إلى هذه اللحظة تشير كل الأخبار القادمة من دمشق وتل أبيب إلى أن المفاوضات السورية - الإسرائيلية المباشرة على وشك الإنطلاق، وأن القضايا الكبرى تم قطع مسافات مهمة في الاتفاق عليها الأمن، الحدود، المياه، والتطبيع. وإلى هذه اللحظة أيضاً تشير أخبار كثيرة قادمة من طهران وعواصم غربية إلى قرب الاتفاق على صفقة متكاملة بين إيران و"القوى الكبرى"تشمل الملفات الخلافية الأهم والأكثر حساسية، وعلى رأسها ملف إيران النووي، ودور ايران في العراق، ودعمها المتواصل ل"حزب الله"و"حماس"، والموقف من إسرائيل. الأجندة السورية في تلك المفاوضات هي قُطرية بحتة تريد تحقيق أهداف سورية، وتترك خلفها كل الشعارات والبلاغة الخطابية حول المقاومة بشكل عام أو"الإصرار"على تحقيق أهدافها في فلسطين. الإشارات الوحيدة في هذا الصدد سلبية من ناحية تلك المقاومة إذ أن تمثيلها في سورية والدعم الذي تحظى به هناك سوف يتوقفان نتيجة تلك المفاوضات. الأجندة الإيرانية أيضاً، في مفاوضاتها الحالية مع الدول الكبرى، تركز على الوصول إلى صيغة توافقية بشأن الملف النووي، مقابل توقف التدخل الإيراني في الملفات العراقية واللبنانية والفلسطينية - أي أن"المقاومة في فلسطين"ستكون احدى الضحايا مرة أخرى. إذ ليس هناك أية دلائل تشير إلى أن الإيرانيين يضعون القضية الفلسطينية وأهداف المقاومة الفلسطينية على رأس جدول أولوياتهم. بل العكس هو الصحيح: الابتعاد عن ذلك الملف وايقاف الدعم. وأكثر من ذلك يشير بعض الأخبار إلى أن أحد"أوراق"الضغط التي تستخدمها طهران في المفاوضات هي تصريحات الرئيس الإيراني عن"محو إسرائيل عن الخريطة"و"إنكار الهولوكوست". إيران مستعدة لايقاف هذه التصريحات كجزء من صفقة شاملة تحقق فيها أهدافا محددة ومعينة لها علاقة بوضع إيران الإقليمي وبنفوذها الاستراتيجي وسوى ذلك. من لا يرى في جوهر السياسة الإيرانية المصلحة القومية الإيرانية كبوصلة أساسية وربما وحيدة قد يحتاج نظره إلى فحص طبي. هل معنى ذلك أن خطاب"المقاومة والممانعة"السوري - الإيراني هو في طريقه إلى النهاية؟ يعتمد ذلك على ما سينتج عن المفاوضات القائمة الآن وما إن كانت ستحقق الأجندات الخاصة بكل من البلدين على حدة. لكن ما ليس بحاجة إلى حيرة أو تعقل هو إدراك الدرس الكلاسيكي في السياسة، والذي تمتنع أحياناً بعض الحركات السياسية والثورية عن استيعابه، وهو التوظيف السياسي لخطاب المقاومة. فما تريد أن تحققه سورية وايران من خطاب"المقاومة"الذي تتبنيانه هو أهداف سياسية محددة خاصة بمصالح كل نظام، وليست هناك أوهام كبيرة إزاء كون"المقاومة"ورقة مساومة عند النظامين، الغاية منها التوظيف والمقايضة على طاولة المفاوضات آجلا أم عاجلاً. تختلف هذه الأهداف الواضحة والمحددة عن تلك الأهداف التي تريد أن تحققها"المقاومة"المُتبناة من قبل الأحزاب والتنظيمات الإسلامية وغير الإسلامية، وبخاصة حركة"حماس". فهي تعلن أنها تريد أن تستخدم المقاومة لطرد الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي المحتلة وإجباره على الرضوخ للحقوق الفلسطينية. وهذا الهدف ليس ضاغطاً على اهتمامات السوريين والايرانيين، او على الاقل لا يحتل أولوية حقيقية عندهما. والذي يحصل هنا اليوم حيث تفترق الأهداف النهائية بين"الدول الثورية"و"المنظمات