دخلت قصيدة النثر المستوى الذي تم التعامل فيه بصفتها مسلَّمةً غير خاضعة للجدل، أو انها تجاوزت لحظة الجدال والدفوع النقدية باتجاه الاستقرار وشيوع النموذج. ومما لا شك فيه ان انتصارها الواسع، عبر الانتشار والتأثير، أضفى نوعاً من التسليم على نظامها الجمالي والتعبيري. وليس من الأكيد ان كان هذا "التسليم" مؤشراً على انتفاء أي إمكان لتكون قصيدة النثر مطالبة بدفوع نقدية جديدة. فهي - أي قصيدة النثر - اضافة الى انها تحوّل جوهريٌّ في نظرية الشعر، فهي، في الوقت ذاته، تحوّلٌ في نظرية المعرفة، لما اشتملت عليه من مرجعيات مرتبطة بنظام التفكير. الناقد حاتم الصكر أعاد، مجدداً، ثقافة قصيدة النثر الى الواجهة. وما كان مسلّماً به يصبح معرفةً قابلةً لإعادة التعريف. ومن جهة أخرى يصبح الرجوع الى هذه الثقافة مناسبةً لبسط أوليات هذا التحول الجوهري، وإضفاء مزيد من الحيوية والتنشيط على كل المسلّمات التي استقرت في العقدين الأخيرين. "حلم الفراشة/ الايقاع الداخلي والخصائص النصية في قصيدة النثر" هو كتاب الناقد حاتم الصكر الذي صدر أخيراً عن لدى وزارة الثقافة اليمنية، 2004. موضوعة الايقاع تأخذ حيزاً أساساً في كتاب الصكر، لما لهذه الموضوعة من اتصال جوهري بفكرة قصيدة النثر. ومن خلال الايقاع يُعْرَف التحول الذي أحدثته هذه القصيدة، وكذلك يحدد الصكر أهمية موضوع الايقاع بأنه: "يجب ألا يتم بعيداً من تغير القنوات الاتصالية وانتقال الشعر من الشفوية الى الكتابة، الأمر الذي رتّب مزايا توصيلية لم تكن موجودة من قبل". وهو في هذا الشأن ينقل تشكيك البعض بعلم الخليل موسيقياً ويرد على هذا التشكيك بأن علم الخليل بالموسيقى واضح "في استباط زمنية الصوت ومدته وطبيعته التكرارية في البيت الشعري". وانطلاقاً من هذه المعرفة بالموسيقى عند العرب يرى الناقد النتائج "الخطرة" المترتبة على مثل هذا "الأساس الموسيقي لنظم الشعر العربي" في حال انه مجرد "تردد ظاهرة صوتية على مسافات زمنية محددة النسب". فيجمل النتائج بأنها تدفع الى فهم الموسيقى الشعرية "على انها الموسيقى الخارجية" وكذلك تصبح "البحور نماذج يقاس بها الشعر، فما لم يكتب وفقها ليس شعراً" وهو ما يؤدي الى توسع ظاهرة "التفاصيل الشفاهية" وكذلك "ربط المعاني النفسية بصور البحور". والأثر الذي يخلفه ربط الشعر بالوزن أدى به الى أن "ينفصل عن النثر" ويبتعد - النثر - "عن أي مؤثرات". ومن النتائج أيضاً "الزهد بالمعنى أو بالمضامين" وشيوع "المباشرة" وتكريس "النظام البيتي الذي يؤطر القصيدة"، وآخراً "تسفيه محاولات البحث عما يميز الشعر من النثر غير الموسيقي". يشير الناقد الى الاطار العام الذي أدى الى إبراز جانب "الايقاعات الداخلية" والعوامل التي مهّدت لظهورها. ومنها الشعر المترجم عن اللغات الأجنبية. والخلط العروضي الاختلاط بين تفعيلات أكثر من بحر. والتدوير، وهو تكريس السطر بديلاً للبيت. والنثر الفني، بالاعتماد على النفري وأنسي الحاج وأدونيس وجبران خليل جبران. والعامية الدارجة، وما عكسته من دلالات جديدة لم يعرفها الشعر. وتغير البنى اللغوية. وكذلك تغيرات البنى الثقافية. وينتهي الى ان الايقاع أسبق من العروض ولا يمكن تحديده حصرياً لأنه شخصي ومتغير وبأن لكل قصيدة ايقاعها الذي تصنعه. وان الخلاف حول الايقاع سيستمر طويلاً كونه مركز تقاطع لقضايا عدة. وفي العودة الى مسألة الموسيقى الخارجية التي تمثلها العروض والتفعيلات وحلول السطر مكان البيت نجد أن الناقد ترك المسألتين على حالهما من دون المساس بهما كمسلَّمتين جديدتين لا تخضعان للفحص! فمن جهة يمكن قصيدة النثر التفاعل مع الموسيقى الخارجية، هي الأخرى، لا من خلال العروض أو التفعيلات، بل من خلال المنطوق، وإلا ما هي المحددات التي تجعل من إمكان وجود السطر قابلاً للتحقق؟ اللبس الذي يرافق التقطيع السطري في قصيدة النثر مرجعه في الافادة التي لا تتحقق دائماً من موسيقى خارجية. والمتتبع لقصائد النثر في الآونة الأخيرة يلمح شيوع ظاهرة التقطيع القسري للأسطر بحيث تبدو وكأنها لازمة خارجية بالكامل وكان يمكن نشرها بواسطة أسطر كاملة لا يقطعها الا تغير المعنى أو تناول منعطف جديد في القصيدة. والحق يقال انها مشكلة نقدية مستقلة بسبب عدم حسم معيارية السطر في قصيدة النثر. والسؤال البحثي الذي يمتلك الأسس المفهومية اللازمة يكون: ما هو مدى العلاقة الممكنة في قصيدة النثر بين الموسيقى الداخلية والموسيقى الخارجية؟ ستترك أي إجابة عن مثل هذا السؤال أثراً معيارياً فاعلاً في السطر بديلاً من البيت الشعري، التي لا يمكن أحداً الادعاء بأنها حسمت حتى الآن. في التطبيقات الناتجة من التمهيد السالف في الكتاب ومجموعة التعريفات نجد النفري مقروءاً، عبر مقطع محدد، على خلفية "رؤية صراع الضمائر والأضداد لينبني بها عالم يقوم على التوازي بين الارادة والاختيار، ساهم إيقاع الفكر في تجسيده وتوصيله". والملاحظة الجوهرية تكمن في مسألة إيقاع الفكر التي تأتي مكملةً لاشاراته حول النتائج الخطرة لمفهوم الايقاع في الشعر العربي. ومنها خلوها من إيقاع الفكر السالف. وكذلك تستمر التطبيقات المقطعية فيقرأ الماغوط في قصيدة "أغنية لباب توما" فيشير الناقد الى "المفارقة" التي تشطر النص نصفين منذ عنوانه، وحضور الجملة الاسمية في المدخل ويفرد الأسماء الواردة في القصيدة ليبرز ما سماه "إيقاع التناقض". والصكر يذكّر مرة إثر مرة عبر تسمياته الجديدة للايقاع بما نوّه به في التأسيس من المشكلات الناتجة من معنى الموسيقى في الشعر العربي. ومن ديوان "لن" للشاعر أنسي الحاج يختار قصيدة "خطة" على خلفية ربط الجزء بالجزء والجزء بكلية النص. وكذلك المنطق الداخلي الذي يحكم هذا النص والمعتمد على التناظر والتتابع والسببي، معتبراً ان هذه هي مفاتيح فهم الايقاع في هذا المقطع. ومن مقطع لأدونيس يرى إيقاع العمل الموحّد وكذلك ما ينبثق عن صلة البؤرة، أي صلة الفكرة الرئيسة بتنويعاتها. ان كانت النتائج الخطرة تلك التي ترتبت على فهم الايقاع موسيقى خارجية كما أشار في التأسيس، فكيف ستكون مزايا قصيدة النثر في المقابل؟ وهي من القضايا التي خضعت منذ مدة طويلة الى التسليم المعرفي وصارت خارج التداول الثقافي وجاء كتاب الصكر لينشطها ويعيدها مرة أخرى كنظرية معرفة كما هي نظرية شعر. وهنا لا يفوت الناقد فرصة الاشارة الى ان قصيدة النثر بعد أن أفلتت من "التجنيس" قد أفادت من "الخصائص السردية" عبر لغة القص و"التسميات والحوار والحدث"، وتلك المزية الأولى التي يشير اليها المؤلف. ولأن التأسيس، فضلاً عن عنوان الكتاب وجوهره البحثي، قام على كشف الايقاع، فإنه من المنطقي اللازم أن يكون فهم الايقاع، محدِّداً مفهومياً لقصيدة النثر، فيشير الى المزية الثانية فيها وهي الايقاع لكن على انه "إيقاع داخلي يعوض عن الموسيقى الخارجية الغائبة" ]أليس من المفروض ألا يفترض الصكر هنا افتراضاً اطلاقياً غياب الايقاع الخارجي؟