ثلاثة أمور ظهرت في وقت واحد، كان في إمكانها ان تضع المخرج الإيطالي دينو ريزي، في واجهة الأحداث السينمائية، حتى وإن كان، قبل أسابيع من الآن، قد تجاوز التسعين من عمره. لكن أمراً رابعاً تغلب على تلك الأمور الثلاثة ليقفز به الى واجهة الأخبار: رحيله من حيث لم يتوقع أحد. إذ، ما إن انتهى مهرجان"كان"حتى شغل خبر موت دينو ريزي، أهل الفن السابع، ليتساءل كثر: هل جاء هذا الرحيل إشارة ما؟ ذلك ان ريزي، الغائب على أية حال، عن الإنتاج السينمائي منذ سنوات طويلة، كان واحداً من الذين أسسوا لتيار كبير وأساس في السينما الإيطالية هو تيار الكوميديا السياسية. هذه الكوميديا التي أتى الحضور الكثيف للسينما الإيطالية خلال الدورة الأخيرة لپ"كان"، كما أتى فوز فيلمين سياسيين ايطاليين بجائزتين أساسيتين ليطرح سؤالاً فحواه: أين صارت؟ فإذا كانت السياسة بقيت مخيمة بقوة على سينما شبه الجزيرة... فكيف حدث ان انفصلت هذه السياسة عن شقها الكوميدي؟ وإذ طرح هذا السؤال، كان من الطبيعي أن تقفز الى الأذهان سينما ريزي، التي يبدو أنها لم تترك وريثاً، تماماً كما حدث حين رحل أو اختفى زملاؤه من أقطاب هذا التيار، من ايليو بيتري الى بيترو جيرمي وصولاً الى لويجي كومنشيني. ترى، ألاَ يقول لنا هذا شيئاً ما عن انتصار فرانشيسكو روزي صاحب السينما السياسية من دون كوميديا على تيار الكوميديا السياسية؟ انطلاقاً من مثل هذه الأسئلة، كان الأمر الأول الذي أسفر عن حضور لريزي في الواجهة. ضد التيار الأمر الثاني كان وودي آلن. فهذا النيويوركي، الذي تخصص له فصول أساسية في كل الكتب والمناسبات التي تتحدث عن تاريخ الكوميديا في السينما الأميركية، والذي عرض فيلمه الأخير في"كان"، لم ينل، منذ فيلمه"جوانيات"أية حظوة لدى ريزي، الذي كان يصر على أن لا كوميديا في أفلامه ولا يحزنون. والحقيقة أن ريزي كان، في مثل هذه التصريحات، يقف ضد تيار سائد يرى في سينما آلن، سينما كوميدية بامتياز... حتى جاء فيلم"فيكي كريستينا برشلونة"ليواصل تأكيد ما قاله ريزي عن سينما وودي آلن المثقفة"انما التي تفتقر الى حس كوميدي حقيقي". أما الأمر الثالث فأكثر خطورة: يتعلق هنا بفيلم"عبادة"للكندي آتوم ايغويان. إذ ان هذا الفيلم، الذي يحكي عن فتى يخترع لنفسه، على الانترنت، حكاية حياة مثيرة، انما استقى الحكاية من قصة حقيقية عن"مناضل"أردني حمَّل خطيبته الإرلندية الحامل منه، حقيبة مفخخة كان يفترض أن تنفجر بها وبالركاب خلال رحلة على متن طائرة تابعة لشركة"العال"الإسرائيلية. ما دخل ريزي بهذه الحكاية؟ من يشاهد فيلم"الوحوش الجدد"لريزي عنده الجواب: هذه القصة الحقيقية التي استخدمها ايغويان عماداً لفيلمه عام 2008، كان ريزي جعل منها واحداً من الاسكتشات الأساس في ذلك الفيلم. إذاً، كان من شأن هذا كله أن يضع ريزي في الواجهة... لكن الموت غيَّر الأولويات، ليجد أهل المهنة أنفسهم بمن فيهم أولئك الذين، لغياب ريزي عن الساحة السينمائية منذ سنوات طويلة، كانوا اعتقدوه قد رحل مفاجئين بموت الرجل، وبالتالي بغياب جزء أساس من تاريخ السينما الإيطالية هو الجزء المنسي، حيث ان تيار الكوميديا الاجتماعية