الثورية"كان قد حصل نظيره تماماً في حقب زمنية سابقة تحالفت فيها أحزاب وتنظيمات يسارية وثورية مع أنظمة ذات ايديولوجيا مشابهة. وفيما كانت عين تلك الأنظمة العراق، سورية، مصر الناصرية، ليبيا... لا تغيب للحظة عن مصالحها الخاصة، والتي كانت غالباً بقاء واستقرار نظام الحكم، كانت الأحزاب والتنظيمات الثورية تأخذ المسألة بجدية كاملة وتنطلق في برامجها وأحلامها إن لم نقل أوهامها إلى آخر الشوط. ثم يحدث أن تأتي اللحظة القاسية التي تنتهي فيها تلك اللعبة حين يتخلى النظام عن"ثوريته"استجابة لاشتراطات السياسة الضاغطة الدولية والإقليمية أو لأنه حقق جزءا من أهدافه، ثم يقطع الحبل مع الأحزاب التي تكون قد توغلت في التسيّس الايديولوجي وترسيم أهداف غائية يصبح مجرد نطقها وتردادها مدعاة للتندر. ولعل قصة تخلي النظام الليبي خلال السنوات القليلة الماضية عن عشرات المنظمات الثورية مقابل ضمان بقائه في الحكم ما زالت طازجة. كل تلك الدروس تحتاج إلى تأمل من قبل حركات المقاومة اليوم وبخاصة حركة"حماس". سيقول قائل هنا إن ليست ثمة مشكلة في اختلاف الأهداف ما دام هناك التقاء ظرفي في المصلحة وهناك تبادل خدمات ومصالح بين دول"الممانعة"خدمت وتخدم"حماس"والقضية الفلسطينية. و"حماس"مثلها مثل بقية التنظيمات والأحزاب تواجه أوضاعاً إقليمية شبه مقفلة وهي ليست بالسذاجة التي يفترضها البعض إذ تعلم حدود الدعم ومصالح الأنظمة الخاصة وراءه. لكنها تستغله أيضاً لتحقيق أهدافها هي في المقاومة. وهذا الدفاع من ناحية نظرية دفاع صحيح لكنه لا يصمد أمام الاختبار على أرض الواقع وقياس ما أنجزته"المقاومة"على الأرض، هذا من دون نقاش أثر رفع السقف البلاغي الذي قامت به إيران على خطاب"حماس"، وما سيحدث غدا عندما تتخلى إيران عن ذلك السقف تاركة"حماس"مقيدة به. خلال سنوات ازدهار المقاومة لم تهزم إسرائيل ولم تتحطم ولم تبدأ في مسيرة الزوال كما يكرر بعض مؤسسي خطابات الوهم حالياً. على العكس تشير الحقائق على الأرض إلى ما يلي: باستخدامها مسوغ المقاومة وزعم انها مهددة في أمنها ووجودها استطاعت إسرائيل أن تفلت ببناء جدار العزل العنصري من دون رفض دولي حقيقي، وتمثل فكرة بناء هذا الجدار بحد ذاتها تحدياً خرافياً لكل القيم التي تنادي بها البشرية اليوم. لكن بسبب طيش المقاومة وانفلاتها من حدود السياسة إلى حدود الثأر ورد الفعل و"شفاء الغليل"تدثر الجدار تحت أرتال التغطيات الإعلامية الهائلة للعمليات الانتحارية مما أوجد مبرراً كبيراً لبنائه وهو فكرة صهيونية قديمة على أية حال، واوجد تفهماً عالمياً ل"ضرورته الأمنية". وبالتوازي مع الجدار استمر توسيع الاستيطان بحيث أصبح حجم المستوطنات في الضفة الغربية وعدد سكانها ثلاثة أضعاف ما كانوا عليه يوم التوقيع على اتفاق أوسلو عام 1994. وعوض أن يكون الاستيطان هو القضية الأهم لأنه يقضي على أي مستقبل للدولة الفلسطينية فإن القضية الأهم كانت"المقاومة"متمثلة بالعمليات الانتحارية، أي أنها كانت تقفز فوق المستوطنات، وهي الهدف الذي يمكن أن يتفهمه العالم، لتضرب مدنيين في المدن الإسرائيلية نفسها. وخلال ذلك أيضاً كان تهويد القدس ومحاصرتها وتهجير المقدسيين ومطاردتهم بالهوية والسكن مستمراً على قدم وساق. معنى ذلك باختصار أن المشروع الاحتلالي تفاقم خلال عصر