في واحد من المشاهد ذات الدلالة في فيلم «المسيرة الى روما» للمخرج الإيطالي دينو ريزي، يلتفت واحد من أبطال الفيلم الى واحد من زعماء المسيرة سائلاً إياه: «لماذا تراك تمنعني من الكلام، مع أن برنامج المسيرة في سبيل الوطن والحزب يتحدث عن حريتي المطلقة في التعبير؟». فيكون الجواب هنا: «نعم الحريات مضمونة تماماً. ومن هنا، إذا كانت لك أنت حرية التعبير، فإن لي أنا حرية أن أضربك...». طبعاً لا يمكن أحداً أن يؤكد أن حواراً من هذا النوع قد دار خلال تلك المسيرة الشهيرة التي أراد فيلم ريزي أن يتحدث عنها، إنما على طريقته الخاصة بعد نحو أربعين عاماً من حدوثها. غير أن الحوار في حد ذاته يكشف الكثير عن الروح الحقيقية، والبرنامج الحقيقي، اللذين كانا في خلفية التظاهرة. والمعروف تاريخياً أن المسيرة الى روما، جرت حقاً بين 22 و29 تشرين الأول (اكتوبر) من عام 1922، حيث قاد الزعيم الإيطالي الفاشي بنيتو موسوليني، جموعاً هائلة العدد من الإيطاليين الآتين من كل أصقاع شبه الجزيرة ومدنها ومناطقها، للإعلان - للمرة الأولى على تلك الضخامة - عن ولادة الحزب الفاشي، الذي إثر ذلك سيحكم البلد طوال نحو ربع قرن، خائضاً بها في طريقه، وإلى جانب النازيين الألمان بزعامة هتلر، الحرب العالمية الثانية التي انتهت بتدمير الاثنين معاً. أما فيلم ريزي الذي حقق عام 1962، فإنه شاء أن «يؤرخ» لتلك المسيرة في زمن كانت فيه القوى الفاشية الشعبوية تستعيد قوتها بعد هزيمة سنوات الأربعين وتحاول العودة الى الحكم من جديد في بلد كانت حياته الاجتماعية والاقتصادية تتدمر من جديد. من الواضح هنا، إذاً، أن دينو ريزي حين حقق الفيلم، كان يحاول أن يوجه رسالة سياسية واضحة، محذراً الإيطاليين من مغبة الوقوع في الفخ الفاشي من جديد. ومع هذا لا بد من القول منذ البداية هنا، أن الفيلم لم يأت عملاً أيديولوجياً وغظياً مملاً كما حال الأفلام التي تحمل هذا النوع من الخطابات عادة، بل أتى مسلياً، كوميدياً، واستخدم فيه صانعه «بطلين» من كبار نجوم السينما الإيطالية الشبان في ذلك الحين: فيتوريو غاسمان وأوغو تونيازي، ما ساهم في إيصال الفيلم، شكلاً ومضموناً الى الجمهور العريض، الذي حقق للفيلم إقبالاً، جعله يفتتح، مع شرائط مبكرة أخرى، ذلك التيار السينمائي الإيطالي الذي عرف ب «الكوميديا الجديدة». والجزء الأساس من أفلام هذا التيار أتى مازجاً بين حس الفكاهة والوعي السياسي العميق، عاملاً على إيصال كل أنواع الرسائل السياسية عبر شرائط من هذا النوع، وغالباً من طريق استخدام نجوم كبار وتقنيات متطورة، لعلمه أن الهدف الأساس يومها، لم يكن تحقيق أفلام نخبوية تجريبية، بل تحقيق أفلام شعبية توصل الخطاب السياسي (التقدمي في معظم الأحيان) الى الجمهور العريض، لدفعه الى التفكير - بعد أن يضحك كثيراً على ما شاهد - وفي شكل عميق، في ما ينتظره إن هو أخطأ في اختياراته. كان من أقطاب ذلك التيار دينو ريزي ولويجي كومنشيني، ثم إيليو بتري وبييترو جيرمي وصولاً الى إيتوري سكولا، كما أن معظم كبار النجوم في إيطاليا تعاونوا معه. ويمكننا أن نقول إن التيار فعل فعله، بتسخيفه النزعة الفاشية وحيلولته دون إعادة الاعتبار الى موسوليني. وفي عودة هنا الى «المسيرة الى روما»، يمكن القول إن هذا الفيلم بدا فاعلاً، إذ رصد أصول المسيرة من الداخل، ومن دون أي تدخل أيديولوجي من الخارج. ذلك أن الفيلم اختار كوجهة نظر له، اثنين من أبناء الشعب البسيط، وجدا نفسيهما ينضمان الى تلك التظاهرة أسوة بالبسطاء الشعبيين من أمثالهما. وكان الدافع برنامج عمل صاغه موسوليني ومساعدوه وامتلأ بالوعود والعبارات الديماغوجية، التي استقاها الزعيم من تجربته السابقة كزعيم اشتراكي (والمعروف أن موسوليني، قبل تحوله الى الفاشية و «اختراعه» لها، كان مؤسساً للحزب الاشتراكي الإيطالي وصاغ له معظم برامجه المقتبسة، خبط عشواء، من الكتابات الماركسية). وهذا ما