ما زالت المطربة اللبنانية سمية بعلبكي مستمرّة في ما يمكن وصفه بتحدي الانحطاط الغنائي والموسيقي، المنتشر بكثرة في بلادنا العربية. وقد عادت بطلّة مشرقة كعادتها، وبصوتها البديع الطالع من عمق الإحساس بالموسيقى والشعر، لتقدّم أسطوانة"أرابتانغو"من إنتاج شركة"فوروورد ميوزك"مشغولة بمعرفة واتقان. أطلّت ليل أول من أمس، بعد غياب طويل، في حفلة على مسرح بابل في بيروت، لتؤدي أغنيات عربية على إيقاع التانغو. بفستانها الأحمر"الساتان"ووجهها الصبوح الرامز الى شغفها بالموسيقى، طلعت من بين 8 موسيقيين عبود السعدي، أرتور ساتيان، كلود شلهوب، طوني ديب، فؤاد عفرا، زياد سحاب، خالد ياسين، وسلمان بعلبكي يرتدون لباساً أسود حالكاً. بدأت بصوتها الجهوري بأغنية"أطلب عينيّ"للملحن محمود الشريف بتوزيع جديد لغازي عبد الباقي وزياد سحاب. فأصغى جمهورها العريض من أجيال مختلفة غصت بهم القاعة، على مدى يومين متتاليين، بحس وإدراك. اخترق صوتها الآذان المتيقّظة المتعطّشة إلى الطرب الأصيل، كأنه يُعلن ثورة بيضاء ضد"التلوث السمعي"الضارب هذه الأيام. خمسين دقيقة متواصلة، غنّت سمية من ألحان محمد عبد الوهاب، وزكي ناصيف، ومدحت عاصم، وهاني شنودة، فتألق صوتها الشرقي الذي يحمل في ثناياه أعمق الآهات وأجمل التعرّجات. خرجت الحروف من حنجرتها واضحة كتغريدة عصفور. وجاء أداؤها سليماً بإحساس عال مختلف كل الإختلاف، عن أداء مطربات هذه الأغاني مثل أسمهان وليلى مراد ونجاة الصغيرة وزكي ناصيف نفسه. فاستطاعت سمية والفرقة الموسيقية بقيادة عبود السعدي، مع الارتجالات والمقدمات الموسيقية اللافتة، بين أغنية وأخرى، نقل المستمعين الى عالم حالم بأيام الزمن الجميل. "يا سلام"تقول السيدة الخمسينية لزوجها الذي يميل برأسه طرباً، بعد سماعها سمية بأغنية"بحلم معاك بسفينة"لنجاة الصغيرة. ثم يبدأ النقاش بينهما وبين ابنتهما العشرينية الآتية من الولاياتالمتحدة. تتابع الكلمات وارتفاع الصوت وانخفاضه، بدقّة المتخصّص أو المكتشف! تشرح لها الأم بين الفينة والأخرى، أهمية هذه الأغنية أو تلك، وأسماء مؤلفها وملحّنها وموزّعها. لكن الفتاة العاطفية، لم تستطع كبت مشاعرها وحصر دموعها، عندما أُطربت لأغنيتي"أحبك وانت فاكرني"و"لا مش أنا اللي أبكي"... وفي الختام، حين همّت سمية بشكر الحاضرين في عزّ نشوتهم الطربية، صرخ أحدهم"لا غير مقبول"، وخاطبها آخر"نريد بعد لا تكفينا تسع أغنيات فقط". لكن الحفلة مبرمجة على هذا النحو، والمرأة الجميلة ذات الصوت الرخيم، تحترم البرمجة وتحترم المعيار الذي على أساسه نّظمت الحفلة. فالتزمتتأدية أغنيات الأسطوانة فقط. مسيرة سمية على نار خفيفة، جعلت صوتها وإلمامها بالموسيقى أكثر نضجاً، على رغم صغر سنّها. فاستطاعت وغازي عبد الباقي في"أرابتانغو"إحياء فن عريق، بتطويره وتحديثه والحفاظ على أصالته في آن ، ليبدو معهما وكأنه لون معاصر يخاطب الأذواق الراهنة. إنها تعرف ما تريد، وكيف تغني الطرب الأصيل، وما معنى أن تُعيد غناء ألحان هؤلاء العظماء في توزيع جديد، من دون أن تمسّ أصالة الألحان. ف"أرابتانغو"كان بمثابة تحدّ للشركة المنتجة ولسمية بعلبكي معاً، وهي مغامرة تأخذنا الى عالم بديع وساحر، وقد ربحت الرهان.