[، مؤكداً ان الايقاع "أشمل من الوزن والموسيقى الخارجية". ثم مشكلة المعنى كمحدد مسبق، تقليدياً، للشعرية. فيضيف النقيض كمزية جديدة لقصيدة النثر مستبدلاً المعنى ب"الايحاء" كونها "قصيدة دلالية". وينتهي الى ان قصيدة النثر قصيدة كلية "لا جزء فيها يغني عن سواه" وهي "لا تعلن عن نفسها بل تترك للقارئ حرية اكتشاف منطقها الداخلي الخاص". يركز الصكر على مزايا وخصائص نص لأنسي الحاج، في هذا القسم، هو "فتاة فراشة فتاة" معتبراً ان قصيدة أنسي الحاج اشراقية وتناقض القصيدة الشكلية وتتعمد تغييب مرجعها الذي دخلت "في تناص تناسخي معه". هذا مع العلم أن الشاعر الحاج حذف هذه القصيدة من أعماله، وهي منشورة في أحد أعداد مجلة "شعر" اللبنانية. ويمنح الناقد هذه القصيدة مساحة واسعة من التحليل الألسني منتهياً الى ان السمة الاشراقية لقصيدة أنسي الحاج لا تتحقق كاملة، فهناك دلالات "زمنية لم يشأ الشاعر التصريح بها". ومن هنا فإن لغته تؤدي "خدمات نصية مزدوجة". يتضح مما سبق ان الاهتمام بالجانب الداخلي سواء للايقاع أو للايحاء يفقر الجانب الخارجي الذي بالغ بعض النقاد بربطه، تحديداً، بموسيقى التفعيلة والعروض. وكما أشرنا الى ضرورة عودة خارجية الايقاع الى قصيدة النثر وعدم بقائه أسير التصنيف "الثوري" الذي استبعد فاعلية المنطوق في النثر بدعوى ارتباط الايقاع الخارجي بال"المتمرَّد" عليه، ألا وهو الشعر العروضي. هنا يجد الناقد الفرصة مواتية للاشارة الى مزايا الشفاهية في القصيدة العربية الحديثة. يشير الى "الانشاد" كواسطة تدل على مآزق منها التضحية بالفن الشعري وربط الشعر بالخارج وإضعاف أبنية الشعر اللغوية والتفريط بوحدة النص الشعري وتقليص مهمة التلقي الشعري وحصرها بالاستماع والتنازل عن مزايا الكتابة الشعرية والغاء الخبرة البصرية. مواصفات الانشاد هذه مهّدت لتكون الأنماط الفنية للشفاهية الجديدة متمثلة بالنزوع الدرامي الذي يمثل حنيناً لمخاطبة الآخر، والتكرار كسمة تمتاز بها الملامح الشعرية القديمة، والتضمين بالتناص من خلال المفارقة أو تعديل النصوص المضمنة، ومنها تحسين الاستهلال والعناية بالخواتم، والتجنيس الداخلي وجناس القلب وسواها. تعود الاشارة الى قيمة الايقاع الخارجي، لكن هذه المرة من خلال ما سماه الصكر بمشكلات توصيل الشعر من خلال شبكة الاتصال المعاصرة، متسائلاً: ما الذي خسره الشعر بتحوله من طور الانشاد الى القراءة؟ وفي شيء من التناقض الفلسفي يقع فيه الصكر عندما يعتبر ان شاعر الانشاد مضطر الى تفتيت القصيدة والتدرج عبر الأغراض وصولاً الى الغرض الرئيس لكي يلفت اليه الأسماع! ما يدفع الى الاستفهام عن معنى وجود القصة والحكاية كميزة لقصيدة النثر كما عبّرت سوزان برنار وكما أفاد المؤلف نفسه! ففي النثر يظهر التدرج نفسه، وهكذا. وهو ما أشار اليه في نهاية الكتاب عندما حدد جوانب الاقتراب من السرد في قصيدة النثر بالبؤرة النصية المولدة والاختزال والتكثيف الصوغي والتكرار والتنامي وسواها من تقاطعات لم يخرجها المؤلف من الالتباس التي أظهرها فيه. التناقض جزءٌ من الوحدة في الفكر الفلسفي ويوصف الكثير من الفلاسفة بالتناقض وهو ما أنتج تعبير "التناقض الفلسفي" الذي ربما يتحول هنا تناقضاً نقدياً، والذي يعكس غنى القضية التي يعمل عليها الصكر ويعكس كذلك تعمق الناقد بقضايا النقد والأب في الشعر العربي المعاصر منتجاً كتابه القيّم الذي بين أيدينا والذي قدّمنا لبعض ما ورد فيه حيث يتجلى الجانب الشديد الأهمية في المسعى الذي يعمل الصكر عليه وهو تشكيل نوع من الوحدة الديناميكية بين نظرية الشعر ونظرية المعرفة.