والكوميديا السياسية في السينما الإيطالية، كان لا يزال يتمثل فقط عبر حضور دينو ريزي، حتى وإن كان البعض يفضل ان يرى في سينما ناني موريتي، استمرارية ما لذلك التيار. مهما يكن، من الواضح ان ما قاله دينو ريزي يوماً عن وودي آلن واختفاء الكوميديا الحقيقية لديه، يمكن أن يقال هنا عن ناني موريتي الذي راحت حصة السياسة والدراما تتزايد لديه تدريجاً، على حساب الكوميديا، والكوميديا الذكية تحديداً. السينما الوسط ذلك ان النزعة الكوميدية التي سادت التيار الذي ارتبط به اسم ريزي، اتسمت بالذكاء الواصل الى حد العدمية الفوضوية. ولعل هذا كان الفارق الأساس الذي فصل بين سينما سياسية تشتغل من طريق الكوميديا ريزي، كومنشيني، بيتري، جيرمي بل حتى ايتوري سكولا لتقول ما هو فاسد ومرعب في السياسة الإيطالية، وبين سينما سياسية أخرى تشتغل أيديولوجياً وحزبياً فرانشيسكو روزي. ومع هذا كله لم يكن هناك، في سنوات ريزي الأولى ما يشير الى انه سيصبح سينمائياً، اذ إن هذا الفنان الذي ولد عام 1916، في ميلانو، عاصمة الشمال الإيطالي الجاد والبارد، كان يريد أول الأمر أن يكون طبيباً، وفي شكل أكثر تحديداً: طبيباً نفسانياً... ونال دبلوم الدراسات العليا في هذا المجال، بالفعل. غير ان لقاء له مع سينما ماريو سولداتي ثم مع سولداتي نفسه، أقنعه بأن السينما تناسب أفكاره وتطلعاته في الحياة أكثر من العيادة الكئيبة وديوانها"الفرويدي"الشهير. وهكذا دبر أموره بحيث نجده عام 1941، مساعداً لسولداتي في فيلم"العالم القديم الصغير". ثم في العام التالي، نجده متعاوناً مع صديقه الدائم لاتوادا، على فيلمه الأول"واكيم المثالي". ومنذ ذلك الحين بدا واضحاً أن مستقبل دينو ريزي قد تحدد نهائياً، حتى وان كان هربه من ايطاليا من الفاشيين خلال العالم الأخير من الحرب العالمية الثانية، شكل قطيعة ما له، مع السينما الإيطالية. لقد هرب الى سويسرا، غير ان ذلك لم يردعه عن مواصلة طريقه، إذ هناك انضم الى فريق متحلق من حول الفرنسي جاك فيدر ليعمل مع هذا الأخير ويتعمق في تفاعله مع تقنيات السينما الأوروبية، حتى من دون أن يؤثر عنه انه من الهواة الحقيقيين لفن السينما. المهم في هذا كله ان بين السينما الايطالية، السابقة على عهد أصحاب الواقعية الجديدة، والسينما الفرنسية ذات البعد التقني الكلاسيكي، ولد ذاك الذي سيصبح خلال عقود تالية واحداً من أكثر المخرجين الإيطاليين شعبية، وصاحب عدد كبير من أفلام أخذت على عاتقها وان تدريجاً فضح كل ما هو سيئ وخبيث في السياسة والمجتمع الإيطاليين. ولكن، ليس من وجهة نظر المثقف ذي الأفكار التركيبية، انما من وجهة نظر ابن الشعب البسيط الذي يميل دائماً الى قول الأشياء كما هي. فحين يريد ريزي ان يقدم فيلماً يفضح الفاشية وأسلوب تأطيرها للناس السذج، كاشفاً أواليات اشتغال تلك الأيديولوجيا الخطرة على"الشعب"، لم يكن يحتاج، مثلاً، الى أكثر من أن يضع على الشاشة، صورة تلك المسيرة الهائلة الى روما، والتي لعبت، عام 1920، دوراً أساساً في تثبيت حكم موسوليني. حدث ذلك في فيلم"المسيرة الى روما"1962 الذي يعتبر من أكثر أفلام ريزي قوة وشعبية ومسماراً