مكن التنظيم الفاشي من أن يطرح ما اعتُبر يومها «هموم الناس» - بالتضاد مع الكنيسة الكاثوليكية ورجال الأعمال والتنظيمات الشيوعية والسلطة السياسية -، لا سيما في أوساط القرى والمناطق الريفية، والى حد ما بالتضاد مع المدينة التي كانت تشكل محط حسد البسطاء وكراهيتهم. يومها، وللانضمام الى المسيرة التي كان هدفها تجميع البسطاء للاستيلاء على السلطة، لم يكن ثمة سوى شرطين: الإيمان المطلق بسلطة الزعيم من ناحية، وارتداء قميص أسود - هو رمز الفاشية في كل زمان ومكان -. وبعد هذا، لا يهم كثيراً أن يقرأ المشاركون برنامج العمل أو لا يقرأونه، لأن الإيمان الأعمى بالزعيم يُغني عن ذلك كله. غير أن المشكلة التي تعطي الفيلم بُعده الأساس، هي أن بطلينا المشاركين في «المسيرة» قرآ البرنامج. ومن هنا وفي شكل تدريجي، وإذ راحا يرصدان خلال السير وأيامه الحماسية، تناقضات جوهرية - مضحكة في أحيان كثيرة - بين ما خُطّ على الورق، وما هو قيد الممارسة من جانبزعماء القمصان السود، بدأ الوعي يتشكل لدى الرجلين البسيطين. ومن الوعي الى التساؤل، ومن ثم طرح التساؤلات في شكل غاضب، خطوة راح هذان يقطعانها، لتحمل في نهاية الأمر جوهر الفيلم ومضمونه. والحقيقة إن فاعلية الفيلم تبدّت ها هنا بالتحديد: خلال التقدم في اتجاه روما ثم في داخلها، وإذ راح الرجلان يرصدان التناقضات، تبدأ الأمور بهما الى الحبور أمام ما يحدث، لا سيما عند إحراق مبنى تابع للحزب الشيوعي الإيطالي - الذي كان في أزمانه المبكرة العدو اللدود للفاشيين، قبل أن تأتي أزمان لاحقة، على رفاقه في البلدان الأخرى ليتحولوا الى حلفاء لهم! -... غير أن هذه لا تكون سوى إشارة أولى، إذ من بعد ذلك راحت ضروب التناقض مع البرنامج المعلن تظهر أكثر وأكثر، لا سيما حين راح عدد المشاركين يزداد، وبالتالي يشعر الزعماء المنظمون، الذين كانوا هم أول من أدهشه تضخم التظاهرة، أنهم لم يعودوا في حاجة الى أي تبرير. وهكذا، بعدما كانوا أول الأمر يجهدون لتبرير وتفسير وتجميل ما يحدث وما يقال، صار في إمكانهم الآن أن يقمعوا أي تساؤل وأن يستنكروا أي استنكار. كانت القوة قد صارت في أيديهم، ولم يعد من حق أحد أن يطرح أي سؤال، ولو على سبيل الاستفهام البسيط! من الناحية التاريخية، نعرف أن أصحاب القمصان السود حققوا في مسيرتهم نجاحاً كبيراً، لا سيما منذ اللحظة التي تم فيها غزو روما على تلك الشاكلة ولم يعد مسموحاً لغير الزعيم - الذي صار إذّاك ذا مهمة إلهية لا لبس فيها ولا غموض! - بالكلام. ولئن كان الأمر انتهى - في الفيلم - بترك البطلين للحزب الفاشي عائدَين الى ديارهما خائبين حزينين، فإن موقفهما لم يهم أحداً. إذ في مقابل وعي اثنين، كان هناك عمى الملايين التي ما كان في إمكانها أبداً أن تتبصر حقيقة ما يحدث وما ينسج لها وللوطن. أما بالنسبة الى دينو ريزي، فمن الواضح - ولا بد من قولها هنا مرة أخرى - أن التأريخ لتلك المسيرة لم يكن هماً من همومه في فيلمه الكبير والمميز هذا، وكذلك لم يكن هماً من همومه أن يتابع مصير بطليه. كان همه أن يقرأ الوضع الاجتماعي الإيطالي في زمن تحقيق الفيلم: إنها قراءة للحاضر على ضوء الماضي. وما نجاح الفيلم - وبالتالي مهاجمته العنيفة قولاً وفعلاً من جانب الفاشيين الجدد - سوى إشارة الى أنه حقق هدفه، إذ خلق وعياً تاريخياً بما حدث واستنفر الوعي الشعبي العام ضد ما قد يحدث من جديد. أما دينو ريزي، الذي رحل عن عالمنا عام 2008، عن 92 عاماً، فإنه عُرف بسينماه التي تعتمد في بناء الشخصيات على الدراسة السيكولوجية العميقة لها - فهو بدأ حياته العملية راغباً في أن يكون محللاً نفسياً -، ومن هنا ما يتميز به «المسيرة إلى روما» من اشتغال على التطور العميق سيكولوجياً لشخصيتيه الرئيسيتين. ومن أبرز أفلام ريزي الأخرى: «الوحوش» و «فقراء لكنهم فائقو الجمال» و «زوجة الكاهن» و «عطر المرأة» و «غرفة الأسقف»... [email protected]