المقاومة. ولا يقلل من هذه الحقيقة كثيرا الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، على أهميته ومغزاه الكبير، لكننا نعرف جميعاً أن القطاع لم يكن في أي فترة من الفترات جزءاً عضوياً راسخاً في المشروع الاحتلالي واستراتيجيته. والنهاية الحالية للانسحاب من القطاع بسيطرة"حماس"المطلقة عليه مقابل سيطرة"فتح"على الضفة الغربية تشير إلى أن ذلك الانسحاب قاد إلى تفتيت الفلسطينيين ولم يكن خطوة واثقة باتجاه تحقيق حقوقهم. فالقطاع ظل سجناً كبيراً، خرج السجان من ردهات الزنازين ووقف على بواباتها الخارجية. لكن لا يجب أن يفهم هنا أن تكريس المشروع الاحتلالي سببه المقاومة وحسب، بل التطرف الإسرائيلي يقع في قلب تلك الأسباب أيضاً. وفلسطينيا أيضاً لم يكن لسياسات السلطة الفلسطينية إلا أن تتضامن في فشلها مع فشل المقاومة وتنافسها فيه أيضاً. لكن ماذا كان يتم وراء المشروع الاحتلالي، أي على مستوى إسرائيل كدولة؟ خلال سنوات"ازدهار المقاومة"نفسها، أو في خلاصاتها كما هي الآن، إسرائيل اليوم تتمتع بنمو اقتصادي يناهز 6 في المئة، وبنسبة بطالة تعتبر من الأقل في العالم 6,5 في المئة، وهي الدولة الأولى في العالم من ناحية عدد براءات الاختراع وحجم البحوث العلمية المنشورة نسبة إلى عدد السكان، وعدد الفقراء في تراجع مستمر، وتحتل الرتبة ال23 في تصنيف دول العالم كلها من ناحية النمو المستديم في تقارير التنمية للأمم المتحدة، وتعتبر الثانية بعد وادي السيليكون في الولاياتالمتحدة في صناعات الكومبيوتر، وتزدهر فيها صناعة السينما بشكل ملفت، ويصل معدل دخل الفرد سنويا إلى 29 ألف دولار، أي أكثر من عشرة أضعاف نظيره الفلسطيني في الضفة الغربية، وعشرين ضعفاً مقارنة مع دخل الفلسطيني في قطاع غزة، وتوقع عمر الفرد عند الوفاة أعلى من نظيره في الدول المتقدمة بما فيها الولاياتالمتحدة وألمانيا وفرنسا. وإسرائيل هي الدولة الأولى في العالم لناحية عدد المتاحف بالنسبة الى عدد السكان، ونسبة 41 في المئة من الإسرائيليين يرتادون المسرح بشكل منتظم بما يشير إلى راحة المجتمع وشعورة بالثقة بالنفس رغم المشروع الاحتلالي والمقاومة!. في إسرائيل وبين اليهود فقط هناك ديموقراطية حقيقية حيث يتمتع القضاء بسلطة كبيرة يجلب من خلالها رؤساء إسرائيل ورؤساء وزاراتها الى المحاكمة واحداً بعد الآخر في قضايا فساد تعتبر سخيفة إذا قورنت بما يحدث في البلدان العربية وحكوماتها. لكن الشيء المدمر لإسرائيل والمعاكس لكل تلك الصورة المستريحة هو أنها دولة عنصرية واحتلالية. ومع ذلك تنجح إسرائيل في استثمار"المقاومة والأمن"للإفلات من تلك الصورة المزدوجة، ولتركز داخلياً على بناء دولة ومجتمع متقدمين وراسخين. كل ذلك تحت غطاء إقناع العالم بأنها مهددة أمنياً ووجودياً بسبب إحاطتها بمشاريع المقاومة من كل جانب:"حماس"من الجنوب،"حزب الله"وسورية من الشمال، وإيران من كل مكان. تُرى ماذا يحدث لو انفض غبار المقاومة بعض الشيء، أو تحولت استراتيجية هذه المقاومة جوهرياً لتصبح"مقاومة سلمية"تعري الصورة المزدوجة لإسرائيل العنصرية والمتقدمة، وتقلب كل الادعاءات وتفكك كل المسوغات، حتى يظهر الوضع العنصري والاحتلالي على حقيقته من دون مسوغات امنية: أليست تلك مقاومة أفعل؟ * كاتب واكاديمي اردني فلسطيني - جامعة كامبردج