أساسياً دقّ في نعش الفاشية الإيطالية. ولئن أخذنا هذا الفيلم مثالاً، يمكننا طبعاً أن نتابع بحيث نستعرض معظم أفلام ريزي، التي من خلال استخدام النجوم الكبار، متجمعين أو متفرقين، ومن خلال سيناريوات بسيطة وخطية، وحوارات مباشرة ترتبط كلياً بتعمق ريزي السيكولوجي في دراسة شخصيات أفلامه، أتت دائماً لتقول كل ما كان لفنان تقدمي مثل ريزي أن يقوله، حول الماضي... ولكن كي يصل الى الحاضر أيضاً. فالحال أن ريزي، ورفاقه، حين كانوا، خلال سنوات الستين ثم السبعين وحتى الثمانين من القرن العشرين، يحققون تلك الأفلام الشعبية الفاضحة غالباً لصعود الفاشية واشتغالها على الأذهان البسيطة، أو المتحدثة عن التواطؤ بين رجال الدين ورجال السلطة، وعن فساد أصحاب رأس المال وجشعهم، أو عن تفكك الحياة العائلية أو فقدان القيم، لم يكن همهم محاكمة الماضي بقدر ما كان التنبيه الى ما يحدث وسط مجتمع كانت ولا تزال قوى فاشية تنخر فيه استعداداً لوراثة"الديموقراطية المسيحية"التي كانت تهيمن على ايطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مشكِّلة أرضاً خصبة لولادة الفاشيات الجديدة عبر استعادة الفاشيات القديمة. كان هذا ما يريد ريزي وأصحابه قوله والتنبيه اليه. طبعاً، لن نقول هنا ان هذا الهم يهيمن على كل سينما دينو ريزي. فالرجل حقق طوال مساره المهني الممتد بين 1941 و2002 حين حقق عمله الأخير"صبايا ملكة جمال ايطاليا"، عشرات الأفلام. ومعظم هذه الأفلام أتى ترفيهياً خالصاً، محققاً لمنتجيه مردودات كبيرة. ولكن في خضم ذلك حقق ريزي نحو دزينة من أفلام تستحق بالفعل أن تدخل بقوة في تاريخ السينما الإيطالية المميزة، حتى وإن كان من الصعب وضع ريزي أو حتى أي واحد آخر من رفاقه من أصحاب"الكوميديا السياسية"باستثناء ايتوري سكولا - في خانة أصحاب الصف الأول في السينما الإيطالية مثل: انطونيوني، فيسكونتي أو فلليني. ومع هذا تستوقفنا دائماً، بالتأكيد أفلام علامات، تحمل توقيع صاحب"المسيرة الى روما"، مثل:"الوحوش"1963 وپ"الوحوش الجدد"، وپ"باسم الشعب الإيطالي"1971 الذي دنا فيه المخرج من مسألة القضاء وعلاقته بالمضاربات العقارية، وپ"خطف على الطريقة الإيطالية"1972 وبخاصة"عطر المرأة"1974 الذي استعيد في فيلم أميركي لعب فيه آل باتشينو، دور الأعمى الذي كان لعبه فيتوريو غاسمان في فيلم ريزي، وپ"نفوس ضائعة"1975 وپ"غرفة القسيس"1976 وپ"شبح الحب"1981 وپ"الملك الطيب داغوبير"وپ"مجنون الحرب"أحد أقوى أفلام ريزي وأجملها وپ"فالس الحب"1990. من خلال مثل هذه الأفلام، قدم ريزي رؤية تقدمية للمجتمع الإيطالي، كما سار - كما فعل مجايلوه - بالسينما الإيطالية الى الأمام. وربما الى موقع وسط وناجح بين السينما المثقفة، التي صنعت المجد الكبير لهذه السينما وللثقافة الإيطالية في شكل عام، والسينما الشعبية الترفيهية، التي صنعت أموالاً على الأقل. بين ذينك التوجهين، إذاً، عرف دينو ريزي كيف يحتل مكانه، كجزء من سينما سادت خلال عقود، لتقدم، إضافة الى الرؤية الاجتماعية والسياسية الناقدة، حلولاً لأزمة السينما نفسها، في وقت كانت السينما الإيطالية تبحث عن دروب تجديد لها.