بصوتها العذب وأدائها الرقيق، الجارح برقته، وذائقتها الصائبة والمرهفة، افتتحت المغنية ريما خشيش الاحتفال الذي تقيمه الجامعة الأميركية في بيروت تكريما للفنان الكبير زكي ناصيف، وهو يدوم حتى السنة المقبلة ويشهد حفلات أخرى يحييها فنانون آخرون مثل الموسيقي شربل روحانا والمغنية أميمة الخليل وسواهما. وهذه البادرة التكريمية تعيد إلى هذا الفنان الراحل حقاً حُرم منه طوال أعوام جراء حملات هدفت إلى تغييب دوره في الريادة الموسيقية والغنائية. ومن عرفه عن كثب، يدرك كم كان صاحب «راجع يتعمر لبنان» يشكو هذا الإغفال الذي طاوله، متحدثاً عن مؤامرة حيكت ضده. لكنه في أعوامه الأخيرة استطاع أن يحصد نجاحاً شعبياً وإعلامياً كبيراً جعله في مقدم المشهد الغنائي «البلدي» والرومنطيقي، ومن أعماله المهمة التي أنجزها آنذاك تلك الأغنيات التي لحنها للمطربة الكبيرة فيروز. حسناً فعلت لجنة تكريم زكي ناصيف في اختيارها ريما خشيش لافتتاح هذا الاحتفال، فهذه المغنية التي تتميز بصوت جميل وصاف، ذي قماشة نادرة، وبغناء متمكن يجمع بين الإحساس العميق والوعي التقني والرهافة، تملك ثقافة وذائقة تتيحان لها دوماً أن تنجح في اختيار أغنياتها من «الريبرتوارات» التي تعمل عليها، جاعلة من هذه المختارات الغنائية فرصة فنية ثمينة لإبراز موهبتها وقدراتها وفرادتها في منح الأغنيات القديمة بعداً جمالياً جديداً ولمسات فريدة وجواً آخر ملؤه الطلاوة والسحر. لم تشأ ريما خشيش أن تقدم أغنيات رائجة ومعروفة، وبعضها كاد يقع في الاستهلاك، لزكي ناصيف في تكريمها إياه، بل اختارت أغنيات شبه مجهولة لا يعرفها إلا الهواة الحقيقيون الذين تابعوا مسار هذا الملحن والمطرب. لم تشأ أن تؤدي أغنياته العاطفية والرومنطيقية «الوردية اللون» كما يقال، بل انتقت له أغنيات كانت أدتها المطربة وداد مثل: «في وردي» و «بتكي بكن» و «ياحبيب خدي بأيدك» و «دمعة وزهرة»... وفيها حلقت كعادتها خالقة مناخاً بديعاً لحناً وصوتاً وتلاوين، ومضيفة إليها نسمات غير مألوفة. وغنت من ألحان ناصيف أيضاً أغنية جميلة للمطربة صباح «رايحة قابل» وأخرى شعبية للمطربة سميرة توفيق «هلا يا ريم الفلا»، إضافة إلى أغنية «ع دروب المحبوب» التي بدت معها وكأن زكي لحنها لها خصيصاً. أما الأغنيات الأخرى فكانت من أعمالها الخاصة ومنها: «بيكفي اللي فيّ» و «فلك»... وكانت رائعة أغنية الموسيقار الكبير عبد الوهاب «أحبو مهما أشوف منو»، وفيها خلقت جواً من الأداء المتهادي والشديد العذوبة والرقة، لا سيما عبر العطفات والعرب التي طلعت بها. وقد رافقتها فرقة من سبعة موسيقيين وجوقة من أربعة منشدين. يكمن سرّ ريما خشيش في أنها عندما تختار أن تغني أغنيات أدّاها قبلها مطربون ومطربات، تجعل جمهورها ينسى من غناها سابقاً فتصبح وكأنها تُغنى معها للمرة الأولى. لعله صوتها الساحر الذي يعيد صهر اللحن والكلمات في صيغة موسومة بطابعه، ولعله أيضاً أداؤها البارع والطالع من عمق التجربة والإحساس وعيش اللحظة الغنائية عيشاً وجدانياً. أما التحية التي وجهتها إلى زكي ناصيف فهي من أجمل ما يمكن أن يوجه إليه من تحيات: إعادة إحياء أغنيات شبه مجهولة له وجعلها عصرية مع المحافظة على أصالتها، ثم تقديم باقة من أغنياتها الخاصة على «مائدة» المحتفى به.