وقرأوا أنسي الحاج من خلال قصيدة النثر والدور التأسيسي الذي أداه في هذا القبيل، وتناولوا أيضاً مفهوم اللعنة في الشعر واللالغة وسواهما من المفاهيم التي رسخها"لن". ولم يتوان بعضهم عن التوقف لاحقاً عند قصائد الحب أو حيال الشاعر العاشق الذي ارتقى باللغة الى مصاف الرغبة والشهوة النقية. أما"ماضي الأيام..."الذي يمثل إحدى ذرى أنسي الحاج فلم ينل ما يستحق من مقاربة أو قراءة. وقد يكون هذا الديوان الأشد فرادة أو حداثة بين أقرانه نظراً الى اللعبة الشعرية التي تتبلور فيه تمام التبلور وتبلغ أوجها في الممانعة والمكاشفة، في الانغلاق والانفتاح، في العنف والرقة، في الخسارة والاكتفاء. في هذا الديوان يواصل الشاعر"تدمير"اللغة التقليدية، نحواً وتركيباً، خالقاً معاني جديدة للمفردات وسياقات أخرى لها، مرتكزاً الى ما يسمّيه النقد الحديث"الانزياح". لكنه ينفتح في الحين عينه، على جماليات اللغة، محاوراً إياها ومكتشفاً فيها زوايا مجهولة وأصداء وتناغمات وتلاوين... إنها"جمالية التشنج"بحسب المقولة السوريالية تذوب في جمالية الانبساط خالقة إيقاعاً لغوياً عماده النَفَس الشعري والعصب والدم. لطالما خامرني شعور مفاده أن شعر أنسي الحاج هو شعر إيقاعي بامتياز. ولطالما أسرتني موسيقاه ? الداخلية واللفظية ? التي تبدو كأنها طالعة من إيقاع الجسد نفسه، في عزلته أو صخبه، هذه الموسيقى التي لا تعرف رتابة الوزن والقوافي، الموسيقى التي لا تبدأ ولا تنتهي بل تتواصل أو تتابع داخل الجمل أو الأسطر. إنها موسيقى النثر التي يجيد أنسي الحاج توقيعها، تلقائياً حيناً وتفنناً حيناً وكأنها جزء من اللعبة الشعرية والتجربة عموماً. إنها موسيقى النَفَس، نَفَس الروح ونَفَس الحواس، تتسارع أو تنبسط أو تنقبض أو تتهادى. هذه ناحية في شعر أنسي الحاج تستحق أن تُدرس بذاتها حقاً، لأن شعره قائم على موسيقاه الخاصة التي اكتسبت في قصيدته الملحمية"الرسولة..."طابع الموسيقى السمفونية. ومثلما قال هنري ميشونيك وجيرار دوسون في كتابهما البديع"بحث في الإيقاع"دار دونو ? باريس فإن الموسيقى لدى أنسي الحاج هي بمثابة"الإيقاع الذي هو أبعد من أن يكون عنصراً جمالياً مكملاً للشعرية العروضية". في هذا الكتاب يميّز الناقدان الفرنسيان بين الوزن العروضي والإيقاع الذي يتخطى النظام التفعيلي متجلياً في قلب النثر. لا يزال"ماضي الأيام الآتية"ديوان المستقبل على رغم مرور أكثر من أربعين عاماً على صدوره. ومَن يقرأه الآن يدرك كم أن شعر أنسي الحاج قادر فعلاً على التجدد وعلى مواجهة سطوة الزمن. إنه الشعر الذي يسبق نفسه دوماً الى المستقبل.